قالت لي صديقتي العزيزة عبلة الرويني أنني كتومة لكنها قالت أيضا: أنا مثلك لست صديقة عميقة في تفاصيل الحياة اليومية لحلمي سالم. إذن ليست فكرة الكتمان هي التي تقف أمام العلاقة الوطيدة بيننا إنما أظن أنني كنت في التفاصيل الأساسية ومفاصل الحياة العميقة بحكم كوني ابنة هذا الواقع الثقافي الذي نشأت فيه ومن خلاله صديقة صدوقة لهم بالمعني الأكبر صديقة شعرهم ومحبتهم وبعض من مفاصل حياتهم الأساسية لست صديقة يومية لحلمي ولا لجيل بالمعني المتعارف عليه ولا بأحد آخر ولا عبلة أيضا أو حلمي أو كل الأصدقاء لأننا نشأنا بمحاذاة الأجيال كلها وبمحاذاة المثقفين كلهم وكلهن كنا عصبة واحدة من الكون لكنها تشع نورها علي مساحات كبيرة بمعني أننا نقترب كثيرا وعميقا لكن لا نقترب في اليومي نقترب في الشعري والثقافي العام ربما..أليست هي تلك العلاقة التي تتسم أنها بموازاة الحياة تتداخل فقط في لحظات مفصلية وحقيقة؟ أسأل وأنا مدركة لمعني الصداقة بمعناها الحرفي لكنها تتنوع بحكم التكوين والمحبة والنسيج العلائقي أيضا لذا فإن حلمي سالم لم يكن صديقا بهذا المعني رغم أنه الأول الذي عرفته من جيل السبعينات لحظة دخولي الجامعة أدخلها وأنا محملة بأشعار قديمة تصل إلي محمود درويش وتقف وكنت أبحث عن شكل آخر يحتوي ما أكتبه ولا أعتبره شعرا عرفني عليه بعض الأصدقاء في كافتيريا كلية الاقتصاد والعلوم السياسية واعطوني بعض إصداراتهم كان ذلك في عام 79 وهو الذي كتب عن ديواني الأول دون أن يخبرني بل فوجئت به وهو يحمل المجلة لي آنذاك. حلمي سالم الذي زرته في ولادة ابنته الأولي لميس والتي حضرت زواجها أيضا وكنت أقف أمام بيته في ولادة ابنته رنيم وذهبت معه والأصدقاء إلي المستشفي وكنت ممن دخلوا كل بيوتاته التي تنقل فيها وحضرت كثيراً من لقاءات إضاءة كمستمعة لها عنده أو عند الصديق جمال القصاص وكنت قريبة لحظة وفاة والدته ولحظة دخوله المستشفي مصابا بالجلطة... أذكر أنني كنت قادمة من الإمارات ليلا اتصل بي صديق أخبرني أنهم في المستشفي فما وجدت نفسي إلا بينهم ولم أستطع الاقتراب من مشفاه الأخير لعدم قدرتي علي السير لكنني كنت قريبة من الهاتف أكثر من ليلة أتحدث إليه وأسمع خوفه ونحيبه الداخلي وارتباكه رغم رباطة جأشه إلي أن دخل العملية ومع ذلك ورغم قربي من عائلته وصديقة لصديقاته جميعهن تقريبا لكوننا في وسط ثقافي واحد لكن تظل العائلة بالنسبة لي هي شجرة حلمي الأساسية والتي اعتز بصداقاتي داخلها لا أدعي أنني صديقة حلمي سالم. توسيع فكرة الشعر ولأنني أظن أن حلمي كان يحب الشعر في كل تجاربه الإنسانية حيث كانت ضمن فكرة الاكتشاف والشعر أساسا والثقافة عموما. هو يبحث عن توسيع فكرة الشعر لديه، يبحث عن رفيقة شعر معه، يبحث عن اكتمال لا يجده وتجديد يحاوله وموسيقي ينشغل بها... وإن كانت كلها تصل لعلاقات انسانية خالصة، واكتشافات لحالات عميقة وأزعم أنه ربما كل تلك العلاقات لم يخرج منها سليما معافي بل إنه خرج منها بمحبة غامرة من الطرف الآخر حتي بعد انفصاله وأزعم أيضا أن كل هذا شكل شعرية حلمي سالم بنوع من الشفافية والرومانتيكية والشغف وعجنتها جميعها في لوعة واحدة هي بحثه الدؤوب عن التجديد والخصوصية. الوحيد الذي تجربته مفتوحة ليس فقط علي التجارب الاخري التي ينهل منها لكنه يوسع تجربته من خلال الحياة لا من خلال المنجز الشعري والقاموسي فقط بل مثلا استعان بالمرأة لكنها المرأة المثقفة القارئة المنتجة لذا اضافت له في الشعر والتجربة هو يعيش معها تجربة تكتب وتضيف ويكتشف معها الاخر المختلف ربما استطاع ان يضيف الحياة لحياته بمعني اكثر انه يعيش اكثر من حياة وان كانت كلها تصب في فكرة واحدة ..الشعر لغته علي سبيل المثال لغة تجريب تحاول دائما أن تدخل الموسيقي من خلال اللفظ المنغم لا من خلال فقط البحث عن الغرائبي أو اليومي أو الحياتي لكنه كان أيضا يحاول أن يضم من خلال تجارب الآخرين ما يوسع تجربته فأري مثلا أن شرفة ليلي مراد (والتي كنت قد اخرجتها في إبداع بتلك الصورة) هي مكتوبة وفي ذهنه لوحة عادل السيوي التي أثرت بنفس حلمي الذي يعشقها ويعشق أغنيات ذلك الزمن الجميل فهو تأثر بالفن التشكيلي والموسيقي والزمن الآخر مما جعله يكتبها لكن بطريقة جديدة ومختلفة. كما أن خروجه لبيروت وقبرص ومعرفته بصداقات عربية من جيله والجيل السابق واللاحق ما جعله متسعا في الأفق، أريحيا في التقبل، متقبلا لحالات مختلفة عنه، راغبا في التدفق الشعري، المحاول للمغامرة فحلمي مغامر في الحياة والحب كما هو مغامر في الكتابة يكتب عن اليومي والصوفي والثقافوي في نفس الوقت . تجاربه الحياتية هذه جعلته ذا طبقات متعددة في الخبرات الحياتية والشعرية والواقع الثقافي... مابين الشعر والصحافة الحزبية (وإن كانت تحت شعار الشعر)... مابين مؤسسة الزواج والشاعر المتناثر في الحياة الإنسانية بكل تفاصيلها... مابين المرض وشرب كأس الحياة لآخره... مابين الداخل بتفاصيله الصغيرة وعلاقاته الواسعة بالخارج كل ذلك كان عاملا في بحثه الدؤوب هذا بل نجده واضحا في انتقالاته مابين الدواوين وعدم الثبات علي منطقة واحدة فهو يكتب في بداياته عن الأبيض المتوسط لا كما يكتب في الشيخ، وهو يكتب في ارفع رأسك عالية لا كما يكتب في سراب التريكو، ومابينهما من دواوين تخط سيرته مثل جلطة الدماغ أو .....البائية والحائي أو سيدة النبع ومثلما تتشكل تجربته من مجموع هذه الدواوين فهو يكتب عن ليلي مراد كما يكتب عن السيدة رئيس الديوان، ويكتب عن بيروت وحبيبته والمرض كما يكتب عن زاهية، والذي يكتب عن فقه اللذة ثم يكتب عن الغرام المسلح وشتان بين العنوانين أساسا. صوت سالم قصائد ضاجة بالصوت والحياة والإنفعالات التي لا محالة ستصيب صاحبها بجلطة وكيف لا وهو الذي يكتب من القلب والأعصاب مباشرة وكأن كتابته تنبض بدلا عنه أذكره حين يكتب قصيدة جديدة فيمر علي أصدقائه ليقرأها لهم كلهم أو يذهب لإدوارد الخراط ليسمعها إياه وإن كان في بيته يجلس ويقرفص ويدخل في جسده حتي لا تكاد تراه ولا تسمع إلا ذلك الصوت الجهور وكم تساءلت عن مدي علاقة الصوت بالقصيدة؟ قصيدة حلمي سالم تحمل صوته هو... تسمعها وهو يقرأ فلا تستطيع أن تفصلهما عن بعضهما لذا كانت خاصة به بصوته ووقفاته كما كان محمود درويش حين تقرأ أية قصيدة له تسمعه من خلالها، ولا أقارن هنا لكن الحديث يستجلب المبدعين دائما. حلمي سالم المغرد بلا سرب وهو ابن أسراب عديدة منها إضاءة، وأدب ونقد، وجماعة السبعينات، وقصيدة التفعيلة في البدايات،والنثر، وابن الشعر الذي ذهب به بعيدا عن غصة الحياة المؤطرة تلك إلي براح واسع فكما يقول خصائص الشعر يضعها بشر، وما وضعه بشر يغيره بشر آخرون أما قصيدته الأخيرة إرفع رأسك عالية أنت المصري فكلما سمعتها أجدها النشيد القومي لمرحلة الثورة واحتفاء حلمي بكمال قصيدته بعد أن تداخلت كل معجونات الثقافة فيها وفيه وبعد أن استهان بالمباشر السياسي يضع تصالحا بينه وبين ذلك المباشر والسياسي الأصيل بهذه القصيدة التي افتخر بكونها قصيدة مباشرة عن الثورة واندماجا حقيقيا مع ما يقال يوميا من هتافات عامية في لحظات الثورة ولذا أصر أن يضع خطأ لغويا لكنه جد قريب من لحظة هذه الأمة وهو ارفع رأسك عالية أنت المصري...أليس هو القائل ذلك أنني في سنوات السبعينات كنت مع كثير من أبناء جيلي أري أن شعر دنقل شعر مباشر زاعق لا يعيش، ومع اتساع رؤيتنا الشعرية في سنوات الثمانينات تعدل هذا الرأي المجحف، إذ تكشف لنا ان الشعر الواضح ذا الموقف السياسي الجلي ليس شرا في كل حال، وان شعر دنقل لم يكن كله مباشرا، وأنه يقيم تضافرا مركبا بين الموقف الفكري والتشكيل الجمالي، وان قصائده في سنواته الأخيرة (ديوان: أوراق الغرفة رقم8) بلغت من الصفاء الفني والإنساني مبلغا رفيعا، وأن الشعر عديد وكثير وليس له نبع واحد وحيد أوحد. زبرجدة هل كان يمكنني أن أعبر عن ذلك التحول بالشعر، مثلما فعلت بالنثر؟ لعل ذلك كان صعبا، ولعله كان ممكنا لكنني جفلت، فلم أقدر علي ما قدر عليه رفيقي حسن طلب، حينما أقام قصيدته زبرجدة الي أمل دنقل التي كتبها أثناء مرض أمل لا بعد رحيله علي تساجل وجهتين في الشعر: وجهة تري ان القريض فيوض الجلال ومطلق آياته وغموض الجمال إذا شف عن ذاته، انه كالزبرجد في الرونق المحض، أو كالبنفسج في الروض، وهو الرياضة والمستراض ووجهة تري ان القريض اعتراض وكلام من القلب يجنح للشعب وصاحبها هو القناص وآلته الاشصاص، وشاعرها يمتاز علي أقرانه بحاجة مباحة وديباحة مبيحة فهو واحد الندي إذ يرق لواحد القريحة ومع ذلك كتب حلمي في المباشر الجميل الذي يقطر شعرا آخاذا وموسيقي منتظمة في قصيدة ارفع رأسك عالية أنت المصري: ارفع رأسك عالية أنت المصري الضاربُ في جذر الماضي والعصري خالق أديان المعمورة ، مكتشف الهندسة ، ومبتكر الري صاحب درس التحنيط ، ومبتدئ الرقص وخلاط القدسية بالبشري ارفع رأسك عالية أنت المصري الصامت صبرا لا إذعانا بل تطويل للحبل الشانق كل بغي لاجُرْتَ علي جار لا لوثت مياه النيل ولا أنكرت نبي أنتَ موحد شطرين وواصل شطين وجامع أشلاء فتاك علي دلتا النهرين ونساج الظلمة بالضي المصري الذي خرج ذات ليلة من تحت دثار أمه زاهية ليدخل إلي دفء لحظته في لحظة الثورة المصرية ذات يوم وهو يصرخ ارفع راسك فوق انت مصري فمن منا لم يقلها لحظة الثورة رافعا علمها فوق هامته، من منا لم يرددها آنذاك. وهو الذي يأتي من قرية الراهب ليتهم في قصيدته بالزندقة هو الذي يجالس الأجيال السابقة واللاحقة بل ويفتح قلبه ومحبته لهم وإن هاجموه أو هاجموا جيله ولذا لا يختلف اثنان علي مدي سماحته وتسامحه ألم يكن هو الذي كتب كتابا باسم الحداثة أخت التسامح. الكون كأنه لغة لا تستطيع أن تكتب كتابة واحدة عنه إذ أنه عاش في كثير من