مذهل، مزلزل، طاغي الأثر، ذلك الحدث الهائل الذي غير وجه العالم، وبدل ملامح منطقتنا بأسرها، سويعات بل دقائق نقلت الدنيا علي جسورها من مهاوي الانكسار إلي ذري الكرامة، حيث توقف ركب الزمن ليرمق المصريين وهم يغيرون مجري التاريخ علي متن العابرين إلي الضفة الأخري، هؤلاء المقاتلون الأشداء الذين حملوا مصائر الأجيال، فوق أكتافهم إلي جوار المدافع والدانات، دقائق فاصلة صاغها الأبطال من ماسات الأرواح وعناقيد الدماء، لينظموا ملحمة الانتصارات في ساعات مشهودة مرموقة، غزلت حاضرًا مختلفًا، ونسجت عمرًا آخر للأوطان، لأن دقائق العبور، وساعات الانتصار وأيام الظفر والفخار، لم تكن قفزات في الفراغ، ووثبات في المجهول، وإنما خطوات جادة مسئولة ومبدعة في آن معًا. الحقيقة التي يحاول تتبع ملامحها هذا التحقيق هو أن أبطال ذلك الوطن العظيم وشهداءه، والمضحين دائمًا من أجله هم نسيج فريد في بني الإنسان، تلتمع أصالة معدنه كالشموس في الأيام الصافية التي لا تعرف الغيوم، وهم مشرقون في الأفق دومًا أمس واليوم وفي الغد، لن يغيبوا أبدًا بإذن الله، حيث تتواصل أفواج العابرين إلي الانتصارات علي متن الإخلاص والتضحية من جيل إلي آخر، لا يتوقفون ولا يضرهم من خذلهم، فالذين حشدوا الانتصارات في سيناء بالأمس أنجبوا أبناء وأحفادًا، يبذلون اليوم الغالي والثمين من أجل أن تظل الأرض المحررة بدماء آبائهم وأجدادهم حرة أبية لا تدنسها أقدام خونة أو محتلين، وهكذا تتواصل مواكب التضحيات وأفواج الشهداء من الأجداد إلي الآباء إلي الأبناء ثم الأحفاد ملحمة تمتد من القديم لتسطع في حروب الاستنزاف، ومعارك أكتوبر 1973، وتتواصل اليوم في مواجهة الإرهاب في سيناء، كيف يري المفكرون والأدباء امتداد جسور العبور من أجيال إلي أجبال؟ وكيف تخلد النصوص والأعمال ذلك المعني المذهل الذي تهتز له الأفئدة، وتخفق له القلوب؟ الكفاح العسكري في البداية يقول الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة: هناك جناحان للإبقاء علي سيناء، الأول هو هذا الكفاح العسكري الذي يقوم به الجيش المصري مع الشرطة المصرية أيضًا، وتدفع مصر من هذا الكفاح ثمنًا غاليًا من دماء أبنائها، وكل هذا من أجل الإبقاء علي سيناء التي ظلت متعبة منذ سنوات عديدة بعد عام »1967» ولم يكن هناك اندماج حقيقي، ولطالما كان أهل سيناء يشعرون بالغربة عن بلادهم، أما الجناح الثاني فهو التنمية، أي دمج سيناء في الوادي دمجًا مباشرًا وعضويًا، واقتصادياً واجتماعياً وثقافيًا، والتنمية هي التي تخلق الولاء عند أبناء سيناء، وكل هذا يحتاج إلي صورة باقية لهذا الذي يحدث، وهذه الصورة الباقية هي الإبداع الأدبي والفني بكل أشكاله، والاهتمام بأجيال الشباب الجديدة من أهالي سيناء، أما فيما يتعلق بالجانب الإبداعي فأظن أن حرب »73» قد وجدت مساحة فسيحة من التعبير الأدبي والفني في أعمال الأجيال التي كانت حاضرة من المبدعين، وعدد كبير من هؤلاء شاركوا في هذه الحرب وعبروا عن هذه المشاركة في قصائد وروايات وقصص قصيرة وكتابات توثيقية وتسجيلية، ولكن نحتاج إلي تمهيد لهذه الإبداعات لمزيد من الانتشار، ولعرض هذه الأعمال علي أهل سيناء لكي يروا أنفسهم في هذا الإبداع الذي كتب عن سيناء، فهي ليست مجرد أرض ورمل وموارد اقتصادية، ولكنها بشر وأثر لابد أن يتجسد هذا في الإبداع الأدبي والفني، وقد قدمت السينما والفن التشكيلي إبداعًا في هذا المجال، وكذلك الشعر خاصة في الجانب الغنائي، عكست بهجة المصريين بانتصار السادس من أكتوبر، وهذه الحرب التي انتزعت حقنا من براثن الاحتلال الإسرائيلي، وعلي الأجيال الجديدة أن تعي الدور الذي قامت به مصر بعد »67» من أجل بناء الجيش، والدماء التي سفحت فوق أرض سيناء، وفي رأيي أن أهم شيء في هذه المنظومة هو الاهتمام بشعب سيناء أولًا بالبحث عن إبداعاتهم هم، والبحث في واقعهم وبطولاتهم، ولابد أن نفتش داخل جوانب الشعب في سيناء وتبديد الغربة التي شعر بها لفترة طويلة. تحيا مصر أما الشاعرة عزة بدر فتقول: منذ تلك الحربة التي شجت رأس جدنا الفرعوني »سقنن رع» وهو يدافع عن بلادنا ضد الهكسوس، وأنا أستشعرها في رأسي، رأيته راقدًا في سلام في المتحف المصري لكن قلبه دائمًا يخفق في قلبي فهتف معًا: تحيا مصر، منذ كتب نجيب محفوظ أعماله الأولي عن انتصارات مصر وتاريخها الفرعوني في رواياته ومنها:»رادوبيس وكفاح طيبة»، وكل شيء في ذاكرتي يورق ويزهر برحيق الإبداع وكفاح الأجداد، منذ تغني صلاح عبد الصبور بانتصارات أكتوبر، وأهدي قصيدته »إلي أول» (وقد وقفت علي قدمين، لترفع في المدي علمًا ، يحلق في مدار الشمس، حد الوجه مبتسمًا). وأنا أتساءل لماذا لا ينشد هذا الشعر في طابور المدارس ويتغني به الطلاب كل صباح؟ لماذا لا يتحول الشعر إلي قسم لنقسم كل صباح: قل لنا يا علم، افتدوني، نحبك نعم، نحبك نعم.. قصيدة كتبها أحمد عبد المعطي حجازي لعلم القنطرة شرف في أكتوبر العظيم.. لتتنفس قلوبنا روح النصر نتمثلها في كل ما نفعل، في كل ما نأمل من جد واجتهاد وعمل، لماذا لا يتحول نشيد الإنشاد الذي كتبه الجندي الشاعر حسن النجار لسيناء إلي »أيقونة» في الميادين العامة في بهو الحدائق: كان انتظارك لي جمرة، وانتظاري الجواد، قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي، لأن الشتاء قد مضي والمطر زال، الزهور ظهرت في الأرض، وأخيرًا لماذا لا تتردد أغنيتنا الوطنية في محطات »المترو» فتشد العزم وتزكي الهمة؟. كلمات الأبنودي وغناء حليم: أحلف بسماها وبترابها، أحلف بدروبها وأبوابها، أحلف بالقمح وبالمصنع، بولادي، بأيامي الجاية ما تغيب الشمس العربية طول ما أنا عايش فوق الدنيا، ليصبح حب الوطن قضية يومية، وبلوغ أعلي مراتبه أمنية كل مواطن والتفاني في خدمته أمل كل مواطنيه. ويقول الشاعر السينائي سالم الشهباني: لابد أن يكون علي أرض سيناء تنمية حقيقية بمعني تنمية الوعي الثقافي، أي لابد أن تكون من خلال فتح المجال لأدباء ومبدعي سيناء لكي يشاهد إبداعهم، وموروثهم الثقافي وعن طريق مؤتمرات حقيقية تقدم وعيًا حقيقيًا، ثم: لماذا طوال الوقت نحضر مبدعين في سيناء ليتحدثوا عنها، سيناء مليئة بالأدباء والمبدعين الذين يعبرون عن شعبها وناسها، وأهالي سيناء أدري بشعبها كما يقولون، ويضيف: سيناء شمالها وجنوبها تمتلك ميراثًا كبيرًا جداً من الأدب والفن، لابد من فتح »بؤر» تنوير من خلال قصور الثقافة الموجودة، بأرض نقيم عليها حفلات لدعم الجيش وتوعية الناس بقضية سيناء، أما بالنسبة إلي القادم فيجب تخليد كل الشهداء سواء كانوا من الأهالي أو الجيش، ويكتب عنهم بشرف ونزاهة من خلال قاموس موسوعي كبير. أدب الحرب ويقول الأديب هيدرا جرجس: بالفعل كانت هناك سلسلة عن »أدب الحرب» كما أن هناك أدباء كثيرين شاركوا في الحرب وكتبوا عنها، والمسألة علي المستوي الأدبي ليست مهملة، أي أن حرب أكتوبر لها كم هائل من خلال الذين شاركوا فيها، وحتي الذين لم يشاركوا المطلوب الآن استغلال هذه النصوص من خلال استخدام تعبير »أدب الحرب» وهو ليس موجودًا لدينا فقط بل هو موجود في العالم أيضًا، الحرب عملية جنونية، فالإنسان يفقد فيها إنسانيته بالكامل، وأبعادها عميقة، وهذا الذي يولد الإحساس الفني الذي أكتب به، والأعمال الإبداعية والسينمائية التي قدمت عن الحرب العالمية الثانية لا تحصي ولا تعد بسبب آثارها البشعة علي الفكر البشري والحضارة الإنسانية منذ بدأ التاريخ حتي الآن، حرب أكتوبر لم يكن فيها هذه البشاعة علي المستوي الإنساني، لقد كانت حرب نصر وكرامة واسترداد وطن، بالنسبة إلي ما يدور الآن علي أرض »سيناء» هناك تواصل من حيث فعل الجهاد في سبيل الوطن، ولكننا الآن في حاجة إلي معلومات، لما يحدث ونحن في حاجة إلي معرفة معلومات عن شهدائنا كي نقوم بتوثيقها.