في عام 1954 كتب أوجين يونسكو ( 1912- 1994) مسرحية »أميدي أو كيف سنتخلص منه» Amédée ou comment s'en débarrasser، تتناول حياة زوجين، أميدي ومادلين، يعيشان منذ خمسة عشر عامًا خارج غرفة النوم، بعد أن مات حبهما، يسيطر عليهما هاجس أن سرًا ما كائن داخل غرفة النوم. لم يعد أميدي قادرًا علي الكتابة، وهي مهنته، إلي أن يأتي يوم ويبزغ ساقان من جوانب باب الغرفة ويتضح أنهما ساقان جثة. بالتوازي مع النقاش بينهما والمداولة حول »كيف سيتخلصان من الأمر» تأخذ الجثة في التضخم أكثر وأكثر إلي أن تشغل حيز غرفة النوم بالكامل وتخرج منها إلي باقي المنزل. حينها تدفعه مادلين للتصرف فيقرر أخيرًا أن يأخذ موقفًا إيجابيًا؛ يحمل الجثة ويخرج بها إلي الشارع ليتخلص منها. يسير مادي، البطل، الكاتب حاملًا الجثة الهائلة وهائمًا بلا هدف إلي ان يختفي مع حمله دون تحديد قاطع برحيله إلّا من خلال تعليقات المارة الذين رأوه يذهب ولا يعود. استخدم يونسكو غرفة النوم كمسرح لتجسيد موت الحب واستدعي مجازاً مرعباً هو الجثة للدلالة علي ما كان وما أصبح: الحب-الجثة، احتلال الجثة لغرفة النوم وغياب الحب عنها مع استمرارية الزواج خارجها. ظل موضوع »الغرفة» أو »الحجرة» يغازل خيال الكتّاب والفنانين لما تتميز به من عناصر الإثارة والشغف. فهي بهيكلها المعماري توحي بأكثر مما تحتوي وتضم أكثر مما يدركه الخيال. تكوين مادي- مجازي بامتياز؛ فالجدران تمنحنا الحماية والاختفاء عن الأعين وإمكانية تثبيت اللوحات، السقف يمنحنا الشعور بالأمان واتقاء الحرارة والمطر، بينما الباب، وهو أهم ما في الأمر فهو مرادف الفتح والغلق في آن، الولوج إلي عالمها والخروج منه، أما النافذة فهي الفسحة المسموحة نحو الطبيعة وهي الستائر الكاشفة أو المعتمة حسب مزاج ساكن الحجرة. تناول كل فنان الغرفة من وجهة نظره ومن زاوية يختارها هو حسب ما يراه إلي أن جاء يوم ذهبي في تاريخ الغرف حين قررت المؤرخة الفرنسية المعاصرة ميشيل بيرو (1928) رصد أنواع الغرف المختلفة في تناول بديع مفصّل ومستفيض، تمنح من خلاله كل ذي حق حقه وتهدي القاريء أو المهتم مرجعًا تاريخيًا موثقًا عن »تاريخ الغرف». صدر كتابها في عام 2009 عن دار نشر سوي الفرنسية، يتكون من اثني عشر فصلًا بكل فصل عشرة عناوين كبيرة في المتوسط، بين غرف الملوك وغرف الكتاب، الزنزانة والصومعة، غرفة الفندق والغرفة الزوجية، الحرملك وغرف الاستقبال وغيرها. تستهل بيرو كتابها بالفكرة الرئيسة أن العديد من الطرق تقودنا نحو الغرفة: القيلولة، التأمل، القراءة، الرب، الجنس، النوم، التفكير، التعبّد، الراحة، الحديث، الكتابة، وغيرها سواء كنا مخيرين أو مجبرين. بداية من مخاض الولادة إلي ساعات الاحتضار تمثّل الغرفة مسرح الوجود لكل إنسان، ونافذته علي اللاشعور. تنتهج بيرو طريق المزج بين جغرافية الغرفة ومحتوياتها المادية وبين شعور ساكنها وعلاقته بالمكان، فيتنوع ديكورها ومساحتها وفقًا للطبقة الاجتماعية وطبيعة العصر وذائقة ساكنها. عند طرق باب تلك الدراسة المثيرة تستقبلنا بيرو في غرفة الملك لويس الرابع عشر الموجودة حتي الآن في قصر فرساي علي أطراف باريس. لقّب لويس الرابع عشر بالملك الشمس وجعل من غرفته التي ينام فيها بمفرده، مسرحًا يعرض فيه جسده أمام العامة، عند لحظة الاستيقاظ، مستخدماً معكوسية واجب الشفافية والظهور العلني، ليدخل إلي سرية الغرفة بتفاصيلها المتعددة. هذا الامتصاص لمجتمع الرعية بأسره، وإدماجه في حيز خصوصية الملك، لا يخلو من المنطق؛ فهو نابع من اعتقاده بالحق الرباني في الحكم الديكتاتوري المطلق، والذي ظهر من خلال صورة السلطة الشمسية التي وصف بها لويس الرابع عشر حكمه وسلطته. كما يعد وصف الحجرة التي ماتت فيها الكاتبة جورج صاند (1804-1876)، صديً بعيد لمستهل الكتاب الذي تضمّن بداية اليوم ولحظات الاستيقاظ. فصاند التي كانت بمثابة رائدة الحركة النسوية قبل أن تُعرَف بشكلها المعاصر، ماتت علي الطريقة التقليدية المعروفة لنساء الطبقة الارستقراطية في ذلك العصر، حيث أحاطت العائلة بالجزء الأعلي من السرير الذي ترقد عليه صاند، لإعانتها علي الذهاب في رحلتها الأخيرة، وإبان لحظاتها الأخيرة ارتأت صاند أن تتيح للعامة مشهد موتها، وتدهورها الجسدي، بغرض إهداء هذه اللحظة الفارقة إلي مجمل ذكريات القرن الذي ولدت وماتت فيه. تري بيرو أن » نظام الغرفة يعيد إنتاج نظام العالم... فهي عنصره الجزئي»، فيما ينفي كتابها أو يتجاوز، علي الأقل، هذه العبارة العامة، عبر تتبع تعقيد ملتو لتحولات الحجرات، ليعيد رسم طريق تطورها التاريخي. كما تشير إلي رغبة المجتمعات، من قبل، في تجاهل الخصوصية التي لابد أن تتميز بها الغرفة؛ حيث عرفت جموع المزارعين الفقراء، حتي القرن العشرين، نظام الغرفة الوحيدة، التي تستخدم حجرة معيشة نهاراً، ومكاناً للنوم ليلاً. فيما أدمج الحرفيون المعيشة والعمل في مكان واحد. حتي المنازل الواسعة، بما فيها قصور العصور الوسطي، وسرايات عصر النهضة، خلت من غرف تصلح للانعزال والخصوصية الفردية. ليس إلا في بدايات القرن السابع عشر، حيث ابتكرت القصور الإنجليزية، تصميم الممرات المؤدية إلي كل غرفة، دون الحاجة إلي المرور ببقية الغرف. ومع استعراض تعددية استخدام الغرف تبعاً للطبقات الاجتماعية، والمراحل العمرية، والنوع بدقة دؤوبة، تكشف بيرو في مواضع مختلفة من الكتاب التناقض ذاته: إن ما نؤسسه باعتباره مأوي وملجأ لنا، قد يصبح مكاناً للشعور بالوحدة، وما نهرب إليه طالبين بعض العزلة بعيداَ عن نظرات ومطاردات الآخرين، من الممكن أن يتحول إلي حبس انفرادي اختياري. إنه تفحص للمجتمع من خلال هوامشه، عرض مبتكر لخبرات شخصية عادية متراكمة، يحيلنا نحو نظرة واستخدام جديدين لفضاء الحجرة الخاص، بالتوازي مع مفاهيم الذاكرة الجماعية التي نتفق ونتوافق من خلالها. مخلّصة تلك الذكريات من مخزون لاشعوري هائل ومندثر، فتضع الكاتبة إشارات حمراء تحدد بها خط السير الذي نفهم من خلاله ماهيتنا، عبر مجموع العادات التي شكلتنا وتعيننا علي تقبل حقائق حياتنا المادية.