أنفاس قط صغير تدفئ أرنبة أنفي، لسانه يداعب جفنيّ المتقرحين من أثر البكاء. أفتح عينيّ ببطء فقط لأجده يراقبني بنظرة ملتاعة قليلاً. أحاول الابتسام، التظاهر بأنني مسالم رغم طلاء الشفاة الذي يلوث شفتيّ، وظل الجفون الأزرق الذي يزيد أهدابي طولاً. أفتح فمي ثم أسارع بإغلاقه. الصوت الذي سيخرج من حنجرتي لن ينتمي لأي من جنسي هذه الأرض الضيقة. أقوم من رقدتي، أعتدل ببطء لئلا يكتنفني الصداع. ألملم المعطف الذهبي الطويل علي ساقي العاريتين إلا من شراب كولون أسود وأتنهد. لن أغادر هذا المكان إلا إذا اضطررت. أطوف بعيني فيه، برك البول الآسنة أمام الحائط المشوه برسومات طفولية، النوافذ التي تبدو كما لو نبتت من أرضية الشارع الأسمنتية، رائحة الفلافل القادمة من بعيد علي استحياء، والهواء المعبق بتعب البشر. تمر الدقائق ويهدأ طنين الأمس في رأسي. ابتسم رغماً عني ورغم الألم. كانت ليلة جميلة. بخمرها وأضوائها الزرقاء الخافتة، وأبناء عمومتي الكثيرين الذين تناثروا في كل ركن من أركان النادي الفرنسي الراقي. لم يكدر صفوها سوي رغبة المسيو في أن يخرج إلي الشارع. كان من المفترض ألا نبتعد أكثر من الزقاق الملاصق للنادي لكن يبدو أنني كنت شديد الانتشاء لدرجة نسيان هذه القاعدة المهمة. أصوات أقدام بطيئة مقتربة، أضم أطراف المعطف مخفياً جسدي وأحاول الاسترخاء. مظهري يثير الريبة ولكنني أحاول ألا أحتك بأحد. ليت الأمر بهذه السهولة، سيحاولون هم الاحتكاك بي وعند اكتشاف الحقيقة سيوسعونني ضرباً وسباباً، ربما قيدوني إلي عامود نور وتبولوا علي وجهي، أو جردوني من ملابسي واعتدوا علي مثلما حدث لسولي. سولي المسكين الذي سلخوا فروة رأسه ثم خنقوه بالشراب النيلون الذي كان يرتديه، من وقتها وأنا أخشي السير وحدي ليلاً كما أخشي التجمعات الرجالية بعيداً عن النادي الآمن. لكن اليوم مختلف، فأنا لا أعلم أين أنا ولا ماذا أتي بي إلي هنا؟ وأي أحياء الإسكندرية هذا؟ وكيف أسأل عن الطريق إلي النادي دون أن يكشف أحد سري، أو يؤذيني؟ أقرر التمرد علي محاذيري. ممسكاً بمعطفي حول جسدي أتمشي، أجد نفسي بمحاذاة البحر، أقف قليلاً أتأمل البحر الساكن وأتمني لو أن بعضاً من رذاذه يلطمني فأفيق، مازال أثر المارتيني في فمي ورأسي منذ البارحة، وجسدي ضعيف منهك، فلم أتناول سوي البسكويت المملح والشيبسي خوفاً من أن يصيبني الغثيان فأفرغ معدتي أمام العميل وتصبح ليلتي سوداء. أشعر بالملل من تأمل البحر فأسير قليلاً، يسقط شيئاً لزجاً علي وجنتي فأجفل. بيد مرتعشة أقرب أصابعي الناعمة منه وأمسك به بينما عيناي تدوران في الجهات كلها درءاً لخطر العدو. ملمس الشعيرات الملتصقة بفعل الكحل يرعبني، إنها الرموش الصناعية اللعينة ومن دونها يبدو وجهي باهتاً وأقرب لرجل منه لامرأة. ربما لو كنت أكثرت من بودرة الخدود لحُسم الأمر، فهي تخفي الآثار البسيطة العالقة من شبح ذقن كانت تحيط الفم بغلالة من الأخضر. »عايزة حاجة يا ست؟» ترتعد فرائصي وأنا أسمع هذا الصوت الفظ. بيدٍ مرتعشة أحاول لصق الرمش في مكانه دونما جدوي. »أنتي بتعملي ايه هنا باللبس المسخرة ده ولا مؤاخذة؟ بلاوي ايه دي يا ربي؟» أجد السير رغم الكعب العالي. يتعالي الصوت البذيء من ورائي يسبني بأقذع السباب ورغم أنني سمعت مثل هذا وأسوأ لكنني في هذه اللحظة أحسست بوطأة الكلمات تلسع وتدمي ظهري. خطواتي تنحرف قليلاً عن المسار المستقيم الذي كنت أسير عليه منذ بداية اليوم، الكعب يجعلها متعرجة، متلوية ومهزوزة. أشعر بالغيظ فجأة رغم أنني نادراً ما أفقد أعصابي. اليوم مختلف. أقف في مكاني، وبخفة أخلع حذائي، ضارباً كل فردة بطرف قدمي بعيداً. أشاهدهما إذ يرفعهما الهواء عالياً كالسمك الطيار، وفي تلك الثواني ما بين صعودهما وهبوطهما علي الأرض، أشعر بروحي القلقة مثلهما؛ هشة، مزعزعة، شريدة. حتي وبوصلتي موجهة دوماً نحو النادي الفرنسي، لا يفارقني الاحساس بالتيه. »في مشكلة يا آنسة؟» ألتفت في حدة جهة اليسار فقط لأراه يطل علي من خلف زجاج نافذة السيارة نصف الموارب. شعر أشقر داكن مسترسل علي العينين، أهداب طويلة وذقن نصف حليقة محيطة بشفتين حساستين. تري ماذا سيفعل لو عرف أنني مثله بالضبط أحمل بي فخذيّ قضيباً يشتعل بالحرارة في هذه اللحظة بالذات؟ »لا شكراً،» أقولها في جرأة وأنا أثبت عينيّ في عينيه. يبدو عليه الذهول لنبرة صوتي الغريبة ثم يتغير لونه وأراه يدير مقود السيارة بيديه الاثنين هارباً مني. أبتسم في تهكم وأنا أواجه طريقي الطويل علي الشط الممتد. توتري يقل تدريجياً مع ازدياد ساعات المشي. النظرات الفضولية والهمسات المقتضبة وذعر بعض الأطفال من مظهري لم يعد يقلقني، ماهي إلا انفعالات لن تصل إلي مرتبة استعمال الأيدي. أعبر الشارع في يسر، عند الرصيف المواجه للبحر تلامس قدماي الأرض المبتلة، الموحلة قليلاً. لوهلة، أقرر انتظار تاكسي لأطلب منه بكلمات ممتعضة أن يوصلني إلي النادي الفرنسي. وإذ ألقي نظرة أخيرة علي شط البحر، بنوارسه وصياديه وعابري سبيله بذيئي اللسان، يغالبني الحنين إلي السير دون هوية. دون أن أشعر تطوق أصابعي المغلفة بالكولون تراب الشارع، وأعبر الطريق، متجاهلاً العربات المزمجرة ذات الأبواق، والإشارة الخضراء الملحة علي بالتوقف، فقط لألبي نداء الهيمان.