لم أكُ قد غفوت بعد, فثمة حرارة دبقة تسري في دهليز أذنيّ كأن حلزوناً يتمدد في مجرى السمع. الكرى أرجوحة تهدهدني كبندولٍ يراقص دقيقة عرجاء تميل ذات اليمين وذات الشمال, والأجفان ستائر يداعبها نسيم الصحو, فيرفعها, والنعاس يتأرجح ممسكاً بالأهداب. دغدغة على وجهي كأن فراشة تنتقل على أطراف أصابعها توزّع الزغب الذي يكسو أرجلها على تضاريسه. أفرك وجهي بالوسادة, أشدّها على أذنيّ, أحاول النوم والهمس ينقر نوافذ جمجمتي كصنبور يبكي, ثمّ يمتد يداً تُبعد الوسادة, يقترب مني ليتحوّل صراخاً مخنوقاً نافد الصبر: -انهضي.. كيف تنامين, وأنا أعاني كل هذا البرد والقلق؟! جلست في السرير يائسة, وقد أدركتُ استحالة الإفلات منه: -دعني فأنا مرهقة. -وأنا مرهق كذلك! -إذن حاول الاستلقاء بعيداً عني, فوق الأوراق, أو قرب المصباح على الطاولة.. افعل أي شيء, لكن دعني أنم. وحيداً وقف قلمي يتعرى. نزع الغطاء بنزقٍ طفوليّ, فإذا ريشته ضفيرة أهدابٍ تتثاءب. تمطّى وراح يتململ بين يديّ. يطبع ألف قبلة على أصابعي. حين أحسّ عدم اكتراثي, أخذ يعضّها غاضباً. دفعته عني هامسةً: -لا أستطيع الكتابة الآن... فامضِ عني. -حاولي.. دعي أناملك تضمّني.. دعيني أشعر بحرارتها.. حاولي فقط. -ما الذي دهاك في هذا الوقت المتأخر؟! -أشعر بتوتر شديد, وبحرارة تكاد تصهرني. -يا لك من أناني! كم مرةً حاولتْ أصابعي أن تراقصك فوق السطور فأبيت.. أتذكر؟! كم مرةً أدرت لي ظهرك هازئاً بألمي ودمعي؟! جلس بجانبي وبدا أكثر عطفاً: -كنتِ تقسين عليّ أحياناً, تعصرين جسدي الصغير. كانت أصابعك تتحوّل رماحاً تمزقني. انتفض قليلاً وعاد صوته متّهِماً: -كنتِ تدفعين بمخيلتك الفوضوية فيّ نسغاً مرتبكاً مشوشاً, فأشعر بالوهن.. ثم أهرب.. لكني كنت دائماً صديقك الوحيد.. خازن أسرارك... -خازن أسراري!! عجباً.. بعد كلّ ما فعلتَ! بل لعلك تقف متباهياً تظن نفسك عبقرياً؟! كنتُ متعبة ورغم ذلك أبى عقلي أن يطفئ قناديله وينام, بل راح يستحضر الماضي من ذاكرةٍ بدت ساعتها صندوقاً خشبياً قديماً مهترئاً تعزف مساميره لحناً موجعاً, وتصدر عن مفاصله أزيزاً متعباً عند أقل حركة. تراقصت أمام عينيّ صفحات أفرغتُ في فضائها كلّ داخلي. تذكّرتُ ألسنة اللهيب التي كان ينفثها قلمي من فمه كتنّين مولعٍ بحصادي حرقاً, وحزمة من دموع. هذا الطفل الذي أرضعتُه دمي ففجّر في داخلي أصابع ديناميت, فتناثرت شظايا على سطح الورق كأسماك ميتة. تمرفأت دمعة على شاطئ مقلتي كقطعة من كريستال متجمد. نظرتُ إليه من خلالها, فبدا واقفاً في نهاية سرداب من دوائر ملونة. صامتاً على غير عادته يرمقني بنظرات لم أدرِ لها معنى. تجاهلته وتابعت حديثي, والمنديل في يدي يمتصّ بعض الماء المسفوح على وجهي: -كنتَ تستفز أعماقي, تدفن كلّ أحاسيسي في مقبرة جماعية. تمتدّ رصيفاً في ذاكرتي ومثل بائع متجوّل تعرض كل ألواني للفرجة, وأنت لا تدري أنّها عمر من حنين! توقفت عن الكلام, ورحت أتذكر كيف كان يسبر أغواري, ليعبث بكنوز أثيرة لديّ في كهف سرّي حولته متحفاً لعشقٍ مسافر في شراييني, حفظت في واجهاته الزجاجية كل همسة, كل لمسة, كل قبلة, كل الصور اللامرئية, وقارورة عطر حبلى بأنفاس حبيبي. كان يتسلل إلى أعصابي يطارد فراشة روحي المسافرة لتجني مسافات الندى قهوة صباحية فيرشفها, يعتّقها, يقتات وجهي, ينمو زهوراً من نار في يباسي.. يزرعني سهراً في جفون الليلز يتوّجني مليكة على عرش القلق. يغرسني حارساً على بوابة الانتظار. يعربش على سياج العمر توتاً برّياً يغرز أشواكه في النُّوى, فأغدو شفقاً نازفاً. التفت إليه ثانية: -أيّها المتباهي الصغير لقد عملت على تحويلي إلى آنية زجاجية شفافة, وسلّطت عليها أضواءك لتكشف ما في جوفها. كنت تبني كونك من خلايا جسدي, فأحسّ نفسي عاريةً! كان يرتجف غضباً. يهتزّ كورقة خريف تصارع الموت قبل سقوطها الأخير. اعتلى الطاولة وأشار بيده إلى كومة من الأوراق. -سليها أوراقك الخرساء هذه.. من علّمها البوح غيري! من حوّلها منديلاً يرقأ نزف الحزن في عينيك؟ من صاغها أذناً تنصت لهمس روحك؟ لطالما احتملت مزاجك المتقلب, عصبيتك, ضجرك.. كنت تعمدين إلى إيقاظي في أي وقت ومتى تشائين.. تمسكين بي بغير اهتمام. تنقرين مؤخرتي بأسنانك, لتعودي وتمسكي بخناقي ثانية.. وأنا أحاول لجم جماح ريشتي التي تشّربت قلقك حتى الثمالة, وهي تتعثر بين السطور, تتقيأ وجعها, والورق يتضرع ممسكاً يدي, فأمشط غرة الحروف, وأمسح وجهها بزهر الليمون لينتعش غثيانها. نزل عن الطاولة, وجلس بجانبي وقد هدأت ثورته قليلاً ثم قال: -من أجلك عملت حفّار قبور, وجعلت بياض ذلك الورق كفناً لكلّ أوجاعك.. لكلّ أحزانك.. فكيف تتنكرين لي الآن؟ وتلك الشظايا من ذاتك جمعتها طوقاً من عبق, وحوّلت أسماكك الميتة مراكب تصطاد أجمل اللؤلؤ من محيطات اللغة.. لولاي ما كنت غير قطعة جليد صمّاء! كنتُ أحبو بين يديك, وأنت تقفين كشجرة حزن عتيقة, أطوف حولك, أتمم طقوس الدخول إلى محراب ذاتك, ألعق جراحك, أبتلع صديدها.. تعثر بالحروف المتدفقة, لكنّه ازدرد مداده متابعاً: -كنت حين تسطع شمس الحب فيك, أغدو شراعاً يطوف بك بحار الحلم والرؤى, وأغدو هندياً يتقن الرسم بالوشم, فأرسم الحب وراء كل حرف, وتحت كل نقطة وكل فاصلة.. من أجلك قلبت مفاهيم التضاريس, فجبالك وهاد تعملق فيها عشق القمم, ووديانك جبال تدحرج غرور ذراها حتى القاع.. والبحر نهر هاجرت ضفته الأخرت وتناهت. لم أستغرب طلاقته لكني سمعت نبضات قلبه الصاخبة, فشعرت بالخوف, ورحت اتودد إليه. في الحقيقة كنت مقتنعة بكل ما قاله, إذ كنت أخلع ذاتي وكل نوبات جنوني لأعلّقها على مشجبه, فيئن تحت ثقلها. كان الفارس الذي امتطى مهر أفكاري المتوحش فروّضه. كان يفتح بوابات اللحظة ويغرق فيها, ليفجر صمت قاعي سنابلاً وورداً.. يوشّي بالرحيق ضفاف وجودي, فأذوب في مداده كلون يغطس في الماء, ليكون له امتدادات أخرى. يلتّف حولي شرنقة, يغزل جناحين من حرير لأحلّق بهما. امتدت أصابعي جسوراً.. عانقته.. قبّلته: -قلمي يا شراع شوق مبحر بين الموجة والموجة, يضجّ بك صمتي.. أيّها الطفل المشاكس الذي أتعبه اللهو على رمال شواطئي فنام, وفي شباك صيده ألف حلم بالإبحار.