في انسحابِ المحبةِ كانت لكِ جدة رشيقة وكأنها خارجة للتو من إحدي لوحات "محمود سعيد"، وعكس كل الجدات السمينات لصديقاتك كانت تخطر في جلبابها الأسود وطرحتها السوداء بجسدٍ يشبه إلي حدٍ كبيرٍ أجسادكن وأنتن صبايا آنذاك، كان لها وشم أزرق يملأ ذقنها وكأنه هارب من ريشات طاووس ما، عندما كنتِ وأنتِ طفلة تتحسسينه وتسألينها: مَنْ رسم لكِ هذا كانت تضحك وتقول: دقوه لي هنا حتي يعلموني فلا أتوه عنهم أبداً في الموالدِ والزحام، وهذا أيضاً، ثم تفرجكِ علي عصفورتين زرقاوين مرسومتين بإتقان علي كلٍ من بزي قدميها وتعاود الضحك وهي تقول والعصفورتان لدرء الشيطان عن جسدي. فلماذا تزوركِ جدتك الآن كثيراً في المنام ؟ هل تُريد أخذكِ معها مثلاً؟ يُقال إننا نعرف مَنْ كان لنا أقرب من الأموات عندما يُكلف باصطحابنا لرحلتنا الأخيرة، كانت تقول لكِ لمَّا رأت أنكِ صرت أنثي: إياكِ وأن تستسلمي ل حب الرجال فهم قساة ياابنتي وإذا ما اشتموا رائحة ضعفك فسيعبثون بكِ قليلاً ثم يتركونك باحثين عن صيدٍ آخر فالرجل صائد بطبيعته ياابنتي والمرأة فريسة، فإياكِ أن تكوني فريسة غبية، أحبيه إذا ما ضربك الهوي ولكن دون أن تُشعريه بذلك، واستسلمي له دون أن يفهم أنه امتلكك تماماً واخمشي قبضات ناره وأنتِ تشكين من البرد، وتنفسي عبيره دون أن يلمح استمتاعك، وافتحي عيناً عليه وعيناً علي الأفق البعيد حتي لا يُغمض كلتا عينيك وأنت في غيبوبة وجدٍ ويذهب دون رجوعٍ... كنتِ مثل فرس حرون تسخرين من وصاياها وتصيحين في وجهها بصوتكِ المسرسع الضعيف الذي لم ينضج بعد : لستُ فريسة ولا أريد صائداً بل رجلاً، أنتِ غارقة في وجهها الآن.... كانت جميلة، لها عينان سوداوان كحيلتان وأنف يذكرك علي الفور بالكبرياء وبشرة خمرية ووردية في آن، وكان لها زوج مات في سنٍ مبكرةٍ فعافت نفسها وهي لم تتجاوز الثلاثين بعده الرجال، كانت تحكي حكاياتٍ لا تُشبه كلَّ ما سمِعته من حكايات وكانت عذبة الرائحة دون أن تختبر أبداً أياً من المعطرات ولهذا أنتِ تعرفين جيداً من أين أتي "زوسكيند" بعطره، كانت لجسدها موسيقاه الخاصة التي تملأ الغرف بمجرد دخولها وكانت إذا ما مرت علي الصباح يزداد نوره وإذا ما بقيت لديكم حتي المساء يزداد ألقه، كانت تضع بهدوء بَصْمَتها علي الأوراق لتمنح مَن يُريد أرضاً أرضاً ولمَنْ يُريدُ داراً داراً وتمضي، ولكنها لا تنسي أبداً أن تُلقي بإحدي وصاياها وهي ترتدي نعليها.. إياكِ أن تسعي خلف الحياة فالحياة تسعي خلف مَنْ يهرب منها.. وإياكِ أن تُلقي بنفسك في وسط البحر وتقفي هناك ثم تواصلي الشكوي من الغرق، وإياكِ أن تضعي قلبك تحت قدميك ثم تتأوهين وأنتِ تموتين، وإياكِ أن تتعلقي في سماوات الرب كسحابة ثم تطلبي ألا تستحيلي غيثاً وعلي الحقول تتساقطين. جدتك الأمية لم تعرف دون شكِ " النفري"، وجدتك الأمية تحتلك هذه الأيام احتلال القوي العظمي لدولةٍ دونَها في العدة والعتاد . ستقلُّ حكاياته عن أمه وعن أختيه وعن أصدقائه وعن زملائه في الجريدة وعن انطباعاته عن كلِّ شيء حتي تتلاشي تماماً وتغلِّقُ أمامكِ السبلُ فلا تستطيعين حتي الاقتراب من إلقاء سؤالِ عابرٍ للاطمئنان علي أي شيء، فهل تأكدتِ الآن أنكِ بالفعل خارج حياته وأن وجودك في بيته لم يعد يتعدي قطعة أثاثٍ قديمة لا يهتم هذه الأيام سوي بالبحث عن كيفيةٍ للتخلص منها؟.. سيحاولُ في مواقيت ما أقناع نفسه لا يدري أحدٌ من الشياطين أو الملائكة بأية كيفية أنه واجبه المقدس أن ينكب فوقكِ لاصقاً صدره بصدركِ خانقاً إياكِ ضارباً بعرضِ الحائطِ كلَّ وصايا ابن حزم في ممارسة الحب ومشرعاً رأسه لأعلي ليُخفي وجهه بعيداً عن وجهكِ ولكي يتحاشي بالمرةِ تقبيلك ودونما كلمة واحدة ودونما همسة محبة ودون أن يشير من بعيدٍ أو قريبٍ أنه يرغبُ في ملامسة حتي يدكِ أو أنه يحبُ أن تحتضنيه هكذا سيدخلك ممدداً عليكِ صامتاً ولن يُسمع في الفضاء إلا هديلك دون أي صدي وقد يقطع هذا الهديل بشكلٍ مفاجئ رتابة الإيقاع أو يستمر حتي تصلك حشرجة وصوله، ليس لأنه وصل إلي ذروة محبته، وإنما لأنه أدي واجبه ولسوف ينهض عنك مخلفاً إياك جائعة لانجذابه الأوّل وجنونه الأوّل وولعه الأوّل بجسدكِ، وقد تروحين وقتها في تخيله وهو يفتش في أعضائكِ عضواً عضواً عن أكثر من بابٍ للدخول وكأنه آدمٌ حين باغتته حواء بالوقوفِ أمامه فتلعثمت يداه وارتبكت لاكتشاف من أيةِ طينةٍ جُبلت هذه؟ وماذا أنا فاعلٌ بها؟ فصار يتحسس كلّ جزءٍ فيها ثم يعاود وضعه في مكانه، لن يلاحظ حتي أنكِ مجروحة ولن يري أعضاءكِ الغارقة في الشعور بالمهانةِ، ولكن احذري أن تتفوهي بكلمةٍ واحدةٍ أو لم تُعلمكِ جداتكِ منذ أسلاف الأسلاف أنكِ لعبته والألعابُ لا تتحدثُ إلا في الحكايات الخرافية القابعة في مكتباتِ العالم! .. سينتقدُ كلَّ ما تفعلينَ وكلَّ ما لا تفعلينَ وستلمحينَ ابتسامته التي تحبينها كثيراً فقط عندما يُقابل في حضوركِ فتياتٍ أخرياتٍ، سيواصلُ الهروبَ منكِ طوالَ الوقتِ لمشاهدةِ المبارياتِ أو حتي المسلسلاتٍ التافهةِ لكي يجد كلماتٍ يكسرُ من مادتها صمتَ إسمنت الجدران .. أينما وليتِ وجهكِ ومهما ابتسمتِ لن يقابلكِ إلا وجومه أو حيرته التي تشبه كثيراً حيرة ديكٍ نتفَ معظم جريد عُشته نقراً ولم يتبق إلا القليل ليجهزَ عليه ويتحرر منها فاراً إلي الأبد، أو خطواته المرتبكة في الشقة.. تلك الخطوات التي تميز المنتظر طويلاً في إحدي صالات الانتظار بمطارٍ ما لطائرةٍ تأخرت للغايةِ..لن تسمح لكِ كرامتكِ بالطبعِ أن تواجهيه فأولاً أنتِ تخافين أن يتصدع كلَّ شيء في لحظة، وثانياً لأنكِ امرأته وتعلمين جيداً أنه سيقلب شفتيه امتعاضاً وقد يتهمكِ بالشكِ أو الجنونِ وإذا ما تماديتِ قد يصيح في وجهكِ كعادة الرجال عندما يُجبرون علي الاعتراف بالحقيقةِ.. نعم لقد كان حباً وانتهي، والجرّةُ يأتي عليها يومٌ وتمتلئُ حتي يتم إغلاقها ووضعها علي رفٍ ما حتي ولو كانت جرّة المحبة.. ستتساءلين ببراءة طفلةٍ صغيرة ولماذا لم أزل أحبه أنا ؟ لماذا لم تمتلئ بعدُ جرتي؟ ستتساءلين بكل ما أوتيت من بلاهة.. تُري أين يذهب كلُّ هذا الحب؟ الصوتُ المعلَّقُ عليه القلبُ كمشنوقٍ يتوسلُ للحصولِ علي آخر قطرةِ ماءٍ في حياته.. الكلماتُ المنسابةُ من سماواتٍ بعيدةٍ وكأن حفنةً من الملائكةِ يلقونها سراً في أذنِ المحبِ ليعيدَ ترديدها لمحبوبه.. العينُ اللامعةُ المفتوحةُ عن آخرها لكي لا تفوتها خلجةٌ واحدةٌ من خلجاتِ محبوبها.. الإلحاحُ المحببُ صباح مساء وكأنه عصفورٌ لا يملُّ من الزقزقة.. عذوبةُ وهنِ الأنبياءِ التي تضربُ ملامحهم بهالةٍ نورانيةٍ حين يحتاجون إلي مساعدة الآلهة.. السهرُ وكأنه يحرسُ الكونَ كلّه ببحاره وجباله وصحاريه ونجومه وشموسه وأقماره وحتي أظلاف حيواناته حتي لا يختفي هذا الكون في لحظةِ نومه آخذاً معه محبوبه.. البحثُ الدائمُ عن حمامٍ زاجلٍ يربطُ في أقدامه أطناناً من الرسائل التي تكررُ معني واحداً والتي لا تشبهُ إحداها بأي حالٍ من الأحوال ويا للعجب الأخري.. الجسد الذي يشفُّ عن روحه حتي يكادَ يطيرُ ولكنه يقاومُ الطيران حتي لا يبتعدَ كثيراً عن محبوبهفيبكي من فرط عجزه علي الثبات في مقام البقاء أو في مقام الزوال ويواصل البكاء لأنه يعرف أنه كلّما ابتلت عيناه وكلَّما بكي أكثر تزداد صورة محبوبه بريقاً.. التخلي تماماً عن الصبر والعقل والحُلم وما شابههم في محاولة للتحول إلي ذرةِ هواءٍ تحاول النفاذ إلي عيني محبوبه وهو نائم شريطة ألا تؤذيه.. مناجاة الله والاستماع إلي صوته بجلاء والتطاول عليه أحياناً بسؤاله: ألم نكن كلاً واحداً فلماذا شطرتنا نصفين؟ ثم البقاء في رحابه لائذاً بعرشه من رمضاء الوجد وكأن المحب لا يكون في رحابِ لله إلا عندما يحبُ.. اجتراح أسرار الوجود بكشفها كلها والصمت عن البوح بها.. رؤية نفسه بأنه أضألُ من وردةٍ في بستان وأنه أكثر قبحاً أمام جمال محبوبه وأنه عادي إلي حدِّ الرثاء كما نملة في سرب نملٍ تسعي وأنه عبدٌ غير مطيع أمام سيده هو الذي يتهجد في محاسنه طوال الليل وأطراف النهار ويقعي تماماً تحت قدميه لتنفيذ أتفه أوامره، وأنه محجوب مهما فعل عن عين محبوبه، وأنه ضالٌ ومخفٍ تحت وطأة شمسٍ حارقةٍ كما لو كان جناح بعوضة هائم في ثنايا أشعتها، وأنه ذرات تراب تذروها سافيات الرياح إلي ما لا جهة، وأنه سمكة " لبيرامبوايا" عجوز ضمرت خياشيمها ونبتت مكانها رئتان وعليها من الآن فصاعداً أن تبرك في مستنقعٍ ضحلٍ حتي تُخرجَ رأسها من الماء لتحصل علي القليل من الهواء، وأنه آذان في غير أهله، وأنه قرع نواقيس في غير كنائسها، وأنه مأتمٌ بدون ميته أو عرس بدون عروسه أو ياقوتة نادرة تعاني من البحث عمَن يرتديها، أو أنه النفس الأخير الذي يخرج من صدر عابدٍ لائذٍ بكهفه منذ سنين، أو أنه شهابٌ وحيدٌ سقط علي الأرضِ دون أن يراه أحدٌ ودون أن يعبأ به أحدٌ فتحول في التوِّ واللحظةِ إلي قطعةِ طين، أو أنه حَمْلٌ تنوءُ به فتاةٌ وحيدةٌ في دياجير جنونها، أو أنه نسرٌ فاجأته طلقةٌ وهو في الأعالي ويريدُ أن يهبطُ إلي الأرضِ آمناً ليموت بإباءٍ وكرامةٍ، أو أنه صلاةٌ جماعيةٌ دونما قِبلة أو إنشاد ودون مسجدٍ ودون مصلين علي جباههم بقعةٌ سوداء، أو أنه ببساطةٍ يعود من حيث أتي وتحديداً مجرد نسياً منسياً تماماً كما كان . ها أنتِ تقطعين مقام انسحاب المحبة كاملاً وقد تنجين الآن بنفسكِ، لم يتبق أمامك يا سيدتي إلا القليل ..عبور بحيرة تعرفين أنها راكدة كلما خلّصتِ قدمكِ اليمني من وحلها غاصت اليسري في ما لا نهايةِ وحلِ الإشفاقِ علي الذات، كانت لكِ أمٌ لمَّاحةٌ خفيفةُ الظلِّ يقعُ في أسر محبتها كلُ مَنْ يراها، والحقيقة أنها لم تبخل عليكِ بأسرار طُرقِ محبة الرجالِ بحكاياتها أو نصائحها أو كيفية معاملتها لأبيكِ أمامكِ، هل تتذكرين يوم جاءت إلي بيتكم خالتك الصغري "رضوي" منهارة وباكية بعد أن طلقها زوجها الذي انتظر خمس سنوات لكي تنجب له طفلاً ولكنها كانت عاقراً مثلكِ أو أنكِ خلقتِ عاقراً مثلها، يومها أخذتها أمكِ في حضنها طويلاً وأجهشتْ بالبكاء ولكنها فجأة توقفتْ وهي تتطلعُ إلي وجه أبيكِ الحزينِ الساهمِ، وألقت بخالتكِ المنهارة علي أقرب كرسي صادفها ثم رشقت أباكِ بنظرةٍ حاقدةٍ وكأنه هو مَن طلقها ثم صاحت بها : بت يا رضوي والله العظيم انتِ محظوظة، ربنا هايبعتلك راجل تاني واهو بدال الراجل تبقي خدتي اتنين، ياختي يروح في ستين داهية، والله يابت إنتي محظوظة، الدور والباقي علي اللي قاعدة طول عمرها وشها في وش راجل واحد ما بيتغيرشي، بكرة تاخدي سيد سيده . يطاردها أبوكِ في الشقة وكأنه سيضربها، لم يضربها أبداً ولكنه كان يهددها فقط ويبدو أنه يعرف أنها تحبه حتي العبادة، ويبدو أنها كانت تعرف أنه يريد احتضانها لا ضربها، ويبدو أنهما متفقانِ سراً علي هذه اللعبة، مما كان يطلق في البيت حكايات وآراء وقفشات أمك التي تجبره علي الضحكِ مع الجميع في النهاية، وتنتهي المطاردة عادة بإغلاقها الباب عليها من الداخل حتي لا تسمع صياحه : صحيح إنك ست سافلة. بينما ترد هي من الداخل بصوتِ طفلةٍ وكأنها لا تعرف ماذا قالت بالفعل: هو أنا يعني قلت إيه، الله؟ ..الطريقُ طويلٌ طويلٌ ولم يزل ممتداً أمامكِ أيتها الجميلةُ، أنتِ تجاوزتِ الآن أميالاً من الغيرةِ والوجدِ والدموع والحنينِ إلي أيامكِ الخوالي معه، وإعادة توليف أحلامٍ وأوضاعٍ وقبلاتٍ في زوايا مظلمةٍ لن تحظي أبداً بها، كم من الكلماتِ كان عليه أن يقولها! كم من الأسرار ربما لو سُفكت علي أعتاب سريركما لامتدت أميال الطريق الأولي بعسلها، وقصرت أميال النهاية! كان هناك عناقٌ لم يحدثْ في لحظته المحددة، وصيحةَ إعجابٍ اختنقت في جهامة الذكورة وخجل الأنوثة، وبيتٌ كان من المفترضِ أن تتسعَ جدرانه، وحديقة كان من المفترض أن تنمو علي مهلٍ، وصيفٌ كان من المفترضِ أن يزوركما ليعتذرَ عن كلِّ الأصيافِ الحارةِ التي مرت علي الكون، ومطرٌ شتائيٌ يجعلُ عظامكما العجوز تلوذُ ببعضها البعض وتُسامحُ البردَ أكثر. ..أنتِ مغادرة إذاً، فإياكِ أن تسحبي معكِ من متاع الدنيا ما يثقل كاهلكِ، اتركي له كلَّ شيء، فما حاجتك لما يُكبلكِ بسلاسل في الأمكنة وأنتِ مغادرة ؟ كل جرام ستحملينه معكِ سيكون بمثابة خسارة تصطف إلي خساراتكِ اللا متناهية، لقد وضعتِ في مخطوطكِ لحظاتِ الأسرِّة كلها، وهسيس الجدران الوحيدة ليلاً، وأحاديث طابور نمل لبلابتكِ صيفاً، وتبادل ظلال الشمس علي الأثاث والشراشف ظهراً، ووجع البلاط من فرط كثرة وثقل خطواتكِ عليه، وعبق الشاي بالنعناع عصراً، وتعب المرايا من تكرار ابتساماتها في وجهكِ صباحاً، ونيران غضبكِ التي تشتعل في وحدتكِ اشتعال النار في المرجل وتخمد في وحدتكِ أيضاً، رنين الهاتف الأحمق، الصوت الضاحك والابتسامة المحايدة لمذيعة في تليفزيون فضي الإطار تقرأ فيه خبراً عن مذبحة مروعة في أقصي الصعيد، همساتكِ التي واريتها الكلمات همسةً همسة، أحلامكِ التي لملمتها بحرصٍ بالغٍ من ليالٍ شديدة السواد وحبستها إلي الأبد في سطوركِ، ضحكاتك العالية علي أشياءٍ تندهشين الآن أنها كانت مضحكة، هل تبقي شيءٌ لم تحمليه معكِ؟ ستأخذين كلَّ ما كان لكِ معكِ.. القلب المكسور الذي ولدتِ به.. الخجل المجبولة منه والذي يجعل خطواتكِ تتعثر دائماً كلما لمحتِ من بعيدٍ بداياتٍ جديدة.. يداكِ اللتانِ تُجيدانِ إطعام نصف قبيلة وغسيل وترتب ملابسهم ثم تنظيف أعشاشهم.. عيناكِ اللتان تجيدان سفك الدموع علي مَنْ راحوا ومَنْ سيروحون لا محالة.. ساعتكِ البيولوجية التي توقظكِ من عزِّ المنام لتُسرَّ لكِ بنبوءاتٍ يصعب عليكِ لأوَّلِ وهلةٍ فكّ طلّسماتها ولكنها تحوم فوق مشاهد فقدٍ غير محتملٍ وأعاصير لا تعرفين أيُ البلدان ستشهدها وحروب لا تدرين مَنْ سيخرج منها منتصراً بل الأحري أنكِ لا تعترفين بالانتصارات في الحروب.. ستأخذين كلَّ ما كان لكِ معكِ.. رحمٌ لا ينجب أطفالاً يعمرون الأرضَ.. شجٌ فوق حاجبكِ الأيسر من إثر سقوطكِ من أعلي سلم بيتكم وأنتِ طفلة أثناء هروبكِ من أبٍ مصر علي ضربك.. أذنكِ التي تطنُ فيها أطنانٌ وأطنانٌ من الكلمات.. قدمانِ لا تحملانِ في ذاكرتهما سوي بضعة شوارع وأرصفة وميادين تستطيعين ترديد أسمائها في زمنٍ لا يتجاوز الدقيقتين.. ذكرياتٌ قليلةٌ تستطيعين التجول بها من فرط خفتها في بلاد الله دون أن يرهقكِ حملها.. شَعرٌ خفّت كثافته ولكنه ما زال يستطيع ستر كلّ ما في داخل جمجمتكِ من آثار طعناتِ كلّ مَنْ عبروا فوق جسدكِ غير مصدقين أنكِ قادرة علي النهوض من تحت أقدامهم لتفردي جناحيكِ وتُحلقي من جديد.. أظافرٌ لا تُجيد الاتكاء إلا علي روحكِ نفسها.. وردتكِ الحمراء التي ظلت جرحاً مفتوحاً مذ ولدتِ وحتي يواريكِ التراب.. وأخيراً رائحتكِ التي تعرفين أنها خاصة جداً وجاذبة لذكور القبيلة، ولكن انتبهي أنكِ إذا ما انجذبتِ مرة ثانية فستكررين وإلي الأبد الحكاية نفسها . .. ما زال عليكِ قطعُ أميال من الألمِ المريرِ وإذا ما أردتِ اختصارها ياسيدتي فكوني شجاعة واغلقي بنفسكِ وبكلِّ محبةٍ تلك الجرّة الصغيرة التي امتلأت عن آخرها، وضعيها بحنو علي رفٍ غير مرئي مِنْ أرففِ حياتك حتي تتحولي إلي طيفٍ نوراني شفافٍ كلَّما همَّ أن يقبضَ عليه في لحظاتِ حنينه القادمة دون شكٍ ينساب من بين يديه، ويلاحق طريقه نحو مصبِ النورِ الخالدْ. فصل من رواية بعنوان "رحلة الضباع" تصدر قريباً