كان يحيا علي مسلمات راسخة، منها أن الحب هو خلاص الإنسان علي الأرض، وأن الإيمان هو خلاصه في السماء، وأن الفن هو الجسر الذي يصل ما بين الشاطئين.. لهذا عاش فرحة عمره حين التقاها، كان يحيا علي مسلمات راسخة، منها أن الحب هو خلاص الإنسان علي الأرض، وأن الإيمان هو خلاصه في السماء، وأن الفن هو الجسر الذي يصل ما بين الشاطئين.. لهذا عاش فرحة عمره حين التقاها، إذ كانت ذلك الجسر الذهبي الذي نقله بمسلماته الي بر اليقين، فعاش حياة رائعة يحسده عليها الإنس والجن، دامت أكثر من سنوات أربع، هائما في همسات الحب هنا، سابحا في نفحات القرب هناك.. سعيدا في السماوات والأرض.. وكان أن بذل قلمه أحلي ما أبدع من فن طيلة عمره. حمل إليها تاريخه الطويل بما حفل به من زهر وشوك ووعي وغفلة، فكان ذلك التاريخ جواز مروره الي جزيرتها الشامخة النائية والتي ظلت من الأزل نائمة في صمتها الغامض قبل أن يسوقه إليها قدره. علي مشارف الجزيرة استوقفني حارسان تبارك الخالق الفنان في إبداعهما. في البداية خلتهما عصفورتين وردتين تترنمان بأناشيد الخلد العلوية. كانت رائحتهما تفوح بمسك الجنة.. ولما اقتربت منهما ولامستهما حسبتهما جمرتين من مرمر عنيد تتقدان بنار العشق ونور الهوي ووهج الجنون فطار صوابي من الفرحة وقلت ياالله!!.. حبيبتي جزيرة بكر تنام وادعة في قلب الجمال. هي من أودعتها منذ مولدي كل أسراري وخبراتي وأدق خلجاتي، وأفرغت في قلبها أفراحي وأشجاني الفائتة والآنية والآتية من قبل أن تراها عيناي. أمام محرابها أقف خاشعا.. تتربع علي عرشها لؤلؤتان عسليتان غارقتان في بحر من نور.. سكانها يابديع السماوات والأرض لا يتخاطبون بالكلمات وإنما يتهامسون بأحرف الموسيقي.. وأنا من يعشق الطرب ويفني في الرقص والهمسات. أتوه يامولاي في أحراش جزيرتك الساحرة التي اخضرت بمقدمي.. تسكرني فواكهها التي لا تعرف الفصول، وتقرعيناي بمهرجان الألوان الفرحة الذي تقيمه زهورها لتشع في الكون البهجة والحبور.. وترقص أعطافي لانسياب جداول الماء والعسل والحب بين جنباتها، أما النشوة الحقة فمن أين لها أن تحلق في السماوات العلي بغير نشيد الإنشاد تتغرد به الطيور وهي تتقافز في طمأنينة علي فروع الأشجار وأوراق الورد. تعالي ياحبيبتي من هموم العالم وغروره فأنت التي لم يستكشف أرضها غيري. تعالي كما أنت.. أحزينة أنا أعزيك. أمريضة أنا أشفيك. أمحتاجة أنا أعولك. أخائفة أنا أطمئنك.. أباكية أمسح دموعك. أنت المخلوقة الوحيدة التي بيدها أن تطلق الطيور لتغرد علي رءوس الأشجار فتفجر في قلبي ينابيع الفن والجمال، وتمنحني أنفاس الحياة. لقد أفنيت عمري أبحث عنك في محاجي الصخر في ستر المعاقل في شقوق الصخور وفي مخابيء طيات الجبال.. هل أنت مهمومة؟ «ألق علي الرب همك فأنا أعولك» هل أنت متعبة؟.. «تعالي الي وأنا أريحك» أعليك مشقات؟.. «صلي.. اسمعيني صوتك». قال له أحد الحارسين بحروف من نغم جميل: ان دخول الجزيرة مرهون بشروط ما هي؟ أولها المحبة فما بالك بصب يفدي بروحه المحبوب ولا يبالي؟! وقال له الثاني وثانيها الفناء في المحبوب. أنا الحبيب والمحبوب والسر الذي يجمعنا.. أرواح ثلاثة قد حلت في جسد واحد. سمحا لي بالاقتراب، فلما دنوت أكثر أصابني عبيرها الفواح بغيبوبة مقدسة رحت علي أثرها متنقلا بين الأرض والسماء وقد خلعت عني أوصافي وسكنت في ملكوت النشوة ولذة الوصل.. ولما أفقت ابتسما لي وقالا في وداعة آسرة أنهما يعلمان أنني الجدير وحدي من دون العالمين بدخول الجزيرة لأني محب عظيم بكل ما لا يخطر علي قلب بشر من حقائق ودقائق ورقائق. ثم قاداني الي نهر الحياة وسألاني في مودة أن أحقق الشرط الثالث، قلت فما هو ، قيل أن تشرب من النهر فإما أن تصمد وإما أسكرتك حلاوته فطاش عقلك، ولك الخيار بين البوح والكتمان. قلت إني غريق النهر من قبل أن تمسسه يداي وتلمحه عيناي، فما جدوي الحياة علي ضفتيه دون الغوص في لجة نعيمه حتي الفناء. ابتهج الحارسان بإصراري فتركاني أقذف بأنيني وحنيني وأغوص بروحي في قلب النهر، فحلولي في قاعة منيتي ومرادي، لتحل معي حيرتي وأسراري وأفراحي وأسقامي. ولدرايتهما بأسرار العشق الأزلية أدركا أني تجاوزت الحد في المحبة فخشيا علي من الغرق وأخرجاني من لجته قبل أن أتلاشي، وأمراني بالتمهل والانتظار، وأضفيا علي من حنانهما الملائكي ما يسعدني عمرا فوق عمري. أجلسني بينهما يجففاني لبرهة لا تقاس بزمن الدنيا، فإذا بدفقهما القدسي يغيبني من جديد.. ولكن تمنيت أن أظل غائبا في غيبوبتي حتي يوم أبعث لئلا ألقي مصيري المأساوي الذي تنبأت به أساطير الإغريق وكتب الأولين لكل من تسول له نفسه تحدي الزمن بإيقافه عن السريان أو بمحاولة إعادته الي الوراء. كان كمن عثر علي كنز لا مثيل له ولا نظير في الدنيا ، فتحير في كيفية الحفاظ عليه والأنس به والامتزاج معه. بذل من فكره وروحه ودموعه، وحبس دمه في شرايينه عن قلبه الرهيف خشية أن ينهار الجسر أو أن تزل قدمه من عليه فتسقط إلي هاوية الموت المحتوم . ولشدة خوفه وقلقه ورجائه، اشتدت لهفته علي محبوبته واشتعل حنينه واشتياقه إلي دوام القرب منها ورؤياها وسماع صوتها ولمس يديها وارتشاف الشهد من كرزتيها .. ولم تكن رأسه الملتهبة بالعشق والوجد لتهدأ أو تستكين إلا علي صدرها الحاني، وأناملها الشفيفة تتحسس شعره برفق أم رؤوم، وتربت علي ظهره الذي ينوء بما حمل من أثقال الوعي وأعباء السنين . أيتها المريدة الغافلة عن فضل معلمك الذي طال وقوفه ببابك ودام اعتكافه برحابك وزرع في حديقة قلبك المسحورة بذور العشق الجميل، ففتح لك مغاليق أسرار حياة كانت خافية عنك ..تتعطشين للخروج من قمقمك الرهيب وحين أهبك الحرية وأنتشلك من كآبة الوحدة وكابوسها المظلم إلي نور الأنس والسرور فأنت تكابرين تضنين وتترددين .. ألا ما أشقي عسل الحب حين يسيل هدرا بين شفتيك الثريتين اللتين طال هجرهما ..دعيني أرويك من نبع الحياة في جنتك المشتهاة..إن عشقك يا حبيبتي أسكنك في دمي بروحك وعقلك ودينك وجسدك وأحلامك ونظرات عينيك ورائحة عرقك وتفاصيل المنمنمات الدقيقة الرقيقة تحت جفنيك وعلي بشرة وجهك الجميل... أما إن لي أن أحتويك في صدري ..أضمك بكل العنف والرقة، وأصب بكل الوجد في أذنيك همسات الحب والعشق والحنان . لقد كانت جزيرتك خاوية علي عروشها قبل أن أرويها بدماء قلبي الوله. إنك ويا أسفي تدمرين بجحيم عقلك ما تبقي لنا من عمر قليل يدعونا إلي استقطار ما تبقي لنا فيه من نعم واستحلاب رحيقها الأخير قبل فوت الأوان . لقد عشت في صدري عمرا بأكمله أراك في صحوي ومنامي بعين الراهب المتبتل، أتوسل إليك تارة بحق الساعات التي جمعتنا في الترحال والسفر، وتارة بحق لحظات الوداع بتلويح الأيدي علي محطات القطار، وتارة بحق صوتك الدافئ الودود حين يأتيني من قارة تفصل بيني وبينها محيطات.. كم توسلت إليك بعينين دامعتين بالأمل والزهور والفرحة والترقب وقلق الحياة الجميل..أكل هذا لم يصل إلي فهمك ؟! إنك تعشقين قمقمك فكبرياؤك أقوي من حبك ونرجسيتك أقسي من قلبك، وعقلك عاجز عن استيعاب حبي وتصديقه وكأنه عندك معجزة مستحيلة التحقيق في عالم الأغيار . ورغم احتياجك الحيوي للمساتي وهمساتي وكلماتي النازقة بالمحبة، فإنك ظللت تقفين صامتة قليلة الحيلة أمام قلب يذبح وإنسان يموت في بطء بين عينيك . بدأ يقينه في الاهتزاز وراحت مسلماته تضطرب أمام عينيه الذابلتين ورغم ذلك كانت صورته لا تتجلي الا في صورتها وأنفاسه لا تتردد إلا أملا في التفاتة من عين قلبها توحد بينها وبينه وتحل فيه وتمتزج به .. لكن ملكاته بدأت في التعاكس والتضاد والتناحر، وكلها تنذره بنهاية عهدها بالانسجام والتجانس الذي تميز به ..ومأساة الدنيا تكمن في التغير والزوال ..ولأنه يحفظ هذا الدرس جيدا بل ويخشاه كما الموت، فإنه كان دائم البحث والترقب لظهور شواهد المأساة المرتقبة وعلاماتها التراجيدية الرهيبة . حتي جاء ذلك اليوم المشهود حين أدرك ويالشدة مرارته انها عاجزة بحق عن تصور معني حبه لها، بل انه كان يشك في تصديقها له .. لابد أنه معني يتجاوز قدرتها علي الفهم والتصديق والإحساس والتصور، وكأنها تجزم بعدم استحقاقها للسعادة . في ذلك اليوم أدرك أن النهاية المرتقبة آتية لا محالة. إنه يوم قد حفرت ثوانيه في أخاديد قلبه مقبرة تحمل اسم محبويته، حين تثبت من أن الحب عدل والعدل حب، وأن كل جميل في هذه الدنيا لا يتصف إلا بالعدل ..فالله نفسه اسمه العدل..ولأنه يقدس تلك الصفة الربانية العليا بكل جوارحه فإنه لم يعد يرتضي بل ولم يعد يستطيع أن يرتضي لنفسه أن يكون ظالما لمحبوبته، فحاجتها إليه ليست بقدر حاجته إليها . وبدأ يترف .. أنت يا سيدتي رزينة متعقلة حتي الموت، وانا لا أريد من أحد في هذه الدنيا شيئا، وأنت كائنة قدت من عقل، ولم يعد لدي شئ أعطيه لأحد، وكل الهوي صعب علي الذي يشكو الحجاب ونادى يا رحمان يا رب يا منان إني حزين وأدين بدين الحب أني توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني وشغلي بها، وصلت بالليل أو هجرت فما آبالي أطال الليل أم قصر، وكلما ضنت تباريح الجوي فضح الدمع الهوي والأرقا، وإذا حل ذكركم خاطري فرشت خدودي مكان التراب .. وراح الترف يزداد . لأجل عينيك الجميلتين أعفيك من عبء حبي، ولأجل قلبك الطيب الغافل عن روعة حبي أريحك من حمل عشقي ..أحررك من جنوني وتقلبي وشططي وهيامي ..أعتقك من أسر أنانيتي ومن تشبثي بروحك كطفل عنيد، فحبي يفوق طاقتك علي احتمال الحب، ويعظم علي قدرتك علي العطاء..حفظك الله ورعاك من كل سوء ولابد يوما أن تأتي لحظة ينتهي فيها الترف !