حاولت كتابة مذكراتي أكثر من مرة وعلي فترات متباعدة لدرجة أنني نسيت ماذا قلت ومن أين بدأت. أما ماذا قلت فأعرف، ولكن من أين هذا هو الذي يدهشني. فأنا لا اتحدث عن طفولتي قبل سبع سنوات، لماذا ولا أتحدث عن أبي؟ ولا اتحدث عن أخوتي ولا أين ولدت.. وكيف كتبت مما سجلته عن أبي وأمي والناس. لماذا؟ لم افكر فنحن في هذه المسألة او المشكلة او القضية. وفي كل مرة اقول: لا أعرف الآن. ولعلي اعود اليها فيما بعد.. وفيما بعد هذه جاءت عدة مرات. ولكن لا اجابة. لماذا؟ واذكر واقعة واحدة اسعدتني.. ولا اذكر غيرها. كان الذي اسعدني أهم كثيرا من غيرها. والاحظ مسألة اخري ايضا.. فحياتي تكاد تكون بلا حوادث بلا وقائع بلا مشاكل.. فهل هي بلا مشاكل.. بلا متاعب.. لا اعرف. ولكن الذي اعرفه انه مهما حدث فيها.. أي أنني راض تماما عما حدث. لماذا؟ لأنه لا توجد أسباب لعدم الرضا، فأنا راض في جميع الاحوال.. الحياة في الكتاب. رضيت بها، لا شيء يقال: ذهبت الي الكتاب.. الي الكتاب لا اذهب.. لا اختيار فالكتاب ضروري، وليس عندي أي اعتراض علي الحياة في الكتاب. فانا اقضي فيه معظم الوقت وأعمل ولا اعتراض علي ان اطعم الدجاج ثم ابحث عن البيض. كل ذلك اوديه كل يوم. ولا شكوي. ولا غضب.. ولا سخط. هذا واجب.. فلا مناقشة لما هو واجب. ولانني لو شكوت فماذا اقول.. ان سيدنا وزوجته يجعلوننا نعمل في البيت الصغير، لم اعترض.. ثم ان الكتاب يلوث ملابسنا، والقش الذي نجلس فيه وعليه ينتقل احيانا حشرات تلسعنا ونحن نقرأ. ونكتم الالم والا ضربنا سيدنا بدعوي اننا نكذب واننا نريد ان نخرج . ولذلك نكتم اللسع. وفي احدي المرات قلت" آه لان برغوثا قد لسعني فقال سيدنا: فيه اية ياولد.. وقلت: مفيش ياسيدنا.. قال: ارجع للسورة من اولها واستعذ بالله واقرأ. ولما هربت مني دجاجة ورحت اجري وراءها باكيا في كل القرية حتي ادركني احد الخفراء ومد يده الي دجاجة في الشارع وقال لي: خدها انها احسن من دجاجة سيدنا.. ولم اقل لابي ولم يعرف أحد من زملائي عن هذه الواقعة. فهل المشاكل صغيرة.. لم تترك اثرا.. او انني من سن مبكرة اتفرج علي الحياة دون ان اشعر باية مشكلة.. هل هناك ما يمكن الشكوك منه. ولكنني راض تماما مستسلم تماما.. ولا اشكو او لانني لا اعرف ان كانت هناك حياة اخري افضل.. او قرية اجمل او كتاتيب اكبر من كتابنا.. فلا شكوي ولا أزمة.. فانا راض أو أنا لا اشعر بهذه الاشياء الصغيرة، فامي عندها كل المعلومات عني وكانت هي المصدر الوحيد لمعرفتي بالدنيا. ولم اناقش في ذلك الوقت ان كانت معلوماتها صحيحة. فانا لا اعرف ولا وجدت سبيلا للمعرفة ولا رغبة في المعرفة. الي ان رأيت القاهرة: فهي اعظم من القرية والناس ووسائل الانتقال فكل شيء اكبر وانظف. المنصورة وجدتها صغيرة وقريتي وجدتها ضئيلة.. وأحسست ان المكان خانق. وفي كل مرة اتركها وانا في جامعة القاهرة اشعر بأنني في علبة او صندوق تحت الارض.. لم اعرف بلدي ومدرستي والكتاب الا عندما ذهبت الي القاهرة وأحسست انني اصغر من كل شيء.. وكنت في الريف احس انني اكبر من كل شيء.. اكبر من معظم الناس لانني حفظت القرآن. مرة كتبت جانبا من مذكراتي بعنوان (البقية في حياتي لوحات تذكارية علي جدار الطفولة).. وقد حصل هذا الكتاب علي جائزة وترجم الي اللغة العبرية ترجمة الفقيه اللغوي دافيد ساجيف.. وكتبت مذكرات بعنوان: أمي ابنها. وقرأتها ووجدتها لا تكفي.. ثم وجدت صفحات كاشفة تعريت فيها لانني حكيت مالا يصح وضقت بهذه المذكرات واشعلت فيها النار.. في 057 صفحة! ومرة ثالثة كتبت مذكرات بعنوان (الشرنقة) أي التي اعيش فيها طول عمري. كتبت اربعين صفحة وتوقفت. ثم شرعت في كتابة قصة حياتي بعنوان (صندوقي الاسود) كما في كل طائرة صندوق لتسجيل ما يدور بين طاقم الطائرة من حوارات بينهم وبين المطار او الطائرات المجاورة.. وكيف حدث ما حدث للطائرة، فاذا احترقت او غرقت في البحر بحثوا عن الصندوق الاسود ليعرفوا ماذا حدث وماذا جري.. وكل واحد له صندوق يسجل ما كان وماهو كائن وليس ماسوف يكون. وكتبت منها مائتي صفحة. ولم اكملها. وبدأتها كما بدأت المحاولات السابقة. وقد اغفلت كل هذه المحاولات سنوات من طفولتي. لماذا لا اعرف لماذا؟ وحاولت كثيرا ان اعرف من أمي.. ولكنها تقول الحمد لله علي كده.. واسألها: كده يعني ايه؟ وتقول: بتسأل ليه.. وعلشان ايه يا ابني تعرف ايه قلت لها: ياماما انا باكتب قصة حياتي. يعني إيه يا أبني.. علشان الاولاد في المدرسة بيحكوا كيف كانوا وهم صغار.. هذا يقول انه تكلم في سن مبكرة.. وذاك يقول انه ركب البسكليت زي اربع عجلات.. ثم الثلاث عجلات واخيرا ذي العجلتين وبعد ذلك البسكليت ذي العجلة الواحدة وكان يذهب بها الي المدرسة والي الجامعة ايضا.. حاجات بالشكل ده ياماما.. بس.. قالت: يا ابني انت طول عمرك امير وعاقل.. وراض عن كل شيء.. ولا تطلب شيئا ونحن نحاول معك ان نشتري لك شيئا مكافأة علي نجاحك ولكنك لا تطلب ابدا. ولا تطلب شراء قمصان فانت تريد مني قمصان اخوتك وجزمهم. يمكن الحاجة الوحيدة الغريبة هي قراءة الكتب في كل بيت نذهب اليه. تتركني وتروح تقلب في الكتب حتي لو كانت بلغة اخري لا تعرفها.. بيقولوا كلها كده.. انت بتقرأ اكثر من بابا.. كنت تقرأ ليلا ونهارا.. فوق السرير.. تحت السرير.. واحيانا وجدناك نائما امام الباب ووجدنا كتابا تحتك.. والكتب تحت المخدة وفوق اللحاف. وانا تصورت ان اخد هذه الكتب في أي مكان حتي في دورة المياة.. هاها.. وقد وجدنا كتابا صغيرا في جيب الجلابية وقد غسلوها دون ان يعرفوا أن في جيبك كتابا. والكتاب ذاب وامحت كل صفحاته. وكان حزنا عظيما. وكنت تضع الكتاب امامك وتحاول ان تقرأ ولكن لا تعرف كأنك امام جثة تحاول ان تجعلها تنطق ولكنها ماتت.. ولم أرك يا ابني تحزن علي شيء قدر حزنك علي الكتاب وعلي موت كلبك الصغير الذي دفنته ورحت تقرأ له الفاتحة ولما ضحك الناس لسماع هذه الحكاية لم تعد تقرأ الفاتحة وانما تبكي عليه كأنه اخ او اخت أو صديق.. ومادام يا ابني قد سألتني.. فان حزنك كان عظيما عندما سافرت الي القاهرة ولم تعد تري اختك.. وقد ذهبت تودعها وتعانقها وبكيتها واندهش الناس. وقالوا اكثر من اخته الشقيقة.. ولما جاءت اخته الشقيقة لم تكن البديل عن اخته غير الشقيقة هاها.. وقد سألتني وانت صغير لماذا لا اتزوج اختي؟ وضحكنا فأنت لا تعرف معني الزواج ولا معني ان تتزوج اختك.. ولما قلت لك: انه حرام لن تفهم. وتدخل والدك ليقنعك بان زواج الاخت حرام.. وانت بكيت يومها لانك وعدتها بالزواج. وهي وافقت ولا تعرف ما الذي تقوله لها الآن.. أنا كذاب؟ لا أنت مش كذاب يا ابني.. انت طول عمرك تقول الحقيقة حتي قبل ان تحفظ القرآن.. ولكن ربنا لا يرضي عن هذا الزواج لان زواج الاخت حرام والذي يتزوج اخته يدخل النار! يا ابني أنت لم تصدق كل هذا. وفي الليل رأيتك تنقلب ولم تنم. وعند الفجر لم اجدك. وبسرعة نظرت من النافذة فوجدتك عند اختك التي كانت تنتظرك وجلستما تبكيان. ولما ذهبت لوداعها قبل سفرنا الي القاهرة كان بكاؤك مسموعا. وخفت عليك. وعرفت الحكاية وعرضت الحكاية من اولها علي ابيك لعله يجد كلاما أحسن من كلامي يقنعك يا ابني.. قلت لامي: هذا كل ما في طفولتي قالت: يعني إيه يا ابني.. قلت: الا يوجد حكايات اخري؟ قالت: الحكايات كثيرة، فأنت تكره امي كراهية شديدة وتقول انك سمعتها تشتم اباك. وانها اقسمت علي المصحف أن هذا لم يحدث ولكنك لم تصدقها. ولا اعرف كيف كان انتقامك منها فظيعا. ولا اعرف من اين اتتك هذه الافكار ففي يوم العيد الكبير كانت جدتك هي التي تطهي الخروف في أوعية كبيرة. وتركت جدتك لاري ان كان اللحم قد نضج فوجدتك جالسا امام الموقد ساكتا. فادركت ان هناك شيئا قد فعلته.. فرفعت غطاء الحلة لتجد كل شباشب البيت الي جانب الخروف.. وصرخت جدتك تناديني وهي في حالة جنون. وسألتك فقلت لي: انها تشتم بابا. وأنا قلت لك يا ابني لم يحصل وانت مصر علي انها شتمت بابا.. وهي تصرخ ولا تعرف ما الذي تفعله بشربة الشباشب.. هاها.. هاها.. ومرة ثانية بعد سنتين تكرر نفس المشهد وجدتك جدتك جالسا الي جوار اوعية اللحوم فسألتك في فزع: ما الذي عملته ياولدي يا ابن ال.. ورفعت الغطاء لتري اللحوم فوجدتها غارقة في الطين وصرخت ولطمت خديها تقول اعمل ايه انا دلوقت.. الولد مش يقعد هنا.. ولم تكد تفرغ من هذه الجملة حتي اندفعت تجمع ملابسك لتذهب التي لم يرزقها الله بالولد فاعتبرتك ابنها ولا تمل حضنك لها ولا أنت.. وكنت تحبها اكثر من حبك لي.. يا ابني أنا مش عارفة ازاي لما حد يزعلك تكوم هدومك وتقرر المبيت في مكان آخر.. ولا تنس ابدا من أساء اليك. وكثيرا ما تقول هذا شتمني وهذا شتم اباك.. وهذا شتم الاسرة كلها.. وحاولت ان ارجعك الي بيت جدتك.. ثم حاولت هي واعتذرت لك واكدت لك انها لا تشتمك وانما هي عادة ان تقول لاي احد: يا ابن العفاريت.. يا ابن القرود وهي لا تقصد معاني هذه الكلمات وكنت استمع باهتمام الي امي واندهش كيف تحسن التغيير عن نفسها وعن غيرها وتجد الكلمات المناسبة. واحسست انني تعذبت كثيرا لانني لم اجلس الي أمي واضع رأسي علي صدرها. ولكني كنت اضع رأسي واسمع دقات قلب امي وبس واحيانا أنام.. وعادت أمي تستأنف الكلام المرتب اللطيف فقالت : لازم اضحك.. في يوم انت رجعت البيت والدماء علي وجهك فانزعجت ورحت ابحث عن قطن وكولونيا. ورحت اغسل وجهك واجفف الجروح وأنت لا ترد ولا تصد ولا تقول شيئا فاغضبتني فانهلت عليك ضربا وانت لا تبكي ابدا.. بل انا التي كنت ابكي وانت الذي ترجوني الا ابكي وانك لن تعود.. وعرفت منك انك رأيت الثعلب يصعد النخلة بظهره من شدة الحذر فحاولت ان تقلد الثعلب فوقعت اكثر من مرة. ولما حاول الاولاد زملاؤك في المدرسة ان يضعوا لك البن فوق الجروح كما هي العادة في الريف. رفضت. ولكنك هذه المرة لم تجمع ملابسك. وانما فوجئت باختفائك اياما من البيت وبحثت عنك في كل مكان وسألت عنك عند خالاتك وعند اصدقائك وسألت اختك ولكن احدا لا يعرف.. وفي يوم جاءت الغجرية التي تبيع الملابس بالتقسيط وطلبت الي الطفل الذي يحمل لها القفه ان يضعها في الارض. وكانت المفاجأة انك لجأت الي الغجر واقمت بينهم ووعدت احدي البنات بالزواج. وشربت دمها وشربت دمك. وحاولت الغجرية ان تتمسك بك.. ولكنني طردتها ولم تعد تجئ الينا.. ولما سألوك عن اهلك قلت لهم انك تائه ولا تعرف احدا فاستراحوا الي انك مثلهم تائهون لا مكان يستقرون فيه.. وانهم مطردون من كل مكان لانهم يسرقون الدجاج ويخطفون الاطفال.. وقد خطفوك وزوجوك هاها.. هاما..