ماذا نفعل لنكرم امراة ! نبني سفينة لوداعها..نطيل طريق اختفائها .. ماذا نفعل لنودع امراة ؟ نتركها تغادر بأفضل ما لدينا ونعود نطلب قوة من العابرين .. عباس بيضون تلح على هذه السطور الشعرية منذ شهر تقريبا..وتحديدا منذ بداية ازمة الدستور التي انطلقت بينما كنت احضر فعاليات مهرجان طنجة بالمغرب..لست ادري لماذا وجدتني استبدل كلمة امرأة في الأبيات بكلمة جريدة (ماذا نفعل لنودع جريدة..نتركها تغادر بأفضل ما لدينا..ونعود نطلب قوة من العابرين).كنت الكاتب الوحيد تقريبا من الجريدة -أو هكذا اتصور- الذي لم يشارك بمقال او هتاف او صراخ او مساندة من أي نوع في ازمة الدستور..بل اتُهمت بأنني تخليت عن القضية ولم اعضد المجموعة التي اعمل معها منذ العدد رقم سبعة للأصدار اليومي وطوال اربع سنوات إلا شهرين!! اذكر جيدا مكالمة دولية اجريتها من طنجة لزميلة عزيزة بالجريدة لاستفهم عن الموقف الغامض كلية بالنسبة لي هناك فإذ بها تسألني بصريح العبارة(انت معانا ولا مع الناس التانين؟) لم اكن ادري من هم؟ ومن الناس التانين؟ ووجدت نفسي في موقف عبثي يشبه بالتحديد النكتة الشهيرة..وخشيت ان اقول(أنا معاكم) حتى لا تجيبني قائلة (احنا الناس التانين).
وعدت من طنجة لثمانية واربعين ساعة فقط قبل أن اغادر لأبو ظبي لمدة عشرة ايام ابتعدت فيهم اكثر عن الأزمة واسبابها ونتائجها..كنت احاول المتابعة والتواصل لكن كانت التفاصيل تتراكم بشكل اكبر من قدرتي على التحصيل..خصوصا مع استغراقي الكامل في تغطية كلا المهرجانين..كنت اتمنى من داخلي أن تحل الأزمة..ان تعود الجريدة /المرأة التي احبها ونحبها جميعا..ان لا اضطر أن اتركها تغادر واعود لاطلب القوة والعون والمساعدة من العابرين (اي عابرين). في اليومين الذين قضيتهم بالقاهرة فتحت عدد الدستور بتاريخ الجمعة 8 اكتوبر وهو اليوم الذي اكتب فيه اسبوعيا..وجدت خبر غريب يتصدر الصفحة الأولى (بعد مرور 22 عاما على وفاته بنات نجيب محفوظ يعترفون:ابونا مات مقتول) شعرت بحزن شديد! لا بسبب الاعلان ان وفاة نجيب جاءت قتلا ولكن لأن صاحب نوبل الأدب "العربي" مات منذ اربعة سنوات فقط وان الاثنين وعشرون عاما مضوا على تسلمه نوبل عام 88..هذا هو الخبر الذي يتصدر الصفحة الاولى للجريدة التي كنت اكتب بها (وأقول كنت)..من الظلم بالطبع أن احاكم أي طرف..فربما تم تصحيح الخبر في الاعداد التالية التي لم اتابعها بالطبع لظروف السفر اولا والاكتئاب ثانيا ! كنت افكر كيف يمكن أن استمر بدون تلك الجريدة! ووجدتني اغني مع عبد الرحمن الابنودي( انا مش بفكر فيكي دلوقتي..مشكلتي مش انتي..انا بفكر ف حالي..وازاي حعيش بدونك..من غير ضحكة عيونك..كلمة وابقى افهميها..الدنيا مكنش فيها..إلا جنوني وجنونك) هنا تتطابق الجريدة مع المرأة مع الحبيبة تحت مصطلح نقدي/علمي لا اذكره الآن لكنه يعبر عن تلك الحالة التي غالبا ما تودي بالعاشق إلى الانتحار نتيجة فشله في استبقاء معشوقته لأي سبب! هل يبدو هذا الحديث انفعاليا اكثر من الازم او رومنتيكيا بشكل مبالغ فيه؟! السؤال هنا لا يبحث عن اجابة ! فقط هو اشارة أن الكاتب لا يهتم بالحكم على مشاعره تجاه ما يكتب عنه..هو فقط يكتب ما يشعر به ! في الجمعة الأخيرة قبل حدوث الازمة نشرت مقال عن مسلسل شيخ العرب همام كنت احاول فيه ان احلل المسلسل من وجهة نظر الادب الشعبي ودخلت لاقرأ تعليقات القراء فوجدت تعليقا من قارئ كريم شديد الغضب يقول (بالذمة ده كلام..هو البلد ف ايه وانتو في ايه..حرام عليكم.. انتو مش حاسين باللي بيحصل في البلد ...) تعليق طويل من ثلاثة اسطر يوبخ فيها القارئ (انتو) الذين هم اما انا في صيغة تفخيم منه أو انا والجريدة التي نشرت لي هذا الكلام او انا والجريدة وصناع العمل..اعدت قراءة التعليق أكثر من مرة..لم اكن اشعر بالغضب او الضيق..كنت احاول ان اضع نفسي مكان هذا القارئ الذي لا يرى في العمل الفني "الجيد" او في تحليله والتعليق عليه ما يمكن أن يخص "البلد" أي السياسة "بالبلدي" !هل هو جهل منه ام تجاهل لما يمكن أن يقدمه الفن؟ ام كفر بما يقدم في مصر تحت مسمى الفن رغم أنني لم اكن ان اتحدث عن تموره مثلا او ازواج زُهرة !! تذكرت هذا التعليق بعد الازمة وتساءلت:هل يمكن أن يهتم مثل هذا القارئ بما يمكن ان يكتبه ناقد مثلي عن الأزمة؟ طالما هو لا يعترف اساسا أن للفن أي دور او مهمة!! كنت اقرأ ما يكتبه وائل حمدي وطارق الشناوي وكلاهما (ولاد كار) واتساءل واين موقفي انا؟ في الحقيقة لقد تلقيت عرضين من الجريدة المطبوعة لكي أعود للكتابة بها..الاول كان بعد عودتي من طنجة والثاني بعد عودتي من أبوظبي وانطلاق الموقع الألكتروني..وجدتني احاول ان اتلمس طريقي وسط هذا الصخب الشديد مسترشدا بشئ واحد..احساسي..لقد اكتشفت أني منحاز معنويا وبشكل كامل لتجربة الدستور" الأصلي" واقصد هنا الجريدة / المرأة /الحبيبة المفتقدة..لقد كتبت في ظل تجربة الدستور برئاسة ابراهيم عيسي اكثر من 200 عمود صحفي لم اتقاض من ورائهم جنية واحد ولم اشعر بالرغبة في تقاضى اي شئ بل شعرت أن ما يمكن أن يجعلني استمر هو الاحساس بأن ما اكتبه يمكن ان يجد صدى لدى من يقرأ..وبالتالي استمريت في محاولة ان اكون عند حسن ظن هذا القارئ بي..لقد تطورت وخضت تجربة مختلفة بعد تجربة كتابة مقال نقدي في جريدة المصري اليوم منذ بدايتها وحتى الأن..كانت تجربة العمود الصحفي احد اخطر التجارب التي خضتها في حياتي المهنية لانني باختصار كان من الممكن ان اهدم سمعتي كناقد لو أن القارئ شعر ان ما اكتبه في العمود هو مجرد كتابة وليس "الكتابة" التي ينتظرها من ناقد يتابع ارائه في جريدة أخرى..ان انحيازي المعنوي لتلك التجربة الخاصة/ العامة في نفس الوقت كان هو الفيصل بالنسبة لي في حسم المسألة..وليس في الاختيار..فأنا لم اختر للحظة واحدة ان اكتب في الجريدة المطبوعة وانما فقط -وهي من المرات القليلة التي حدثت- لعبت دور المتلقي لا الناقد..المسألة التي اتحدث عنها هي محاولتي اكتشاف لماذا انا منحاز وليس لمن سوف انحاز؟ بدليل أنني احتجبت عن الكتابة بمجرد حدوث الأزمة ..وهذا الاحتجاب كان سببه عدم قدرتي على الكتابة في مثل هذه الظروف العصيبة..وفي ظل ان كل ما اراه من ساحة المعركة هو غبار كثيف يتصاعد بشكل غير فني في "الكادر الثابت" الذي انظر من خلاله للصراع . هل اطلت عليكم؟ هل كنتم تنتظرون ان اشتم في من يشتمون او أهتف لمن يهتفون له! مع احترامي لمن يَشتم ولمن يَهتف سواء اتفقت او اختلفت مع اسلوبه ! هل يبدو حديثي للبعض وكأن على راسي بطحة احاول ان اداريها بالصور البلاغية والاقتباسات الشعرية ! هذا ايضا سؤال لا يبحث عن اجابة لنفس السبب الذي ورد قبل عدة فقرات . (ماذا نفعل لنودع جريدة نطيل طريق اختفائها؟ نصعد تلة لوداعها؟ ) لا اننا لن نبني سفينة..ولن نتركها تغادر بأفضل ما لدينا..لأننا لن نودع الجريدة..فهي لم ولن تغادر بل سنقف لنشاهد العابرين وهم يجتازون ساحتنا دون ان نكون في حاجه لان نطلب منهم أية "قوة" او مساعدة !