1 هكذا كنت وحيداً ، تنام كأنك تنام في أزمنة سحيقة ، تسمع أغنيات تراكم عليها الصدأ وتدعي الشعور بعبق الماضي ، تسير لتستشعر الدفء في وقع خطواتك ، تستمع لمعزوفة صامتة وتنسي كلمات الأغنية ، تمضي في ركن من أركان الذاكرة وتطل علي أحلامك الحائرة من أعلي فتراها تتكور وتتدحرج وتصطدم بالعدم ، تطل من النافذة فتتبادل مع حفيف الأشجار التحية وتصادق الصمت وقطع الأثاث ورائحة السجاد المهترئ والخشب القديم ، تمر سحابة تتشكل بداخلها صور لأبنائك تمطر رذاذاً له رائحة العرق والتدافع في المواصلات العمومية ، تبتاع لهم ما يحتاجون و كل أمنياتك ابتسامة عذبة غير مكسورة علي شفاههم . تنهي ما جاءت لأجله ، تعد الطعام وتغسل الملابس والأواني بحركة آلية ثم تقف في منتصف الصالة وتقول بصوت متهدج:- - عايز حاجة تاني يا بابا . تضحك وتزدرد ريقك تبلع معه الغصة والفقاعات شديدة المرارة تنظر إلي الفراغ وهو يُخرج لك لسانه ينتظرها حين تخرج ثم يمد ذراعيه القويتين ويضمك إليه بقوة . يسألك عن العمر وأيامك القادمة ترد بدلاً منك شجرة التوت العتيقة وأشعار درويش ويبدأ الحصار يحيطك فتنام كأنك لم تشعر بطعم اليقظة من قبل . 2 في ليلة ضبابية . تجلس أمام نصف المرآة المشطور ، تنظر إلي ذاتك نظرات قلقة حائرة تتدحرج من عينيك دمعة ساخنة . تظل محدقاً تتأمل تجاعيد وجهك.. تمسكت بورقة وقلم . تتمايل بشجن عميق كأنك تسمع نغمة لناي خافت . رأيت اسمي مطبوعاً مئات المرات .. لن أسمع اليوم من يمجدني ... قالوا كل شيء وسمعت منهم كل شيء.. تتنهد بعمق وتمزق الورقة وتلقي بها من النافذة .. تعدو ناحية سور الحديقة تمسك ببعض قطع الطباشير .. وتقف لبرهة ثم تلوح لشيء غير مرئي . ترسم دوائر وأشكالاً مختلفة وتنتقل من جدار إلى جدار بسرعة جنونية . يتفصد العرق من جبينك وتقف تتأمل ما صنعت لم تجد سوى آثار أقدام راحلة …
3 لم يكن بإمكانه أن ينفك عن تلك الحالة التى تتلبسه .أغمض عينيه وارتحل فى دوامة وشعر بلذة ذوبان الأفكار فى مخيلته فأسرع بالتقاط فرشاته وبدأ بغمسها فى الألوان ولكنه توقف قليلاً ليسأل نفسه من أين يبدأ . سأرسم حين يتعارك الضوء الوردى فى الأفق مع السحب المحملة بالضباب يحاول اختراقها ويأبى الضوء الوردى الاستسلام فيظل يقاوم السحب والشعاع الأسود الصادر منها حتى تنفد قواه ويتلاشى شيئاً فشيئاً ... أو حين تعكس السماء اللون الرمادى على صفحات الأمواج وتبدو الجبال كقطع من السواد على جانبى اللوحة . أو طيراً أبيض يرفرف على يمين اللوحة يبدأ كبيراً ثم يظل يصغر حتى يختفى كلياً فى يسار اللوحة . أو يتسع الخيال شيئاً قليلاً فأضع سرباً من الطيور يحلق بأشكال منتظمة أسفل الشمس وفى المساحة البيضاء أرسم نخلاً سامقاً يعاكس الضوء ويراوغه وتجلس فتاة تركن بظهرها على النخل ثم تداعب جديلتها الذهبية فى ضوء الشمس الغارب . كلا ... سأرسم سلماً يصل إلى السماء وأرسم طفلاً يحاول الصعود ويمسك بيديه الرقيقتين عنقوداً من العنب وكلما صعد درجة وقعت منه حبه حتى يصل إلى نهاية السلم تكون قد تساقطت آخر حبات العنقود. حك أذنيه وتململ فى جلسته وقرر أن يخفى معالم اللوحة ويبدأ بالرسم من جديد.