بينما يسير قاسم وبيكاسو، بطلا رواية حسن عبد الموجود الأخيرة »ناصية باتا« ، علي كوبري قصر النيل، يشير قاسم إلي الأسدين: »أنا وانت شبه الأسدين دول مالناش لازمة« . تلخص هذه العبارة، الكثير مما تريد أن تقوله، الرواية، عن تهميش الفرد، في ظل توحش وسيطرة المؤسسة بكافة أشكالها: الأبوية، الأسرية، الدينية، المجتمعية، الإلهية، ويصبح معها بطل الرواية، قاسم، وصديقاه بيكاسو وتمساح، تروسا في ماكينة النظام، الذي لا يعرفون كيف يخرجون عنه، مع أنه يخرجهم يوميا من سياقه. يرد بيكاسو علي جملة قاسم السابقة، بالضحك، والضحك سخرية ومرارة في آن، يبدو هو الحل الناجع الذي يختم به عبد الموجود روايته: »اضحك يا عم بيكاسو« ، كما أنه يقدمه في ثنايا روايته، وفصولها الأربعة والثلاثين، لكنه يأتي محملا بالوجع المكتوم من واقع محمل بالغضب والألم والقهر، فالأب عندما تعض الكلاب ابنه قاسم، لا يتعاطف معه، لكن يصفعه علي وجهه، ويقول له »لو إنت إنسان متربي ما كنتش الكلاب تجري وراك« ، لكن السخرية المتفجرة هنا ناجمة من تحول الإحساس بالظلم إلي إحساس بالألم، وطانيوس عندما يدرك أنه جزء من مؤسسة عقابية، وأن طيبته ليست أكثر من جبن يقول عن نفسه، بعد أن تخيل أنه بمفرده »أنا ابن وسخة علي فكرة« ، ولكنه يسمع صوت تمساح يأتي من خلفه »عيب، ما تقولشي علي نفسك كده يا نائب« . الكتابة، في ظن جان كوكتو، هي فن التورط. تورط القارئ في مزيج من عالم متخيل وواقعي، في ظني، وتورط الكاتب نفسه، الذي يقف هنا علي ناصية الحياة، بنظرة الصقر الطائر، ليرصد تفاصيل عالم انفصل عنه لكنه يرصده كما هو، وربما لهذا نجد أن الزمن في رواية ناصية باتا، هو الزمن بمفهومه الأوسع، قد يكون الآن، أو الغد، أو أمس، لكنه في كافة الأحوال هو لحظة القبض علي النص. لا يقدم عبد الموجود، زمانا معروفا، كما لا يقدم مؤسسات حقيقية، هو يمزج بين الاثنين، الواقعي والخيال، ليظل الخيالي هو المأزق الحقيقي للنص، وسط لحظات متشظية، مفعمة بالأسئلة. المؤسسة العقابية، التي يقدمها عبد الموجود في روايته تحمل اسم » أغسطس« ، وهي مزيج من مؤسسات مختلفة موجودة في المجتمع، تعمل علي تهميش الفرد، وجعله ترسا في ماكينة، لا أهمية له خارج هذا السياق، أو »عامل طابونة« ، لا يستطيع ترك مقعده أمام النار لأنه سيحترق في الخارج، لكنه في المقابل، يقدم مؤسسات أخري، معروفة بالاسم، لكنه يمنح لها اسما مشابها لمؤسسته العقابية، وهي مؤسسة »31 مارس« ، والتي يفهم من السياق، أنها جهاز أمن الدولة المنحل، حيث يشير الراوي إلي أن »نادي الأدب« أبلغ هذا الأسبوع عن إقامة أمسية شعرية، كما أن جماعة التبليغ والدعوة، التي ينتمي إليها قاسم، أصبحت تبلغ هذه المؤسسة قبل خروجها إلي أية قرية للدعوة إلي الله، وهو ما يشير بوضوح إلي مؤسسة عقابية أخري، أكثر تسلطا من التي يتحدث عنها الكاتب. هذا العالم، الواقعي المتخيل، يوازيه عالم كابوسي آخر، يذكر بالعوالم الكافكاوية، عندما تحاصر الصراصير شقة قاسم وبيكاسو، ولا يجد الأول حلا سوي أن ينزحها بالجاروف، ويعبئها في جوال كان يحوي الأدوات التي يستخدمها بيكاسو في رسومه. ينطلق عبد الموجود فيما مضي، من النظر إلي الكتابة إلي لعبة، لعبة تشبه الحياة تماما، وربما لهذا يقسم الرواية إلي قسمين كبيرين: الأول »الحياة« ، والثاني »لعبة« ، وكأنهما قوسان كبيران يضمان في ثناياهما الرواية »الحياة لعبة« ، هذه اللعبة تقتضي حالة من الانفصام في كل تفاصيل الرواية، وانشطارها إلي جزءين، فالشخصيات المأزومة مقسومة ما بين طفولتها في القرية، وحياتها في المدينة، وسط شخصيات لا تفهمها تماما، وترفض التعاطي معها وفق آلياتها. قاسم ينقسم بين شخصيتين قاسم وجهد، تماما كما تنقسم أحداث الرواية بين مكانين الريف والقاهرة، تماما كما ينقسم قاسم في الريف بين الذي يريده، وبين الشخص الملتزم، وفي القاهرة، بين حبه لرانيا وكرهه له، هذه الحالة الدائمة من الحيرة، غير المحسومة، وحتي في حال حسمها لا تكون بأيدي شخصيات الرواية، الريفية، لكن بيد الشخصيات الأخري، وهو نفس ما يتكرر مع بيكاسو، الذي يشبه الفنان، الذي يقتني الكاتب محمد حسنين هيكل تماثيله، لكنه يعيش في شقة فقيرة في فيصل، الفنان الذي لا يباري، ولا تفوته صلاة، ويقف في المسجد ليسأل الشيخ أحمدي عن مدي حرمة نحته للتماثيل، مأزقه الخاص بالأنثي التي لا يستطيع التواصل معها تماما. لكن هذه الشخصيات لا تنفصل عن المجتمع المأزوم أيضا، مجتمع لا يخفي عدم رضاه عن التماثيل التي يمكن أن تكون قد نزعت البركة من البيت بعد أن طردت الملائكة، مع أنه نفس المجتمع الرابض، بين تماثيل الحضارة الفرعونية، وهو المجتمع الذي يترك آثاره علي شخصية بيكاسو الذي يتوقف عند منتصف العلاقة مع حبيبته، وهو يتمتم محوقلا ومبسملا، وقاسم الذي لا يعرف هل يكمل علاقته برانيا بتقاليد مجتمعه هو أم بالتقاليد التي تضعها هي، حتي لو قبل ذلك مرات. بناء هذه الشخصيات المأزومة، هو الذي يقودنا إلي الجملة التي قالها قاسم لبيكاسو »أنا وانت شبه الأسدين دول مالناش لازمة« ، لكنه جزء من البناء النفسي للمؤسسة التي يعمل فيها أبطال الرواية، ويعانون من قهرها، لكنهم لا يتركونها. انضمام الشخصيات الثلاثة إلي المؤسسة، لم يحل الأزمات المتراكمة داخلهم قبلها، فتمساح يدخل مؤسسة »أغسطس« لرفضه الشذوذ مع زميل له في المدرسة، لكنه يسقط فيما بعد في سفينة كلها شواذ، وقاسم دخل المؤسسة لأن والده أراد أن يعاقبه، لكن بيكاسو دخل خلفه لأنه أراد أن يقلده أو لأنه ظن أن كل خياراته صحيحة. لكن المؤسسة الأبوية، يكشفها عبد الموجود، عندما يعترف طانيوس لنفسه أن السلطة المفروضة عليه ترافق الإنسان منذ الميلاد وحتي القبر، سلطة الأب والأم والأقارب والمدرسين والمديرين والرؤساء ورجال الدين، أو كما يقول عبد الموجود في الرواية فإن تجاوز الخطوط التي يحددها لنا المسئولون عن إدارة حيواتنا يقابل في الأغلب بالاستهجان، إنهم يستهجنون ويستهجن معهم الأشخاص العاديون المجبولون علي الطاعة. هنا يتخطي مفهوم المدير، الشخص المسئول عن المؤسسة، لكنه يصبح الشيخ أحمد في المسجد الذي يكذب وينسب بطولات قاسم إلي نفسه، ومدير المؤسسة الذي يبحث عمن يهزم أمامه في الشطرنج، »أنا المدير هنا ولما أقول كش ملك يبقي كش ملك« ، والأمير الذي يبحث عن أتباع يثنون علي أدائه، لذا يقدم مدير المؤسسة أوامر تشبه الوصايا العشر للمعلمين في فصول الدراسة كلها تبدأ ب »لا« ، لا ترفع صوتك، لا تكن شرها، لا تسرق، لا تنافق، لا تتكاسل« ، ولذلك كان طانيوس يقسو علي الطلاب في المؤسسة لا بهدف إشعارهم بالدونية، ولكن ليصل معهم إلي ناتج سليم، إنه لا يريدهم أن يتحولوا إلي جزء آخر من مجتمع العاديين، فآباء هؤلاء الطلاب الذين يدخلونهم المؤسسة يخولون المؤسسة بأن تحل بديلا عنهم. لكن بعض الشخصيات تبدو حرية، بأن تكون جزءا من هذه المؤسسات العقابية، مثل طانيوس المقهور، والذي ينتقم من مديره في خياله فقط، فهو ضحية مؤسسة قمعية، تري صورها في كل شيء حولنا، وأيضا الشاعر الذي ينافق مديري المجلات العربية، من أجل بضعة دولارات، فالمؤسسة القمعية ليست صنيعة من داخلها فقط، حسبما يطرح عبد الموجود، لكنها صنيعة من في الخارج، من يريدون أن يصنعوا إلها أو فرعونا. التمرد علي المؤسسة، وإلهها يستدعي قراءة التاريخ من وجهة نظر مخالفة، تماما كما قال طانيوس »المشكلة إنك بتقرا من وجهة نظر التاريخ الرسمي، إنت بتقرا في كتب التاريخ بتاعت المدرسة، كان لازم عرابي يتخان، ده واحد بص وراه مالقاش حد أساسا، تبقي المشكلة فيه، عرابي في رأيي كان بيقول للعالم أنا عاوز خيانة« . يقدم عبد الموجود، رؤية مخالفة لتلك الاعتيادية، التي قدمت الصعيد مرتبطا بجماعات الإسلام الراديكالي، حيث يقدم جماعة التبليغ والدعوة، التي كانت منتشرة في الصعيد، ولكن لم يتجاوز دورها حد الدعوة إلي الله، حتي مع خروج أعضائها إلي القري المجاورة لذلك، ويستخدم عبد الموجود، بحنكة بالغة، اللغة الخاصة بالإسلاميين حتي في صياغات جمله السردية، وهو الأمر المنتشر علي طول الرواية، فيقول مثلا » حينما استدار داهمه الشيطان، فقد تثاءب، ولكنه برد فعل سريع وضع يده علي فمه، حتي لا يدخل الشيطان أو يضحك من منظره« ، فضلا عن أن عبد الموجود يقدم في روايته لغة رائقة وصافية، تشبه شخوصها، وبيئتهم، لكنها في كل الأحوال مشغولة بحنكة صانع ماهر. رواية »ناصية باتا« ، تبدو للقارئ لأول وهلة، رواية سهلة القراءة، لكن سرعان ما يلتفت القارئ إلي أنه يجب عليه العودة منذ البداية، للإمساك بالنص الذي يبدو سهلا ممتنعا، ينفلت، مع التشابكات والتضافر بين مصائر شخوص الرواية، لكن هذه الصعوبة لا تقدم نصا منغلقا، بل تقدم نصا يطرح الكثير من الأسئلة، متعلقة بكينونة الإنسان ومصيره، وهذا في ظني هو دور الفن الحقيقي.