1 سلّم الأمير علي قاسم بعد انتهائه من حلقة العصر. كان الإحساس بالذنب ما يزال مسيطراً عليه. إنه يفكّر أحياناً في أنّ الأمير يملك القدرة علي النفاذ والمعرفة. أنه يملك صفات العارفين، ولكن الابتسامة التي كانت تغلّف وجهه جعلته يهدأ قليلاً، ويتأكد من أنّ الأمير شخص عادي، لا يعرف الذنب الذي ارتكبه. اقترب منهما إمام المسجد الشيخ أحمدي. تطلع قاسم إلي وجهه الأسمر وشعر لحيته الذي يشبه شعر عانة صبي في بداية البلوغ وهو يصافح الأمير ثم يصافحه. قال للأمير إن هناك أموراً تحدث بالمسجد لا يمكن السكوت عليها، فبخلاف سرقة الأحذية التي جعلته يعلّق لافتات علي الأعمدة والحوائط للتنبيه علي المصلّين بوضع الأحذية بالقرب منهم، هناك من يسرق سيفونات الحمامات. قال الأمير بدهشة: -ازاي؟! وبيخرج بيها ازاي؟! وبيبعها فين..دي ما تسواش؟! أجاب الإمام: -أكيد ما بيخرجش بيها من المدخل بتاع السوق، ولا التاني بتاع شارع بور سعيد..أنا عارف هوّ مين تقريباً وبدأت أفهم بيهرّبها ازاي، بس أنا عايزك تساعدني. اصطحبهما إلي غرفته في خلفية المسجد، وبمجرد جلوسهم بدأ يتحدث قائلاً إنّ الحرامي يقوم بخلع السيفون وإلقائه من السور الخلفي، فحائط الحمامات عبارة عن سور غير كامل وراءه مساحة خالية بعرض مترين بطول المسجد، وإنه من السهولة إسقاط السيفونات من الحائط القصير إلي المساحة الخالية..الحرامي يفعل ذلك، وإما أنّ هناك من يساعده بنقل السيفونات، أو أنه يعود في أي وقت لحملها. إنه يعاود السطو لأنّ أحداً لم يكتشفه، والسرقة تجهز علي ما يتم جمعه في صندوق "النذور" حيث يتم شراء سيفونات جديدة: -إحنا عايزين ندهن المسجد من فترة ومش عارفين..انت عارف..لغاية دلوقتي المسجد مش تابع للأوقاف. سأل الأمير: -وبتقترح إيه يا مولانا؟! -أنا متهيألي أحسن فترة بيقوم فيها بشغله هيّ الفترة من الضهر للعصر، الرجلين بتخف علي المسجد في الوقت ده. الحمامات 12 حمام، فيه واحد مننا هيعمل نفسه بيتوضّا وواحد تاني يستني ورا السور، أول الحرامي ما يرمي السيفون يقول رقم الحمام، ولما الحرامي يخرج نمسكه ونسلمه علي طول.. نظر الأمير إلي قاسم: -خلاص من بكره، قاسم يستني ورا السور وأنا اللي هستني عند الميضة، إنت يا مولانا لازم تختفي هنا في أوضتك، لو شافك أكيد هيتراجع! من اليوم التالي بدأت المراقبة. كان قاسم يشعر بالشمس تلفحه، ولكن اللذة التي منحتها له المغامرة جعلته يتحمّل. كان يُفكّر في الأمير. بدا له شخصية صادقة إلي أبعد درجة، لا يتأخر عن طلب حتي لو كلفه ذلك ترك دكان الخردوات الذي يمتلكه. إنه يثق في العمّال لديه. كلّهم من الأخوة، يغلقون الدكان حينما يسمعون الأذان. كانوا يعودون مع الأمير بعد حلقة العصر. لم يطل الانتظار أكثر من يومين. ألجمت المفاجأة لسان قاسم لحظات وهو يري السيفون يبرز من الفراغ بين سقف الحمام والسور..ولكنه صرخ: -أربعة، قبل أن يصحح، تلاتة تلاتة تلاتة!! ظلّ يصيح بالرقم وسمع طرقات عنيفة علي باب الحمام بالداخل ثم صوت تهاويه، وأخيراً برز له وجه الحرامي من الفراغ. كانت كل عبارات الذعر تتجلي في وجهه النحيف، وفكّر قاسم في الطريقة التي يجب أن يتصرّف بها لو أنه نجح في القفز إلي المنطقة الخالية التي يقف بها. ماذا لو كان يحمل سكيناً..ولكنه تنفس بارتياح حينما وجد الحرامي ينفجر في البكاء ويستسلم لما بدا أنه أيد تشدّه من الداخل. قفز قاسم عبر جزء متهشم من السور الموازي للحمامات والذي يمثل الحائط الخلفي لكشك الصحافة وعدد من أكشاك الخردوات وحلوي الشام..وجري في شارع بورسعيد حتي باب المسجد. كان الحرامي مقيّداً بحبل غليظ يبدو أنّ الإمام جهّزه خصيصاً لهذه المناسبة. كان أنحف شخص شاهده قاسم في حياته، بل إنه يتمني الآن لو أنه كان استطاع القفز إليه لأنه كان سيهزمه لا محالة، وساعتها كان سيُصبح البطل الأول في القصة، ولكن لا بأس، لأن الإمام والأمير شكراه علي مجهوده..وبناء علي هذا رمقه الأشخاص الذين كانوا متواجدين بالصدفة بالمسجد بنوع من الدهشة وربما الإعجاب..وهذا يكفي..من المؤكد أنّ شهرته ستتسع في هذا المسجد. انتبه إلي سؤال الأمير للإمام: -هتعمل إيه فيه يا مولانا؟! ورد الإمام: -أنا بعت واحد للمركز، زمانهم جايين في الطريق! انتحب الحرامي وقال الأمير: -إحنا خلاص عرفناه، وهوّ اتفضح..سيبه لوجه الله! -ماينفعش يا مولانا، هيروح يعمل كده في مكان تاني، لازم يتربّي..ده دوّقنا المر! بعد قليل دخل مجموعة أشخاص يرتدون الجلاليب، الرجل الذي أرسله الإمام ومخبران، تقدّم أحدهما منه بجسده الضخم ورفعه بقبضته من الأرض ثم كال له الآخر مجموعة من الصفعات علي قفاه وخديه فانفجر مجدداً في البكاء، وقال الإمام: -بلاش تضربوه في المسجد يا اخوانّا. اختار قاسم ركنا يستطيع الإمام أن يشاهده منه وهو علي المنبر في صلاة الجمعة. الإمام مغرم بسرد الأمور الشخصية، ومن المؤكد أنه سيتعرّض للحادثة ويشيد ببطولته. كان من أوّل الحاضرين حتي يحجز مكانه. لو أنه تأخّر فربما يضطر للجلوس خلف عامود يعوقه عن متابعة الإمام. صعد الإمام وبدأ في التمهيد بالدعاء والثناء علي النبي، وتلاوة الشهادتين، وكما توقّع قاسم قال إنه سيتحدّث عن حادثة عجيبة وقعت بالمسجد، وأنه للأسف يوجد من المسلمين من يسرق من بيت الله، وجزاؤه أنه سيكون في الدرك الأسفل بالنار، لأنه يضع يده في جيوب المسلمين جميعاً. ثم بدأ في ذكر الحادثة وشنّف قاسم أذنيه..ولكن الإمام جعل البطولة المطلقة له بعد أن حذفه هو والأمير من السياق تماماً، فهو -أي الإمام- من كان ينتظر في المنطقة الخالية، وهو الذي جري بسرعة شديدة بمجرد أن رأي السيفون، وساعده علي الإمساك بالحرامي أنّ حماماً واحداً كان مشغولاً. انتظر حتي فتح الحرامي الباب فأوثقه بالحبل حتي حضرت الشرطة واقتادته لينال جزاءه. كان قاسم مذهولاً. إنّ الإمام -الذي يتابع ضحكات المصلّين التي تنم عن إعجابهم ودهشتهم- بلا شك يكذب، ولكن ربما طالبه الأمير بعدم ذكر شيء عنهما في الخطبة..ولكن كيف يعرف الأمير بأنه سيذكر الحادثة في الخطبة؟! لا. إن الأمير يصلّي ظهر الجمعة في مسجد الجماعة علي الخط السريع فلماذا فعل الإمام هذا؟! هل لأنه يعرف أنّ الأمير لا يحضر؟! إن الإمام ينظر ناحيته الآن ومن المؤكد أنه يراه..أفلا يشعر بالعار؟! يبدو أنّ العار للصغار. قال قاسم في نفسه. بيّت النية لنقل المسألة إلي الأمير. فكّر في مغادرة المسجد..ولكن ماذا سيقول عنه المصلّون؟ نحّي الفكرة جانباً، وكان الإمام قد وصل إلي منطقته المفضّلة في توجيه الأسئلة إلي من يصفهم بأصحاب الدنيا، الذين يمتّعهم الله في الدنيا ويخزيهم في الآخرة: -كيف تحملون ربكم علي صدوركم وتدخلون به إلي الحمام؟! كيف تدقّونه في أذرعكم وتضاجعون به زوجاتكم؟! ألا تعرفون ما الدين الصحيح؟! إنّ أحباركم يعرفون أنه دين محمد صلوات الله وسلامه عليه. صلّوا عليه. قال سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم: أتدرون من البخيل؟! قالوا الذي لا درهم له ولا متاع. قال: البخيل فيكم من سمع اسمي ولم يصلّ عليّ. صلّوا علي شفيعكم يوم القيامة! كان المسجد يتزلزل بحماسة المصلّين وعبارة الصلاة علي النبي بمشتقاتها..بينما كان فك قاسم متدلياً وعيناه معلقتان بحقيبة مسنودة إلي جدار القِبلة. 2 وضع طانيوس البوستة أمام المدير. الأخير سأله عن المظاريف، خرج وعاد بها، أمسكها المدير واحداً وراء الآخر، وقرأ بيانات الطلاب الذين يرغبون في الالتحاق بالمؤسسة، كان صوته يكتسي بالحدة بعد أن تأكد أن هناك إصراراً من الطلاب أو أولياء أمورهم علي كتابة عنوان المؤسسة مقترناً بناصية باتا: - بجوار ناصية باتا، بجوار ناصية باتا، بجوار ناصية باتا.. ألقي المظاريف بغضب علي المكتب، وكان طانيوس يعرف أنه متضايق بسبب إحساسه بضياع هيبة المؤسسة في اقترانها بباتا. الشركة ذات الباب الكالح، وهؤلاء الشاحبون الذين ينتظرون شحنات الأحذية القماش والبلاستيك والجلد الرخيص الواردة إليها، لا يمكن تعريف المؤسسة بهم. قال طانيوس: - تعرف، أنا حاسس إنك بتبقي متناقض أحياناً، مش فاهم إزاي شخص مهموم بتاريخ بلده زيك ممكن يبقي طبقي؟! حينما وضع المدير لائحة المؤسسة جعل كل السلطات مخوّلة له وحتي مع اشتراط الحكومة وجود مجلس للأمناء جاء بمجموعة من أقاربه الذين كان يذهب إليهم في بيوتهم ليوقع الأوراق اللازمة. وكان يُعاقب طانيوس بالخصم من راتبه كلّما تفوّه بشيء مماثل، كان شيئاً غريباً خاصة وأنهما صديقان قديمان. لقد بدا الأمر في كثير من الأحيان كما لو أنّ المدير قرر إنشاء هذه المؤسسة ليُعذّبه لا أكثر ولا أقل. كان طانيوس يقول لنفسه إنّ السلطة المفروضة علي الشخص تُرخي قبضتها علي رقبته كلما صعد باتجاه رأس الهرم الوظيفي، فليس هناك كثيرون فوقه ليحاسبوه علي تصرّفاته، ولكن في حالته فإنّ المدير يجعله يشعر بأنه لن يتنفّس إلا بأمر مباشر منه. كم كان هذا مرهقاً، ولكن العزّاء أنه ينفّس عن طاقته في الطلاب، وقد كان الأمر ممتعاً لأنّ هؤلاء الطلاب من طينة مختلفة، وقدموا إلي هذه المؤسسة مدفوعين بسخط آبائهم ورغبتهم في أن يصبحوا أكثر قدرة علي مواجهة الحياة. -قدامك نص دقيقة وترجع! تحرّك طانيوس إلي مكتبه ووقّع ورقة بخصم ثلاثة أيام من راتبه هو بناء علي وصفه المدير في جملته السابقة بأنه متناقض وطبقي، وعاد مرة أخري غير أنه فوجئ بالمدير يقول بهدوء: -أحياناً بيكون تقديري للأمور غلط! شعر طانيوس أنه علي وشك التراجع عن الخصم، وتحاشي أن تفلت منه أية بادرة سعادة. لو تراجع سيشكره بكلمة مقتضبة وكفي، فهو لا يُريد أن يبدو في موقع أدني. وقال المدير: - أنا شايف إن تلت أيام مش كفاية خليهم خمسة، وترجع بسرعة! رأي طانيوس نفسه -وهو يسير باتجاه مكتبه- يصرخ في وجه المدير، وتضايق لأنّ خياله بدا عاجزاً، دائماً يصرخ ولا شيء آخر. لماذا لا يقتله؟ لماذا لا يُسقطه من جبل؟ لماذا لا يضربه حتي يتضرّع إليه أن كفي..ولكنه عزي الأمر إلي أخلاقه العالية. -بتكرهني طبعاً؟! عموماً مش عايزك تجاوب، خلينا في مشكلة باتا! كان اليوم التالي تاريخياً بالنسبة إلي طانيوس، فلأول مرة منذ عامين يدخل المدير مكتبه. كما أن وجهه متهلل، جلس علي الكرسي أمامه فهب واقفاً ولكن المدير أجلسه بإشارة من يده. كانت هناك مشكلتان في الحقيقة. أولاهما أسهل، أنّ المدير طلب أن يعزمه علي شاي، وهذا معناه خرق للميزانية، وسيضطره إلي إلغاء شاي الظهيرة، أما الأصعب فاللافتة المعلقة خلف ظهر المدير تماماً "لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً، وإنا لن نُورّث أو نُستعبد بعد اليوم". ماذا سيقول المدير؟ من المؤكد أنه سيفهم أنها موجّهة إليه، ولا أحد سيعرف لحظتها ما سيُقدم عليه. كان يخشي أن يظهر التوتر علي ملامحه، وحاول أن يجاري المدير الذي كان ينقل إليه مكالمات جرت بعد منتصف الليل مع عدد من المسئولين الذين وعدوه بنقل باتا من مكانها إلي مكان آخر. وخص المدير في كلامه- وزير الإسكان بالمديح، لأنه وصف المؤسسة بالمفخرة الوطنية التي تخرّج رجالاً من نوع خاص قادرين علي خدمة وطنهم، وهي تستحق التدخّل لدي الوزارات والجهات المعنية من أجل زيادة مساحتها، حتي لو كان ذلك علي حساب باتا. كان طانيوس يريد أن يمنع نفسه من الكلام، أولاً لأنه لا يريد امتداح المدير، وثانياً لأنه مشغول باللافتة، ولكنه تحدث، ووجد نفسه يقول إنّ المؤسسة كان يجب أن تغيّر من شكل المنطقة، فلو أنها كانت أكثر ارتباطاً بالواقع لتم فتح محال ملابس، وأغذية، وأدوات منزلية، وغيرها لخدمتها، ولو أنها كانت أكثر ثقلاً لكانت وزارة النقل خصصت محطة للباص بجوارها، ولكنها وُلدت متعالية، ومنفصلة، ومكتفية، كأنها جيش منكفئ علي نفسه داخل أسواره. خرج المدير بعد أن رمقه من أعلي إلي أسفل، ويبدو أنه في ظلّ غضبته لم يلحظ اللافتة. بعد أسبوعين علي هذا الموقف تم وضع لافتة صفراء مكتوب عليها بالأسود "مغلق" أمام باتا، وبعد أسبوع آخر بدأت الجرافات في إزالة المبني، كان طانيوس يفتح البوابة ويقف لحظات ليراقب عملية الهدم، ولكن الأتربة كانت تعيده بسرعة، وكان التساؤل المسيطر عليه والذي وجّهه إلي المدير: هل حصلت المؤسسة فعلاً علي أرض باتا.. ولو حدث هل سيتم هدم السور في المنطقة القريبة منها، وبناؤه مجدداً ليستوعب مساحة باتا؟! ورد المدير: -فعلاً إنت ما بتعرفش تفكر، أولاً مساحة باتا صُغيَّرة جداً، ولو ضميناها زي ما بتفكر هتبقي عاملة زي الكيس الدهني في جسم المؤسسة، إحنا هنبني شركة هنبيع فيها شغل الطلاب الفني، الرسومات، والآركت، وبكده هنمسح تاريخ باتا تماماً! ولكن يبدو أنّ المدير كان واهماً، فقد دخل عليه طانيوس في اليوم الذي لن ينام فيه وعيناه تحملان قدراً كبيراً من اللؤم والشماتة، ومد إليه يده بالمظاريف الجديدة: -اتفضل، كلهم كاتبين، مؤسسة 1 أغسطس، بجوار ناصية باتا القديمة!