أعجبني وأدهشني في نفس الوقت هذا العنوان »تكريم عمر بن الخطاب بدلا من طه حسين« والمصاحب للخبر المنشور بجريدتنا الغراء »أخبار الأدب« بعدد 27 نوفمبر 2011، أما الإعجاب فلأنه عنوان صحفي جذاب، وأما الدهشة فلأن الخبر لم يتتبع بالتفصيل المحاضرة التي ألقاها صاحب هذه السطور احتفالا بذكري ميلاد عميد الأدب العربي في مركز »رامتان الثقافي« يوم 16 نوفمبر، فقد جاء الحديث عن عمر بن الخطاب كأحد المحاور في رؤية طه حسين للديمقراطية والتي ركزت فيها علي عدة محاور، أولها ميلاد الجمهورية الديمقراطية في بلاد اليونان القديمة قبل ستمائة سنة قبل الميلاد، واختيار طه حسين لعمر بن الخطاب كنموذج انساني استطاع ان يحقق العدل الذي تتطلع إليه أي ديمقراطية في العالم، وهذا هو المحور الثاني، في تناوله لقضية الديمقراطية عند طه حسين، أما المحور الثالث فهو اختيار عميد الأدب العربي لبريطانيا نموذجا للتطبيق الديمقراطي، حيث استطاع الإنجليز أن يلائموا بين حقوق الفرد وواجباته، وحقوق الوطن وواجباته، حيث لاتغني شخصية الفرد في الجماعة، في نفس الوقت الذي يعرف فيه الفرد حق الجماعة، وبهذه المواءمة استقرت الديمقراطية البريطانية. أما المحور الرابع فهو التعليم والذي جعل طه حسين منه أساسا لنجاح الديمقراطية، التي أخص ما فيها الطموح للعدل، هذا الطموح إلي ان يستكشف الشعب نفسه- حسبما يري طه حسين، او حسبما يقول بالنص: »وما أظن الشعب يستطيع أن يستكشف نفسه إذا كان جاهلا، إذن فأشد أعداء الديمقراطية خطرا هو الجهل، ولست أغلو والحديث مازال لطه حسين- إذا قلت إن الديمقراطية لاتبغض شيئا كما تبغض الجهل ولاتحب شيئا كما تحب العلم والمعرفة«. وقد ضرب طه حسين مثالا طريفا للتدليل علي سلامة رأيه حين قال: »وليس بعيدا هذا العهد الذي حارب فيه أحد النواب الذين كانوا يسعون إلي الجمعية التشريعية، أحد خصومه (وهو لطفي السيد أستاذ الجيل) فأذاع بين الناخبين أنه رجل ديمقراطي، وزعم للناخبين أن الرجل الديمقراطي هو الذي يبيح للمرأة ان تتزوج أربعة رجال كما أباح الله للرجل أن يتزوج أربع نساء، وقد فشل الديمقراطي وفاز خصمه في الانتخاب. أما المحور الأخير فتناول الشروط التي يجب ان تتوافر في النائب المرشح للبرلمان وأخصها أن يكون ميالا للخدمة العامة متحملا اخطار السياسة باعتبارها حربا لايجني ثمارها إلا من تعرض لأخطارها، وليست النيابة. كما يتصورها البعض صناعة حين ينبغي ألا تكون إلا واجبا، وأمل سام ومثل أعلي، وإلا فلست سياسيا، أو كما يقول طه حسين: »ليس عملك في السياسة إلا شعوذة وطلبا للكسب، والثروة«. هذا هو مجمل المحاضرة، أما الإطالة في سرد أحداث تبرز شخصية عمر، وكيف كان يتعامل مع الدول التي فتحت في عصره- كما جاء في الخبر المنشور بصحيفتكم- فقد كان له ما يبرره، خاصة إذا علمنا أن طه حسين نفسه قد اختص عمر بن الخطاب بمحاضرتين، باعبتاره مثلا ونموذجا للعدل الاجتماعي الذي هو أهم عنصر في نجاح أي ديمقراطية في العالم، فقد ألقي طه حسين محاضرته الأولي في 25 فبراير 1955 بقاعة إيوارت التذكارية بالجامعة الامريكية، والمحاضرة الثانية في جمعية الشبان المسلمين في 27 مارس 1955، لاحظ دلالة التاريخ الذي ألقي طه حسين محاضرتيه في شهرين متتابعين من سنة 1955 في السنوات الأولي من الثورة، وكأنه يوجه رسالة الي المسئولين عن البلاد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وهو لايوجه رسالة مباشرة، فقد كانت الظروف وقتها لاتسمح بذلك حيث لم يكن أحد يأمن حكم العسكر، وهو التخوف القائم الآن بعد ثورة 25 يناير 2011، ولكن رسالة طه حسين كانت واضحة الي القائمين علي أمور البلاد بضرورة السلوك الديمقراطي القائم علي العدالة الاجتماعية، هذه العدالة التي استطاع عمر ان يحققها علي اتساع الدولة الإسلامية باختلاف عاداتها وتقاليدها ولغاتها، لقد استطاع عمر أن يرضي بعدله الغالبين أي الفاتحين، والمغلوبين، من أهل البلاد المفتوحة. أما انني ذكرت في محاضرتي المشار اليها »أنه ما من ديمقراطية في العالم وصلت لديمقراطية عمر بن الخطاب!«- وعلامة التعجب بقلم كاتب الخبر- فإنني أترك طه حسين نفسه ليوضح الأمر ويجلو الحقيقة حين قال بمحاضرته بالجامعة الامريكية -المشار إليها-: »وأعترف أنني لا أحب أحدا من عظماء المسلمين كما أحب عمر، لأنه أعظم المسلمين بعد النبي »صلي الله عليه وسلم« أثرا في الحياة الإسلامية، وهو -كما تعرفون- يصور المثل الأعلي لكل ما يمكن أن تطمح إليه الشعوب في تحقيق العدل في الأرض، فالحديث عن عمر هو حديث عن العدل قبل كل شيء، وعن العدل بأوسع معانيه، العدل السياسي، والعدل الاجتماعي بنوع خاص، فعمر هو الخليفة الذي لم يعرف نظام الطبقات، ولم يعرف فرقا بين قوي وضعيف، ولا فرقا بين غني وفقير، ولا فرقا بين عاجز وقادر. دائما كان الناس عنده كما هم أمام الإسلام سواء، لا فرق بينهم إلا بالتقوي والأعمال الصالحة، واذا تحدث الناس عن عمر فإنهم يتحدثون عن هذا المثل الأعلي الذي تتحدث عنه قلوبهم، وتتمناه نفوسهم وتطمح إليه عقولهم، ثم تقصر عنه الظروف السياسية والاجتماعية التي تحيط بهم، فعمر يوشك ان يكون حلما من الأحلام لولا أنه كان فيما مضي حقيقة واقعة، وآثاره لاتزال باقية ما بقيت البلاد الإسلامية، فهو الحلم الذي اتيح له أن يتحقق، وهو المثل الأعلي الذي اتيح للناس ان يروه وأن يعرفوه وأن يعاشروه وقتا«. فهل اخطأت اذ اطلت في الحديث عن عمر وسيرته؟. لقد كنت اعبر عن رؤية طه حسين نفسه، والذي رأي في عمر المثل والقدوة، حتي ان علي بن ابي طالب رأي ان ابا بكر وعمر قد اتعبا من بعدهما اتعابا شديدا، أليس يحق لنا ان نحتفل بعمر بن الخطاب حيث اننا نحتفل برأس السنة الهجرية هذه الأيام والتي كانت من ابتكاره حين جعل من الهجرة النبوية الشريفة بداية للتاريخ الإسلامي أو ما يعرف بالسنة الهجرية؟ أليس الاحتفال بعمر هو احتفال بالعدالة الاجتماعية التي ننشدها ونتطلع اليها ونأمل فيها في أعقاب ثورتنا المباركة في 25 يناير، فلماذا لانكرم عمر بن الخطاب التماسا للعدل في مجتمعنا الديمقراطي الجديد الذي بدأناه بالانتخابات البرلمانية الجارية الآن؟. انه ليس تكريما لعمر بن الخطاب بدلا من طه حسين، ولكنه تكريم ايضا لطه حسين الذي نبهنا الي قيمة عمر وفضله، مما ابكاه، او كما يقول: »والشيء الذي انبئكم به لا اتردد ولا استحي، كما يستحي الرجال عادة من الإتيان بمثله، هو أني لا أقرأ قط سيرة عمر، لا استطيع وأنا اقرأ هذه السيرة ان املك دموعي«.