أستأنف اليوم حديثي عن نصر حامد أبوزيد, فأبدأ بتفصيل ما أجملته في نهاية حديثي السابق عنه, حين قلت إن نصر حامد أبوزيد وجيله كله كان تجسيدا للصيحة التي أطلقها طه حسين عندما تولي وزارة المعارف في حكومة الوفد الأخيرة, التي تولت السلطة في الخمسينيات الأولي من القرن العشرين. قال طه حسين وهو يضع الأساس الثقافي والأخلاقي للقرار الذي اتخذه بجعل التعليم مجانا: العلم كالماء والهواء حق لكل مواطن. وهي عبارة جميلة يستطيع كل منا أن يرددها بيسر, وهذا ما تعودنا أن نفعله مسحورين بجمالها, غير منتبهين في الغالب لدلالاتها الفكرية والسياسية التي تجعل المعرفة شرطا للوجود الإنساني, فالإنسان لا يكون إنسانا إلا بالعقل. والعقل استعداد وإمكان لا يؤدي وظيفته ولا يفعل فعله إلا بالعلم الذي تنتقل به خبرات الأسلاف وتجاربهم الي الأخلاف, فإذا لم يتمكن الإنسان من هذا التراث كان جاهلا معطل العقل, لا يستطيع أن يمارس وجوده كإنسان أو كمواطن فكيف إذن تجتمع الأمة؟ وكيف يقوم النظام؟ وكيف تتحقق الديمقراطية التي حملت طه حسين الي كرسي الوزارة؟ لايمكن لهذا كله أن يكون أو يتحقق إلا بالعلم, والمبدأ الذي أعلنه طه حسين, والشعار الذي رفعه كان تعبيرا عن النضج الذي بلغته النهضة المصرية الحديثة في أربعينيات القرن الماضي, حيث نشأ جيل جديد من المثقفين المصريين يختلف اختلافا واضحا عن الأجيال التي سبقته وان دان لها بالكثير, فهو أولا من أبناء الريف, ومن الطبقات الفقيرة التي أيقظت النهضة خيالها, وأثارت أشواقها, وفتحت أمامها الطريق, لكنها لم تزودها بالقدرة المادية الكافية, ومن هنا كان لابد لهذا الجيل أن يعتمد علي نفسه, وأن يحتمل التجارب القاسية التي تعرض لها كما فعل نصر حامد أبوزيد الذي كانت حياته واختياراته تجسيدا لأفكار طه حسين واستجابة لما دعا إليه. لم يكتف نصر حامد أبوزيد بالتعليم المتوسط الذي وفرته له أسرته الفقيرة, وانما جاهد نفسه, وغالب ظروفه الصعبة حتي غلبها واستطاع أن يلتحق بالجامعة, لا ليحصل علي شهادة عالية تضمن له وظيفة مناسبة كما يفعل الكثيرون, ولكن ليتعلم بالمعني الجوهري لهذه الكلمة, أي ليعرف كيف يسأل ويعرف كيف يجيب, وليجعل العلم طريقا لمعرفة الحقيقة, وليسير في طريق الحقيقة غير هياب ولا وجل. وكما جسد نصر حامد أبوزيد صيحة العميد التي دعا فيها للعلم, جسد صيحته التي دعا فيها الي مراجعة التراث العربي وبناء ثقافة حديثة نؤسسها علي النقد, ونسعي فيها الي اليقين كما صنع في كتابه في الشعر الجاهلي الذي درس فيه الشعر المنسوب للجاهلية علي أساس المنهج الذي يقضي بأن نخلي اذهاننا من كل فكرة سابقة ومن كل معرفة نقلية ولو كان مصدرها الكتب المقدسة, لأن الكتب المقدسة تعلمنا الدين, أما الجغرافيا, والتاريخ, والطبيعة, والكيمياء, والجيولوجيا, والطب, والفلك فنصل الي معرفتها بالخبرة والتجربة, والعقل والمنطق, وكما أن النصوص الدينية لا تفرض علينا أن نؤمن بأن الأرض مسطحة وثابتة كما تقول, وننكر أنها كرة تدور حول نفسها وحول الشمس كما أثبت العلم الحديث, فالنصوص الدينية لا تفرض علينا أيضا أن نؤمن بما جاء فيها عن تاريخ العرب ولغتهم وننكر ما وصل إليه المؤرخون واللغويون من معلومات وحقائق, وفي هذا يقول طه حسين للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل, وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا, ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي, فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم ونشأة العرب المستعربة فيها.. وطه حسين لا يريد هنا أن يكذب النصوص الدينية أو ينصر العلم علي الدين, وانما يريد أن يميز بينهما, فالعالم الذي نعيش فيه هو موضوع العلم, أما الدين فموضوعه العالم الآخر, فإن ورد في النص الديني ما يخالف الحقائق العلمية اذا فهم فهما حرفيا, فعلينا أن نؤول النص الديني بحيث لا يتعارض مع العلم, لقد أرادت النصوص الدينية التي تحدثت عن ابراهيم واسماعيل واسحق أن تؤكد وحدة الأديان السماوية, فإسماعيل أبوالعرب, واسحق أبواليهود, وهما اخوان أبوهما واحد هو ابراهيم عليه السلام, ووحدة الأديان السماوية حقيقة ثابتة يتفق فيها العلم مع الدين. هذا المنهج الذي اعتمد عليه طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي هو الذي بدأ منه نصر حامد أبوزيد في دراسته للنص الديني, وأضاف إليه ما اكتسبه من مراجعته للتراث العربي الأدبي والديني, ومن قراءاته في النقد وفي علم اللغة الحديث. وهو يبدأ بأن النص الديني شيء, وفهمنا له شيء آخر وهذه حقيقة ثابتة في الماضي, كما هي ثابتة في الحاضر, والدليل علي ذلك, تلك الفرق والمذاهب والجماعات التي تنتمي للإسلام أو للمسيحية وهي تختلف فيما بينها اختلافا شديدا. وهو لا يستطيع أن يفهم النص الديني إلا أنه خطاب موجه للإنسان الذي يعيش في هذا العالم, أي في مجتمع بالذات, في زمن معين, وفي مكان معين, فلا يمكن فهمه إلا بالرجوع الي الظروف التي أحاطت به والأسئلة التي أجاب عليها. وهو لا يستطيع في النهاية إلا أن يميز في النص الديني بين المعاني الظاهرة والمعاني الباطنة, فالكلمة ليس لها معني واحد, والمعني يتغير حين تقترن الكلمة بكلمة أخري, والحقيقة غير المجاز, والمرأة الجميلة تصبح مرة قمرا, ومرة غصنا, ومرة غزالة, واللغة إذن حمالة أوجه, ووراء المعني معني آخر, ومجال الاجتهاد في فهم النص الديني مفتوح, والذين يوحدون بين النص الديني وبين فهمهم له يريدون أن يحتكروا الفهم وينفردوا بالسلطة, إنهم ليسوا مدعي نبوة فقط, بل هم مدعو ألوهية, ولهذا حاربهم نصر حامد أبوزيد وحاربوه. أريد أن أقول في نهاية هذا الحديث إن نصر حامد أبوزيد هو الابن الشرعي لطه حسين, كما أن طه حسين هو الابن الشرعي للنهضة المصرية التي أصبح علينا أن نختار موقفنا منها, إما أن نقف الي جانبها وإما أن نتخلي عنها ونعود الي عصور الانحطاط!