حديثى اليوم عن نصر حامد أبوزيد الذى أصبحنا نعرفه ميتاً أكثر مما عرفناه حياً، بل نحن لم نكتف بأن نجهله فى حياته وإنما خاصمناه وحاربناه وطاردناه وقطعنا عليه الطرق وكفرناه وفرقنا بينه وبين أهله ونفيناه من وطنه وطن آبائه وأجداده ودمرناه تدميراً. ويبدو أن ما فعلناه مع نصر حامد أبوزيد أصبح عندنا تقليدا متبعا أو ثقافة قومية, فنحن في هذه المرحلة من تاريخنا نحتاج للبكاء, لكننا لا نستطيع أن نبكي بلا سبب, إذن علينا أن نبحث عن فقيد نبكيه, فإذا كان هذا الفقيد مازال علي قيد الحياة, فعلينا أن ننهال عليه بالطعنات لنحرره من قيده, ونلوث أيدينا بدمه لنشعر بالذنب, وعندئذ تنهمر دموعنا مدرارا! وأنا أنظر في الصحف هذه الأيام فأراها تتسابق في الكتابة عنه, وكنت قبل أيام في بيروت عندما وجدته صدفة في احدي القنوات التليفزيونية, في حديث طويل ممتع شارك فيه مفتي لبنان, ورئيس تحرير النهار, وكتاب وعلماء آخرون. قلت في نفسي ولمن أقول؟! لو أن هؤلاء اجتمعوا حوله في حياته ليدافعوا عنه في محنته كما اجتمعوا اليوم ليؤبنوه لكان خيرا له ولنا, لكن من يدري؟ ربما انتفع بالظلم, وانتفعنا معه, أكثر مما كان ينتفع بالعدل, فقد كشفت المحنة عن فضائله ومواهبه, كما كشفت عن سيئات خصومه وخصومنا, وأتاحت له أن يستكمل خارج وطنه ما كان يعجز عن الوصول الي شيء منه وهو بين ظهرانينا, أقصي ما كان يحققه هنا هو أن يحصل علي ترقية ترفع أجره عشرة جنيهات أو عشرين, ثم يستعين علي قلة الشيء ببيع الملخصات للطلاب, أو بالعمل مدة في جامعة قريبة يعود بعدها وقد أطال لحيته, وقصر جلبابه, وفرض علي الدكتورة ابتهال يونس أن تنتقب! وها أنا أشارك في الحديث عن نصر حامد أبوزيد بعد رحيله, فلا أدري من أين أبدأ, لأن الحديث عنه كما تقول العبارة المحفوظة ذو شجون, والشجون هنا ليست جمعا للشجن, بفتح الجيم, وهو الهم والحزن وإن كان في الحديث عن هذا الراحل المغدور كثير مما يحزن وإنما الشجون جمع شجن بتسكين الجيم. وهو الطريق في واد تتفرع منه الطرق فيحتار السالك فيه ولا يدري أي طريق يختار, ذلك لأن نصر حامد أبوزيد ليس مجرد أستاذ جامعي, وليس مجرد مفكر مضطهد, وانما هو قبل كل شيء إنسان حر شجاع متمرد خارج علي القيود والحدود التي تحبس العقل وتقيد الخطي وترد الإنسان بهيمة. وقد خرج نصر حامد أبوزيد أول ما خرج علي ظروفه الصعبة وانتصر عليها, ثم خرج علي كهان هذا الزمان الذين انفردوا بالقول والفعل وصنعوا من أنفسهم سلطة داخل السلطة تتحكم في مؤسسات الدولة وتزيف وعي الناس وتحرضهم علي آبائهم وأبنائهم واخوتهم واخواتهم, فالحديث عن نصر حامد أبوزيد حديث عن مصر والمصريين, عن الحرية والاستبداد, وعن العقل والخرافة, وسوف أكتفي اليوم بكلمة عن معركته الأولي مع الظروف الصعبة التي نشأ فيها كما نشأ جيله كله. ونحن نعرف أن نصر حامد أبوزيد ولد ونشأ في أسرة بسيطة في قرية صغيرة من قري وسط الدلتا, في أربعينيات القرن الماضي التي اضطرمت فيها نفوس المصريين التواقين للحرية والاستقلال والتقدم, وتفجرت مواهبهم, وانفتحوا علي حياة العصر وعلي أحداثه وثقافاته. في الأربعينيات, كانت الثورة الوطنية المصرية التي اشتعلت في نهاية الحرب الأولي قد خطت خطوات في الطريق الي الاستقلال, والحياة الدستورية, والاقتصاد الحديث, والتعليم المدني, وقد نتج عن هذا ظهور تنظيمات وتيارات يسارية اعتدل بها الميزان الذي اختل بظهور الجماعات الدينية والفاشية. وفي الأربعينيات كانت الحرب العالمية الثانية قد اشتعلت, وكانت المشكلة الفلسطينية قد تفجرت, وأصبحت مصر جبهة من جبهات الحرب التي دارت رحاها في صحرائنا الغربية, وساحة من ساحات الصراع العربي الصهيوني الذي فرض علينا نفسه, وحملنا تبعاته, وأدخلنا في سلسلة من التجارب العنيفة والمغامرات الخطرة جرت علينا ولاتزال ما نتخبط فيه منذ أكثر من نصف قرن, ومنه هذه الردة الثقافية والحضارية التي كان نصر حامد أبوزيد ضحية من ضحاياها. وفي الأربعينيات نشأ جيل من المصريين الذين لم يتح لهم من قبل أن يشاركوا في حياة بلادهم إلا بعمل أيديهم, فهم فقراء لا يملكون إلا القليل الذي لا يساعدهم علي الخروج من فقرهم, وهم فلاحون وأبناء فلاحين يعيشون في قراهم معزولين عن حياة المدينة, لكن مناخ الأربعينيات ساعدهم علي الخروج, فالحرب التي قطعت طرق التجارة الدولية وأوقفت حركة التصدير والاستيراد فتحت المجال أمام حركة التصنيع المصرية الوليدة, وشجعت أصحاب رءوس الأموال علي بناء المصانع, والنهضة الصناعية فتحت المجال لنهضة اجتماعية تمثلت في تحول الآلاف من أبناء الفلاحين الي عمال انخرطوا في حياة المدينة وحملوا ثقافتها الجديدة الي قراهم. والمرأة المصرية التي كانت لاتزال في العشرينيات والثلاثينيات تكافح لتنزع الحجاب دخلت الجامعة في الأربعينيات, وانخرطت في الحياة العامة, واشتغلت بالسياسة والثقافة التي ازدهرت في الأربعينيات واستكملت أدواتها. ولقد كان نصر حامد أبوزيد في السابعة من عمره حين أطلق عميد الأدب العربي الذي أصبح وزيرا للمعارف في وزارة الوفد الأخيرة صيحته, التي كان نصر حامد أبوزيد وكان جيل الأربعينيات كله تجسيدا لها: العلم كالماء والهواء حق لكل مواطن, وحق المواطن في هذه الصيحة يشير الي واجب الدولة في ضمان التعليم المجاني للمواطنين, دون أن يعفيهم من أن يكافحوا في سبيل الحصول علي حقهم, وهذا ما صنعه نصر حامد أبوزيد الذي لم يلب دعوة العميد الي أن يتعلم فحسب, بل لبي أيضا دعوته الي أن نضع علم المتقدمين كله ليس فقط موضع البحث, بل موضع الشك! وسوف نواصل هذا الحديث.