«نصر حامد أبو زيد» شخص استثنائي بلاشك، ليس فقط لأنه مفكر حر، وباحث متميز، وأكاديمي مرموق، ومجدد متمرد علي الجمود والخرافة وعقلية القطيع، ومجتهد في عصر أغلق باب الاجتهاد بالضبة والمفتاح وتنازل عن العقل والعقلانية. نصر حامد أبوزيد شخص استثنائي ليس بسبب كل ذلك فقط.. وإنما أيضاً لأنه تماهي مع أفكاره، وتمسك بها في وقت كان فيه المتشبث بما يعتقد أشبه بالقابض علي الجمر، ودفع ببسالة منقطعة النظير ثمن شجاعته الفكرية، ولم يتراجع أو يتنازل، ولم يساوم أو يجبن، وتجنب في نفس الوقت الوقوع في فخ السجالات الاستعراضية والسفسطة الفارغة والملاسنات العقيمة، وانكب علي مواصلة مشروعه الفكري التجديدي والتنويري الذي يقتلع من الثقافة العربية والإسلامية جبالاً من التابوهات والرطانات التي تضع الخطاب الديني في خدمة التخلف والاستبداد بدلاً من أن يكون رافعة لتقدم الأوطان وحرية المواطنين. ودفع نصر حامد أبوزيد الثمن باهظاً، حيث حوله خصومه وأعداء مشروعه الفكري من أكاديمي مرموق يستحق الدعم والمساندة والتشجيع إلي «متهم» في قضية «حسبة» وكأننا في العصور الوسطي ولسنا في القرن العشرين (وقت محاكمته). وفي ظل محاكمة أشبه بمحاكم التفتيش صدر حكم بالغ الغرابة بالتفريق بين نصر حامد أبوزيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس أستاذ الأدب الفرنسي بإحدي الجامعات المصرية. هذا الحكم لم يكن مجرد عقوبة مجحفة ضد شخص نصر حامد أبوزيد، وإنما كان طعنة للحرية الأكاديمية، ولحرية التعبير، ولحرية التفكير، ولحرية العقيدة، ولروح الدولة المدنية الحديثة. ومع ذلك فقد استخف بعض خصوم نصر حامد أبو زيد بهذا الحكم المجحف، وزعموا أنه «مخفف» جداً وأن الدكتور أبوزيد - حسب ادعائهم - يستحق عقوبة أشد باعتباره «مرتدا» والعياذ بالله. والحقيقة هي أن تهمة «الردة» في حد ذاتها هي نوع من الإرهاب الفكري، كما أن الحكم بالتفريق بين «أبوزيد» وزوجته حكم بالغ الإجحاف والقسوة، لأنه لا يعني فقط إخراج الرجل من الدين (لأنه مبني علي التسليم بأن أبوزيد قد أنكر ما هو معروف من الدين بالضرورة وأصبح خارج الملة الإسلامية الأمر الذي لا يؤهله للاستمرار في الزواج من امرأة مسلمة). هذا الحكم الذي ينتمي إلي العصور الوسطي يعني - فوق إخراج نصر حامد أبوزيد من الدين - إخراجه من دائرة الإنسانية أيضا، حيث يتم تجريده من أبسط حقوقه كإنسان ! ورغم ذلك لم يستسلم نصر حامد أبوزيد، ولم يضعف بل واصل دراساته الرائعة التي تعتبر ثورة حقيقية في علم المعني وقراءة الخطاب الديني ومفهوم النص الديني. ورغم عذابات المنفي «الاختياري» الذي عاش فيه نصر حامد أبوزيد بعد صدور هذا الحكم العجيب لم يفقد الرجل حس الدعابة، حيث دأب علي القول إن «الأزمات التي مررت بها ساعدت علي بيع وانتشار كتبي، فنظرة واحدة علي مبيعات كتبي بعد الهجوم علي وقبله تؤكد أن من يهاجمونني هم الذين في أزمة»! هذه الصلابة التي نلحظها لم تأت من فراغ، بل إن لها جذوراً عميقة في سيرة هذا المفكر الكبير، وظروف نشأته، ومراحل تكوينه الفكري. لكن لها دعامة أخري لا تقل أهمية، هي زوجته الدكتورة ابتهال يونس. ابتهال يونس مثلها مثل نصر حامد أبوزيد شخصية استثنائية. فهي أستاذة جامعية وباحثة أكاديمية مرموقة، وفي نفس الوقت زوجة محبة ومخلصة بالغة «الجدعنة». وقفت إلي جانب زوجها المتهم بالكفر، ولم يرهبها الحكم الصادر ضده، بل قالت علي رءوس الأشهاد: «لو خرجوا علينا بمدافعهم الرشاسة لقتل نصر حامد أبوزيد لمنعتهم بجسدي». رفضت بإباء وشمم «نصائح» البعض الذين اقترحوا عليها إعادة عقد قرانها من الدكتور نصر بحجة بطلان عقد زواجهما السابق بناء علي حكم المحكمة، والعودة إلي حالة الزواج الطبيعي، قائلة إنها ترفض القيام بذلك لأن معناه إقرارها بأن زواجهما كان باطلاً وهو ما لا تقبله. تمسكت ابتهال يونس بزوجها وكرامتها وتحملت العيش في المنفي «الاختياري» بكل ما فيه من قسوة. وبالمناسبة ردد خصوم نصر حامد أبوزيد خرافات كثيرة وقصصا من نسج الخيال المريض عن حياته في هولندا التي سافر إليها بعد صدور الحكم المشار إليه، وزعموا أنه يعيش عيشة الملوك والأباطرة محاطاً بكل مظاهر النعيم، وهذا كذب مطلق رغم صدوره عن شخصيات تدعي الغيرة علي الدين والفضيلة، وقد رأيت بنفسي كيف يعيش نصر حامد أبوزيد وزوجته، حيث قمت بزيارتهما أكثر من مرة في بيتهما في مدينة «لايدن» الهولندية، ولم يكن هذا البيت أكثر من شقة بالغة التواضع في حي لا يختلف كثيراً عن الحي البسيط الذي كانا يسكنان فيه بمدينة 6 أكتوبر قبل هذه المحنة. وتحملت ابتهال يونس كذلك سخافات كثيرة من بينها تطاول بعض المتاجرين بالدين عليها الذين اتهموها بأن استمرار ارتباطها بنصر حامد أبوزيد يعد «فاحشة». ومضي أحد هؤلاء إلي «الاستظراف» ثقيل الظل ليقول ببجاحة إنه مستعد لتزويجها من رجل آخر إذا كانت مشكلتها هي كيفية الحصول علي زوج بديل. هل رأيتم إلي أي مدي يمكن أن يصل الانحطاط الأخلاقي وبلادة الإحساس؟! إن وقوف ابتهال يونس إلي جانب زوجها في أحلك الأوقات، وتحملها لإساءات لا حصر لها، وصمودها في هذه المعركة المتعددة الأبعاد، لا يقل بطولة عن صلابة الدكتور نصر حامد أبوزيد في هذه المعركة الرهيبة. وهذه الصلابة تقدم دليلاً جديداً علي أن مصر - رغم كل شيء - يظل بها رجال ونساء يستحقون وسام الاحترام والتقدير ويعطوننا الأمل في أن ثروة مصر الحقيقية، التي تتمثل في رأس مالها البشري والاجتماعي، لا تنضب - رغم محاولات التجريف والاغتيال المعنوي - مادام في أرض الكنانة أناس مثل ابتهال يونس ونصر حامد أبوزيد.