«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب
نشر في أخبار الأدب يوم 11 - 09 - 2011

عندما يعود رولان بارت إلي كتابه بارت بقلم بارت Barthes par Barthes ، لا يجد نفسه ناقداً، ولا سيميولوجياً، وإنما كاتباً. إنه لا يقلب الرأي في صحة المفاهيم التي شدَّد عليها، وإنما ينتبه إلي فاعليتها كتكتيكات للكتابة إنها تجعل النص يعمل بالطريقة الملائمة ، إنها تتيح له قول شيء . لقد جعله موت أمه راغباً في الكتابة عنها، وأظهر المسار النهائي لمحاضراته في الكوليج دي فرانس، حول الاستعداد للرواية ، اهتماماً مدهشاً بتفاصيل حياة الكُتَّاب ، وبالكيفية التي كانوا ينظمون بها اوقاتهم، فضاءات عملهم، وحياتهم الاجتماعية أثناء انخراطهم في عملية الكتابة.
ناقش في المقابلات الشخصية التي جرت معه وفي كتاب بارت بقلم بارت علاقته الخاصة بأدوات الكتابة (القلم الحبر كان مفضلاً علي القلم الجاف أو الآلة الكاتبة)، وتنظيم طاولة الكتابة، وجدوله اليومي - مناقشات تم محاكاتها محاكاة ساخرة في Le Roland Barthes san peine . لقد أعلن ذات مرة، أن الكتابة بالنسبة لكاتب حقيقي فعلٌ لازم: إننا نكتب فحسب (أو نكتب نصاً). والآن، يقدم عمله ذاته علي النحو التالي: إن مهمته ليست تحليل أنواع معينة من الظواهر عن طريق القراءة. بارت بقلم بارت ليس نقداً لأعماله السابقة: إنني أتخلي عن التتبع المرهق لقطعةٍ قديمة من نفسي، أنا لا أحاول استعادة نفسي (كما يمكن أن نقول عن الأثر أو التذكار). أنا لا أقول: سوف أصف نفسي؛ ولكن أكتب نصاً أدعوه ر. ب . إنه يقترح أن عمله كله يمكن أن يكون محاولة سرية لإحياء يومية جيد ، وهو شكل أدبي تستكشف مقاطعه بانعكاسٍ ذاتي صلته الفعالة بالكتابة.
حتي في الوقت الذي كان يقترح فيه علوماً جديدة، منح نفسه إجازة الكاتب في أن ينتحل ويستثمر لغة اختصاصات أخري. مقاله الأسطورة اليوم في كتاب ميثولوجيات Mythologies يخبرنا في فقرته الأولي بأن الأسطورة نوعٌ من الكلام ، أحد أنظمة الاتصال ، رسالة و إحدي صيغ التدليل ، التي تستخف في مرح بالتمييزات الهامة بين هذه المفردات في اللسانيات. ولقد غدت علاقة بارت الكتابية في ما بعد بالمفاهيم أكثر وضوحاً وأصبحت موضوعاً للتعليق. كتاب الغرفة المضيئة La chamber claire ، يقول بارت، ينحرف عن فينومينولوجيا مبهمة اتفاقية، بل وكلبية ساخرة، وهو يوافق بيسر علي تشويه أو تفادي مبادئها تبعاً للهوي الذي يوجه تحليلي
إن مقطعاً من بارت بقلم بارت يصف هذا النزوع بمفردات مختلفة:
بالنسبة للأنظمة المحيطة به، ما هو عمله؟ تقول غرفة الصدي: إنه يعيد إنتاج الأفكار علي نحو سييء، إنه يتبع الكلمات، إنه يبدي احترامه لمفرداته اللغوية، يستدعي الأفكار، يكررها تحت اسم من الأسماء؛ إنه يستفيد من هذا الاسم كما يستفيد من رمز emblem (وبذا يمارس نوعاً من الأيديوغرافيا * الفلسفية) ويعفيه هذا الرمز من تتبع النظام الذي يكون الرمز فيه هو داله (الذي يمثل ببساطة علامةً له). إن الطرح أو التحويل transference المستمد من التحليل النفسي والذي يبدو أنه موجود هناك، يهجر مع ذلك بسهولة الموقف الأوديبي. إن مستودع الصور اللاكاني imaginaire يمتد إلي تخوم عشق الذات الكلاسيكي amoure propre.. إن البورجوازية تستقبل النبرة الماركسية كلها، ولكنها تستمر في تدفقها تجاه الجمالي والأخلاقي. وبهذه الطريقة، تنتقل الكلمات ، بدون شك، وتتواصل الأنظمة، وتختبر الحداثة modernity (الطريقة التي تُختبر بها كل الأزرار في جهاز راديو لا نعرف طريقة تشغيله)، ولكن المتناص intertext الذي يتم انتاجه بهذه الطريقة، يكون سطحياً علي نحو حَرْفي:
فالاسم (فلسفياً ، نفسياً تحليلياً ، سياسياً ، علمياً)، يحتفظ في نظامه الأصلي بخطٍ لا يُقطع ولكنه يبقي: متماسكاً وطافياً. إن السبب في ذلك دون شك هو أن المرء لا يمكنه أن يرغب في وقتٍ واحدٍ في كلمةٍ ويصل بها إلي منتهاها: إن الرغبة في الكلمة، بداخله ، تسود، ولكن تلك اللذة تتشكل جزئياً بفضل نوع من الاهتزاز المذهبي.
ومهما يكن من أمر لذائذ تحرير مصطلحٍ ما من نظامه الأصلي، فإن الاهتزاز المذهبي كانت له أهميته بالنسبة لنجاح كتابات بارت، وعندما كان يتخلي عن ذلك عبر ابتكاره لمصطلحاته الخاصة، متخلياً عن الدعم المكشوف لمتن خطابٍ آخر، فإن النتائج تكون جد مختلفة. ولكونه عاشقا دائماً للتصنيفات، فقد اعتاد اللجوء إلي مصطلحات فنية أو مسكوكات إغريقية. إنه يؤكد في عن راسين Sur Racine وجود ثلاثة أنواع من التاريخ الأدبي: تاريخ المدلولات الأدبية، تاريخ الدوال الأدبية، وتاريخ الدلالة الأدبية. إن استخدام المصطلحات التي تسكن معاً والتي يؤيدها نظام من الفكر، يمنح التصنيف منطقاً ومقبولية حتي في حالة استخدامها علي نحو مجازي. تأمل في المقابل، تصنيفاً من Sollers écrivain ، حيث يقترح بارت وجود خمس طرق لقراءة سولرز والتي يمكن أن تترجم تقريباً إلي في الوخز ، في التذوق ، في البسط ، الاسفاف بمستوي الأرض ، في كبد السماء إن هذه الطوبولوجيا تصويرية علي نحو مضاعف: إن المقولات تقدم كما لو أنها صيغ أو مفاتيح (قراءة في كبد السماء ، وهي مستمدة من مناطق جد مختلفة من الخطاب؛ ولا يكاد يكون بينها جامع مشترك وتستخدم بطرق ملتوية في القراءة. أن تقرأ في صيغة الوخز يعني ان تلتقط عبارات سائغة من هنا وهناك، وأن تقرأ في صيغة التذوق يعني أن تتبني بشكلٍ كامل تطوراً خاصاً، وأن تقرأ في صيغة البسط هو أن تتقدم بسرعة واضطرار ؛ بينما تتقدم قراءة في الاسفاف بمستوي سطح الأرض كلمة بكلمة، وتتبني قراءة في كبد السماء مسحاً يري النص كموضوعٍ في سياق ، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه طوبولوجيا الجاهز للاستعمال عند الحاجة: وهي قراءة موحية، وربما ذكية، ولكن بدون افتراضات نظرية، وفرصة تكاد تكون منعدمة في أن يحاول الآخرون دمجها في نظرية للقراءة. لقد واصل بارت عمل بيانات نظرية ولكنه كان يجد علي نحو متزايد طرقاً لتقديمها، طرقاً تقوض مكانتها النظرية.
إنه مميز ككاتبٍ، وعظيم الأثر: أستاذ النثر الفرنسي الذي سك لغة جديدة ونابضة بالحياة للنقاش الفكري. إن إيثاره لنحوٍ بَدَلي appositional فضفاض غير اعتيادي، يُسْلِك معاً في خيط واحد جملاً وعبارات تصل إلي ظاهرة من الظواهر من زوايا مختلفة، يُمَكِّنه من إضفاء طابع من المادية الحسِّية علي المفاهيم المجردة. وأساس فنه هو استخدام إحدي المفردات وإيحاءات سياقها المعتاد في سياق كامل الاختلاف، الأمر الذي يتجلي أكثر ما يتجلي في الاستعارات التي يُجْعَل فيها السياق المنقول صريحاً: أنا لا أستعيد نفسي (كما نتحدث عن أثر أو تذكار) ؛ معفي من المعني (كما يعفي المرء من الخدمة العسكرية) . إن بارت يصف خياله بوصفه تناظرياً homological وليس استعارياً، يهتم بمقارنة أنظمةٍ وليس موضوعاتٍ معينة وهذا ، في آن معاً، أحد ملامح أسلوبه واستراتيجية تحليلية عامة، مثلما يتعامل مع أحد الأنشطة بوصفه لغة ويسعي لاكتشاف المكونات والتمييزات الممكنة التي يستلزمها هذا النشاط.
إن كتاب إمبراطورية العلامات هو عمله الأول غير المقيد بمشروع نقدي تحليلي. لقد لاحظ أن اليابان حررتني كثيراً علي مستوي الكتابة لقد وجد أمامه في الحياة اليومية موضوعات ومشروعات كانت تتطلب كتابةً تتسم بالخفة والنشاط، ميثولوجيات سعيدة للحضارة خلافاً لميثولوجياتنا. وبدلاً من تخيل يوتوبيا خيالية، يكتب بارت، أستطيع دون أن أدعي بأي طريقة من الطرق تصوير أو تحليل أي واقع مهما كان نوعه، أن أنتقي من مكانٍ ما في العالم عدداً من الملامح (مفردة جرافية ولسانية) وأشكل منها نظاماً. وهذا هو النظام الذي سوف أطلق عليه اليابان . إن ستاً وعشرين مقطعاً طويلاً يتأمل كل منهما ملمحاً معيناً من ملامح هذه الحضارة - الطعام ، المسرح ، الوجوه، haiku ، آلات الثقب ترسم الخطوط العامة ليوتوبيا بارت ، حيث تفرغ الأشكال من المعني ويكون كل شيء سطحياً، دون أي ذكر لليابان الرأسمالية بمعجزاتها الاقتصادية وتفوقها التكنولوجي. لقد كان بارت علي وعي بنوع الانتهاك الذي يرتكبه والذي يتمثل في إضفائه طابعاً من المثالية علي اليابان، في الوقت الذي كان فيه أصدقاؤه من جماعة تل كل يشجعون ماوتسي تونج والثورة الثقافية الصينية. ومهما يكن من أمر حقيقتها، فإن اليابان وضعت بارت en situation d ecriture (في موقع الكتابة).
إن كتاب بارت بقلم بارت ربما يكون أهم إنجازات هذا الكاتب. إنه مجموعة من المقاطع المرتبة ترتيباً أبجدياً، بعضها بضمير المتكلم وبعضها بضمير الغائب، ولها عناوين عَرَضية إلي حدٍ ما، والتي يمكن أن تكون قد أضيفت فيما بعد لكي توحي بتنظيم عشوائي؛ هذا ليس كتاب أفكاره الخاصة وإنما كتابُ مقاومة أفكاره الخاصة . إن الكتاب المُغوي في انتقاصه الذاتي الخيالي يغري المرء باستخدامه كمرشدٍ معتمد، نظراً لإنكاره سلطته الخاصة علي وجه الخصوص: إن ما أكتبه عن نفسي ليس أبداً الكلمة الأخيرة: كلما كنت أكثر إخلاصاً، كنت أكثر قابلية للتأويل ... إن نصوصي منفصلة، ليس فيها نصٌ يتمم الآخر؛ والنص اللاحق ليس سوي نصٍ مغاير، وآخر نص في السلسلة ليس النهائي في المعني : نصٌ فوق نص لا يضيء شيئاً البته.
إنه يقاوم أفكاره ويتحدث عن ر. ب ، ولا يحلل نفسه وإنما يُخرِج نظاماً - للصورة مطوفاً حول صُوره ، مثل مسطحات علي المسرح ، مستدعياً بعضها من الكواليس، ودافعاً ببعضها الآخر إلي الخلف، في استبعاد لها. إنه يقدم ذكريات الطفولة علي نحو أكثر إيجابية ونوستالجية مما كانت توحي به ملاحظاته السابقة حول نفسه. إنه لا يتردد في رسم الخطوط العامة للحياة المطمئنة التي كان يحياها بوصفه أحد أعضاء الطبقة الوسطي، وخاصة عندما كان يقضي عطلاته في الريف... من المؤكد أنني عندما أفشي أسرار حياتي علي نحو أكبر، كلما فضحت نفسي أكثر لأن ما هو خصوصي حقيقة ً، وسييء السمعة بالنسبة لمعتقد Doka انتليجنسيا اليسار، هو الأفعال التافهة، آثار الأيديولوجية البورجوازية التي تبوح بها الذات ). إنه ، وفقاً لهذه الشروط، يُخاطِر بالفعل. ، علي الرغم من أن الكتاب كتوم علي نحو مدهش بالنسبة لموضوعات أخري. إنه يكتب عن أمه، ولكنه يتحاشي تماماً الكلام عن أخيه غير الشقيق الذي استبعده من كتابته دافعٌ غامض. إن نصير الجسد هذا لا يرتكب أي حماقات جنسية. إن مقتطفاً من الإلهة H يشير إلي أن اللذة الكامنة في إنحرافٍ ما (إنحراف الشذوذ الجنسي وتدخين الحشيش في هذه الحالة) غالباً ما يُستخف بها. ولكن ليس هناك ما يشير، سواء عن طريق
الاعتراف أو الحكاية، إلي الكيفية التي كانت عليها حياته الجنسية. إنني عبر كتابة الذات ، وجمع نظام الصورة أُعطلها لكي أحمي نفسي وأَعْرِضها في ذات الوقت . إن النِسب تكون محسوبةً بدقةإن صفات بارت يمكن أن تُعرض علي أفضل وجه عن طريق مقاطع مثل المقاطع التالية، وهي تأمل ذاتي الوعي حول الكتابة:
إن نبرةً حكمية يوحي بها هذا الكتاب (نحن ، المرء، دائماً) والآن ، تختلط الحكمة بفكرةٍ جوهرية حول الطبيعة الإنسانية، إنها ترتبط بأيديولوجيا كلاسيكية: إنها أكثر أشكال اللغة غطرسة (وأغباها في الغالب). لماذا لا نرفضها إذن؟ إن السبب هو، كما كان الحال دائماً، انفعالي: إنني أكتب حكماً (أو إنني ألخص حركتها) لكي أعيد الطمأنينة إلي نفسي: عندما تطرأ أزمة، فإنني ألطف من وقعها بأن أعهد بنفسي لثباتٍ ما يفوق طاقاتي: إن الأمر في الحقيقة يكون دائماً علي هذه الشاكلة : وتولد الحكمة. إن الحكمة هي نوع من إسم - الجملة ، أن تسمي يعني أن تلطف. وفضلاً عن ذلك، يكون هذا أيضاً حكمة: إنه يلطف مخاوفي بشأن البحث عن غلوٍ ما عن طريق كتابة الحكم.
إن قوة هذه التأملات تعتمد علي تحديدها لهوية الأسباب العاطفية للأبنية الفكرية. ولكن نظراً لأن ما يُغوي هو تفسيرٌ قوي - بناء ذهني - فإن القارئ، شأنه شأن الكاتب نفسه، يقع في فخ دائرة خطابية. وكلما إزداد الإيمان الذي نخلعه علي هذا التأمل، كلما تعين علينا ان نشك فيه أكثر.. إن مثل هذه التفخيخات هي آثار كتابة قوية.
إن أكثر إنجازات بارت رواجاً ولامألوفية ككاتب هو كتاب مقاطع من خطاب عاشق Fragments dun discourse amoureux ، وهو كتابة تنتمي لخطاب العشق. إن هذه اللغة - وهي بالأساس شكاوي وتأملات العاشق عندما يكون وحيداً، وليست تبادلات عاشق مع معشوقه - لغةٌ من طراز قديم. وعلي الرغم من أن الملايين من البشر يتكلمون هذه اللغة، وعلي الرغم من انتشارها في قصصنا الرومانسي وبرامج التليفزيون وكذلك في الأدب الجاد، لا توجد مؤسسة تهتم باستكشاف هذا الخطاب والحفاظ عليه، وتعديله والحكم عليه، وتكراره والاضطلاع بمسئوليته. إن بارت الذي يضطلع بجزء من هذا الدور ، يجد فيه طريقاً لإنتاج الروائي the novelistic : الرواية مخصوماً منها الحبكة والشخصيات. إن بارت يضم معاً، تحت عناوين مرتبة ترتيباً أبجدياً خطابات من شتي الأنواع: اقتباسات وإعادة صياغات من أعمال أدبية، خاصة آلام فرتر لجوته، ملفوظات بضمير المتكلم يتأمل فيها عاشق بلا إسم موقفه ويفصح عنه، تأملات تقترحها كتابات نظرية شتي (أفلاطون، نيتشه، لاكان). إن سلسلة المقاطع أو الصور images (صور بمعني أوضاع ) كما يسميها، تقدم المادة بالنسبة لروايةٍ، وفرةً من المشاهِد والملفوظات العاطفية أو التأملية، وهناك تلميحات مُعذِّبة لقصة حب شخصية،ولكن ليس ثمة تطور أو استمرار، ليس ثمة حبكة ولا تصاعد في علاقة العشق، وبدلاً من تطوير الشخصيات، نعثر فقط علي الأدوار المعممة للعاشق والمعشوق.
إن العناوين أسماء، أرقام غزلية أو انعطافات :
فإذا كانت هناك صورة مثل قلق ، فإن ذلك يُعزي إلي أن الذات تصيح أحياناً (دون أي اعتداد بالمعني العيادي للكلمة)Je suis anagoissé (أعاني من نوبة قلق!). إن كالاس تغني في مكان ما Angoscia! . إن الصورة (الوضع) هي نوع من لحنٍ أوبرالي؛ مثلما يمكن التعرف علي هذا اللحن، واستظهاره، واستخدامه عبر مذهبه incipit، فإن الصورة تستمد انحرافها من انعطافة عبارة، نوع من الشعر، لازمة أو قرار أو إنشاد تنطق به في الظلام.
أريد أن أفهم... ، ما الذي يتوجب عمله... ، عندما... أصبعي سهواً... ، لا يمكن لهذا أن يستمر... ، تلك هي بعض بدايات incipits صور العشق عند بارت الذي يقدم مقاطعاً سوف نتعرف عليها، كما يقول. إن الصور تتشكل علي قدر ما يمكن لنا أن نتعرف، في الخطاب العابر، علي شيء قد قُرأ، سُمعْ، استُشعِر ومثلما يكون نحو اللغة وصفاً للكفاءة اللسانية للمتحدثين الأصليين للغة، يسعي للإمساك بما هو مقبول نحوياً بالنسبة لهؤلاء المتحدثين، فإن بارت يحاول كذلك أن يمسك بما هو مقبول، ما يمكن إدراكه، تبعاً لشفرات ثقافتنا ومسكوكاتها، مثل شكوي العاشق. إن بارت يتخذ من رواية آلام فرتر لجوته نقطة مرجعية نظراً لأنها كانت تمثل نموذجاً لمواقف العشق في جزء كبير من الثقافة الغربية، وتقدم ذخيرة وافرة لهذه البلاغة السنتامنتالية المهملة.
بارت يقترح محاكاة هذا الخطاب، ليس بهدف تحليله، ولكن لحظات التحليل غالباً ما تبرز ، ويثبت العاشق المُحَاكي لنفسه أنه محلل ماهر، يتأمل بعمق حالته والعلامات المحيطة به. تأمل Quand mon doight par mégradeì (عندما ... إصبعي سهواً). إن الصورة تشير لأي خطاب داخلي يستدعيه اتصال مختلس بجسد (وعلي نحو أدق ببشرة) الكائن موضوع الرغبة. إن المرء ليتوقع أن يركز العاشق علي المتعة الحسية للاتصال الجسدي ولكنه واقع في العشق: إنه يخلق المعني في كل مكان من لاشيء، والمعني هو الذي يسبب إثارته: إنه في بوتقة المعني. إن كل اتصال بالنسبة للعاشق يطرح سؤال الاستجابة: إن البشرة يطلب منها أن تستجيب.
(ضغط اليد - ملف ضخم من المعلومات - إشارة بسيطة في الكف، ركبة لا تتحرك بعيداً، ذراع تمتد كما لو كان بشكل طبيعي تماماً علي ظهر كنبة، تتريح عليها رأس الآخر تدريجياً- هذه هي المملكة الفردوسية للعلامات الدقيقة والسرية: مثل مهرجان، ليس للحواس ولكن للمعني).
إن العاشق يحيا في عالم من العلامات: لا شيء يحيط بالمعشوق يكون خلواً من المعني، وبمقدوره قضاء الساعات يصنف ويؤول تفاصيل السلوك. إن الحادثة بسيطة (ودائماً تكون بسيطة) ولكنها سوف تجذب إليها أي لغةٍ أمتلكها إن بارت واسع الحيلة ومقنع في وصف التأويلات السيميوطيقية للعاشق. إن العاشق غالباً ما يجد نفسه واقعاً في قبضة الصورة التأملية ل ما يتعين عمله :
إن قلقي بشأن السلوك عقيم. إذا أعطي الآخر، تصادفياً أو تهاونياً، رقم تليفون أحد الأمكنة التي يمكن أن يتواجد بها في أي وقت من الأوقات، فإنني أصاب بالارتباك في الحال: هل علي ان أقوم بعملية الاتصال أم لا؟ (وليس من المجدي أن تخبرني بأن عليّ أن أقوم بعملية الاتصال- هذا هو هدف الرسالة ومعناها المعقول- لأن هذه الإجازة تحديداً هي ما لا أعرف كيف أتناوله).
بالنسبة لي ، تكون الذات العاشقة، كل شيء جديد، كل شيء يزعج، يُستقبل ليس بوصفه حقيقة، وإنما بوصفه علاقة يتوجب تأويلها. إن الحقيقة، من وجهة نظر العاشق، تصبح هامة لأنها تُحوَّل مباشرة إلي علامة: إن العلامة وليس الحقيقة هي التي تكون هامة (عبر ارتجاعها). فإذا ما أعطاني الآخر رقم تليفونه الجديد هذا، فما الذي تعنيه هذه العلامة؟ هل هي دعوة للاتصال به مباشرة، تحقيقاً لمتعة المكالمة، أم للاتصال به إذا اقتضت الضرورة ذلك؟ إن إجابتي ذاتها سوف تكون علامة، سوف يؤولها الآخر لا محالة، وبذا، يطلق بيننا، تلاعباً مربكاً للصور. إن كل شيء يدل: إنني بهذا الاقتراح أنصب لنفسي شركاً، أغرق نفسي في الحسابات، أفوت فرصة الاستمتاع.
وأحياناً ، بفضل التأمل في لاشيء (طبقاً لوجهة نظر العالم) أرهق نفسي؛ ثم أحاول ، كرد فعل، أن أعود - مثل رجل غريق يتشبث بقاع البحر- لقرار عفوي (العفوية: الحلم العظيم: النعيم، الطاقة، المتعة): هيا، اتصل طالما انت تريد ذلك! ولكنه مسلك عقيم: إن زمن العشق لا يسمح للذات برصف الدافع والفعل، أن توفق بينهما: لست رجل الجسم جنوني مُلَطّف، إنه لا يُري؛ إنني أخاف العواقب، أي عواقب: إن خوفي - تأملي - هو الذي يكون عفوياً.
إن مثل هذه المقاطع الروائية لا تصور فقط صوراً يمكن التعرف عليها لفكر العاشقين ولكنها تُظهر بشكل نابض ميكانيزمات الدلالة وتعقيداتها المربكة. إن ما يميز العاشق، المؤول الموسوس، والمحلل الذي يتمتع بجلاء البصر لورطته المؤوِّلة، عن السيميولوجي أو الميثولوجي هو سنتمنتالية خطابه: إنه ينظر إلي العلامات العرفية بوصفها علامات محفَّزة، ويضفي علي الموضوعات التافهة المحيطة به معنيً خاصاً يُري بوصفه فطرياً ومتأصلاً. 2. إن هذه السنتامنتالية التي لا يقرها الرأي الحديث، تجعل من العشق شيئاً بالياً، بل و فاحشاً ، موضوعاً لا يتعين مناقشته في صحبة مؤدبة - خلافا للجنس، الذي يلقي قبولاً في الخطاب الرائج في الوقت الحاضر. (عكس تاريخي: لم يعد الجنس هو غير المحتشم، وإنما السنتامنتالي - المستهجن باسم ما يكون في النهاية أخلاقية أخري) ولكن الفحش الحقيقي لسنتامنتالية العشق يكمن في حقيقة أن المرء لا يمكنه، بنشر السنتامنتالية، ارتكاب انتهاك مؤثر بحيث تظل تماماً خارج الحدود. إن فحش العشق مفرط. لا شيء يمكن أن يصلحه، يضفي عليه القيمة الموجبة للانتهاك... إن نص العشق (لا يكاد يكون نصاً)، يتألف من نرجسياتصغيرة، حقارات سيكولوجية ؛ إنه خلو من السمو؛ أو أن سموه ... يعجز عن بلوغ السمو
إن بارت، نصير الماركيز دي صاد، كان قد عمل علي خلق مناخ فكري يتمشي مع الانتهاك. إن استعادة سنتامنتالية العشق لاعتيادي، كما يقترح ، هو انتهاك للانتهاك، خرق للأرثوذكسية التي تثمن الانتهاك الجذري. إن بارت بتسجيله لصور خطابٍ مهمل، يفاجئنا في المقاطع بجعل الحب، في أشكاله الأكثر عبثية وسنتامنتالية ، موضع اهتمام.
تقول غرفة الصدي: إنه يعيد إنتاج الأفكار علي نحو سييء، إنه يتبع الكلمات، إنه يبدي احترامه لمفرداته اللغوية، يستدعي الأفكار، يكررها تحت اسم من الأسماء؛ إنه يستفيد من هذا الاسم كما يستفيد من رمز emblem (ولذا يمارس نوعاً من الأيديوغرافيا * الفلسفية).
إن الحقيقة، من وجهة نظر العاشق، تصبح هامة لأنها تُحوَّل مباشرة إلي علامة: إن العلامة وليس الحقيقة هي التي تكون هامة (عبر ارتجاعها). فإذا ما أعطاني الآخر رقم تليفونه الجديد هذا، فما الذي تعنيه هذه العلامة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.