كانت بدايته مدوية. لم يعبأ كثيراً بتأخّر مشروعه، لكنه ما إن بدأ لم يتوقف حتي أصبح الكاتب العراقي الأكثر غزارة وإنتاجاً، فأصبحت له عشر روايات في فترة زمنية لم تتعد العشرة أعوام! هو علي بدر المولود في بغداد عام 1964، أنهي دراسته للأدب الفرنسي في جامعة بغداد، خدم في جبهات الحرب في حربي الخليج الأولي والثانية، وهناك في عتمة الخنادق اكتشف نفسه ككاتب! صدرت روايته الأولي "بابا سارتر" في بيروت عن دار رياض الريس عام 2001، وحظيت بما لم تحظ به أي رواية عراقية في الوقت الراهن، حيث لاقت اهتماماً نقدياً غير مسبوق، وعالجت الوعي الثقافي الزائف وأثر التيار الوجودي علي المثقفين العراقيين في الستينيات، وحازت هذه الرواية علي جائزة الدولة للآداب في بغداد عام 2001، وجائزة أبو القاسم الشابي في العام ذاته. كانت تلك هي البداية لكاتب لم يتوقف عن الإنتاج فكتب بعدها تسع روايات منها: "شتاء العائلة"، و" الوليمة العارية"، و" صخب ونساء وكاتب مغمور"، و" مصابيح أورشليم"، و" حارس التبغ"، و" خرائط منتصف الليل"، و" الطريق إلي تل المطران"، ونال عن هذه الروايات مجموعة من الجوائز وترشح مرتين لجائزة البوكر العربية.. - أين كان علي بدر قبل 2001 وقت إصدار أولي رواياته؟ كنت في العراق طبعا. تخرجت ووجدت نفسي في أتون حرب طاحنة، هي الأكثر عبثا وجنونا في التاريخ، وأنا لا أقصد التاريخ هنا كفكرة، إنما كحدث شخصي، إذ أجبرت عبر هذه الواقعة التاريخية وهي الحرب أن أقف أول مرة في حياتي إزاء وجه قتيل، ولم يكن هذا الحدث الدرامي إن شئت أمرا هينا، بل كان مروعا وساحقا، كان وجه القتيل يتبدي أمامي حاملا معه هذا اللغز الذي يبحث عنه الرجال في الموت، وهو لغز الحياة ذاته الذي يتبدي للنساء في وجه طفل يولد للتو. في تلك اللحظة اتخذت قرار الكتابة بوصفها نقيضا للتاريخ، لم يكن لي أي شيء أصنعه إزاء ما أجبرت علي رؤيته، لقد شهدت في العشرين من عمري كل أشكال الجنون في الحرب، الموت بالخنادق، الاحتراق بالنار، والاختناق بالغازات السامة، إنه مزيج من الفداحة، والخسران، والمرارة التي تتركها التجارب العنيفة علي الإنسان. - وكيف اتخذت قرار الكتابة؟ بعد نهاية الحرب مباشرة كنت انغمست في بغداد في حياة لاهية وصاخبة، أظنها كانت نوعا من ردة فعل سلبية إزاء الحرب، غير أنها لم تستمر طويلا، فقد سألتني أمي في إحدي المرات وأنا عائد إلي المنزل متأخرا، عن العمل الذي سأتخذه، فمن غير المعقول أن أستمر بهذه الحياة اللاهية والعابثة، في تلك اللحظة خطر في بالي كتابة رواية. كانت تجاربي فيما مضي لا تتعدي ترجمة بعض الروايات الفرنسية والإنجليزية، كنت أتسلّي بها في ساعات الانتظار الطويلة في الخنادق، غير أن ترجمتي لها لم تكن منضبطة، ففي أحيان كثيرة لا تعجبني الأحداث فأغيّر وجهتها، وأضيف شخصيات جديدة، وأحذف شخصيات أراها زائدة، فأصبحت لديّ مجموعة من الكتب التي لا يمكن أن نعدها مترجمة ولا مؤلفة، ولا يمكن نشرها بأي حال من الأحوال، ولكن هذا العمل العابث والوهمي أمدني بقوة منقطعة النظير، وقدرة لا تتوقف علي السرد، ودلتني علي نفسي، حيث عرفت بأني مختنق بأشياء كثيرة أريد سردها...وهكذا اشتريت ورقا وطابعة من نوع "أوبتيما" تشبه طابعات الحرب العالمية الثانية، وبدأت بكتابة أول رواية في حياتي. - يقول النقاد عن رواياتك أنها "ترسم بدقة الحياة الثقافية والسياسية في بغداد، حيث المقاهي والملاهي والحانات والمسارح والشوارع، وترسم بصورة دقيقة حياة العائلات البغدادية". ولكنها ليست بغداد الآن.. لماذا تبتعد رواياتك عن واقع بغداد الآن؟ وهل يمكن اعتبار اختيار التاريخ نوعا من الهروب؟ لا أظن أن رواياتي تبتعد عن الواقع الحالي لبغداد، لا أدري من أين أتتك هذه الفكرة، مع ذلك أقول لك أن التاريخ الذي تقول عنه أنه هروب هو حد واحد فقط من حدودها، أنا أعاين المدينة مثل طرس، والفكرة أخذتها من جيرار جينيت في قراءته لمارسيل بروست، فالطرس هو كتابة علي كتابة، أنا أعتقد أن المدينة هي نص، أي كتابة علي كتابة، ومهمة الرواية هي تقشير declatet طبقات هذا الطرس، تعجبني الكلمة الفرنسية declatet ، لأنها تعني تقشيراً وعرضاً، وهو ما أفعله فعلا في الكتابة، من جهة أخري، ما حدث لبغداد ولمدن عربية أخري بما فيها القاهرة أمر محزن حقا، كانت المدن ترتبط بالخيال الشعري للأمة قبل ظهور النزعة النفعية التي طرحتها النخب البرجوازية العربية المرتبطة بالغرب، فأخذت هذه المخيلة الشعرية التي صنعت بغداد والقاهرة ودمشق بصورة احتفالية وتنقيحية تتهاوي، أما النخبة العسكرية التي حكمت هذه البلدان فقد أجهزت علي المدن وهدمتها تماما، إن الخراب يمكنك أن تعاينه بلمحة خاطفة، وأنا من رأيي أنّ هذه هي وظيفة الرواية، لا التعبير عن الخيال الاحتدامي الخلاق للقوي الاجتماعية والثقافية والسياسية فقط إنما لصورة المدن العربية والتي لا نملك منها اليوم في العالم العربي إلا بقايا آثار إما مفقودة أو مدمرة. - تقول دائما "إن الرواية لم تعد حدوتة مطلقا ولم يعد الروائي ذلك الحكواتي القديم الذي يسرد علي مجموعة من المستمعين، الرواية هي البديل الحقيقي لا الاستعاري عن السوسيولوجيا والتاريخ والنقد الثقافي" فهل تعيد بالرواية كتابة التاريخ؟ أنا أدافع عن هذه الفكرة بحماس ووضوح منذ زمن بعيد نسبيا، فقد استحوذت عليّ هذه الفكرة بشكل كاسح مذ كنت طالبا في الجامعة، كنت أعتقد علي الدوام _وإلي اليوم بطبيعة الأمر-أن الرواية ستحل يوما محل العلوم الإنسانية، فالرواية من جهة أدائها الثقافي وتمثيلها لم تعد "حدوتة" كما هي عليه في السابق، كما أنها لم تعد توثيقا فجا وتقليديا للوقائع والأحداث، ولم تعد منشغلة بشكل نرجسي كما كانت بنفسها، بل هنالك تحوّل جذري في مفهوم الروائي المعاصر ومنظوره للعالم الذي يشكله ويستعيده في نصه، وهو أمر مفارق بالضرورة للمسار التقليدي للرواية التقليدية، بل إن الرواية المنشغلة بنفسها أصبحت هي التقليدية، فالوظائف التخييلية والتمثيلية والإيحائية أصبحت أداة بحث، أداة استكشاف للعالم وللتاريخ وللثقافة، وبالتالي فإن الرواية أخذت تقترب من العلوم الإنسانية باستعارة أدواتها، فالرواية اليوم هي في خضم التوتر الثقافي العام، وأصبحت هي الثقافة بأجمعها، هي نص سوسيولوجي بامتياز، وهي نص تاريخي، وهي نص ثقافي، وإثنوغرافي وسياسي، ومعرفي أيضا، كما أن العلوم الإنسانية أخذت تقترب بمباشرة ووضوح من السرد كذلك، أنت تقرأ الكتب الأنثربولوجية والسيوسيولوجية وعلم النفس مثل قصة، بل أن تودروف أطلق عنوانا فرعيا علي أحد كتبه النقدية هو "رواية تعلم".أما ما يخص عملي، فأنا أطمح إلي كتابة تأريخ الثقافة بصورة سردية. -إذن هل تعتبر رواياتك روايات تاريخية؟ بالعكس تماما، رواياتي تقوم علي تقويض التاريخ، تقوم بالأساس علي هدم الرواية التاريخية، الرواية هي سرد الأفراد وحكاياتهم التي تقوم علي نقض الرواية التاريخية التي ترتبط بالجماعات وبالسلطات وبالنخب التي تستعمل التاريخ لمصالحها. أنت تعرف أن هنالك علي الدوام سرودا جماعية تنسج الهويات والأفكار والأيديولوجيات، وتحكم هذه السرود طائفة كبيرة من الناس، تأتي الرواية علي نحو مخاتل وتنقض هذه السرود الجماعية وتفتتها، بل هي تقوم بقلب التاريخ الرسمي الذي كتبته النخبة المتأثرة بالسياسات الاستعمارية وبالسلطات المحلية، ثم تعيد كتابته في ضوء مفاهيم مغايرة متصلة بالتاريخ الشفوي المنسي الذي استبعدته النخب الاستعمارية، فتاريخ العراق بالنسبة لي يمثله صراع الطبقات المغلقة، والتحيزات الدينية والفئوية، والمرويات السردية، وأحوال المعدمين في المدن، وتبعية المرأة للخطابات الإقليمية السائدة، وكل الجماعات التي تنتج تاريخا شفويا، أما التاريخ الرسمي الذي دوّن في ضوء التصور الاستعماري أو السلطات الاستبدادية المحلية فهو مجتزأ وزائف ولا يمثل حقيقة علي الإطلاق، من هنا تأتي الرواية لتعيد كتابة التاريخ علي نحو مشكك وهدمي. -هل تثق في قدرة الرواية علي إحداث أي تغيير..ووفق إجابتك أسأل لماذا تكتب؟ التغيير كلمة قديمة، لكن ما وظيفة الرواية؟ بالنسبة لي هناك دافعان أساسيان دفعاني لحمل مشروع الرواية، وأنا هنا أركز علي كلمة مشروع، فأنا لا أكتب روايات ولكن لديّ مشروع رواية، الدافع الأول هو وظيفة الرواية في صياغة مفهوم الأمة، فالرواية تلعب دورا أساسيا في صياغة الخيال الوطني، وتوحد الأفراد في الزمن وفي الفضاء، ولديّ شغف أن تلعب روايتي الدور الذي لعبته الرواية الفرنسية في صياغة مفهوم الأمة الفرنسية، والدور الذي لعبته الرواية الروسية في صياغة مفهوم الأمة الروسية، فما أقوم به هو صياغة مفهوم الأمة العراقية من خلال الرواية، وجعل الرواية لاعبا أساسيا في تشييد مفهوم الخيال الوطني في العراق، أما الدافع الآخر، فهو ما فعلته السلطات العربية في الهيمنة علي العلوم الإنسانية، فلم تعد لدينا علوم اجتماع أو انثربولوجيا ولا جامعات ولا مراكز أبحاث مستقلة، إنما ترتبط كلها بالسلطات، الرواية بكونها عملا فرديا استطاعت الانفلات من قبضة السلطة، لنعترف، إنها الشكل الفني الوحيد الذي انفلت من السلطة في العالم العربي، ومن هنا يأتي دورها كمدونة حقيقية عن المجتمعات العربية وتناقضاتها السوسيولوجية وشكل حياتها وأزيائها، وبديل حقيقي عن هذه العلوم المُسيسة. - تعتمد كثيرا علي أسماء حقيقية، وأحداث حقيقية..هل واجهت مشاكل بخصوص هذا الأمر؟ بدأت المشكلة منذ روايتي الأولي بابا سارتر، فهذه الرواية لخصت كل ما كنت أفكر فيه في تلك الفترة، وهو دور المثقفين في صياغة مفهوم السلطة، وكانت عبارة عن ردة فعل شاب مثقف ومتمدن تخرج في الجامعة فوجد نفسه إزاء آلة السلطة، فكتبت رواية بابا سارتر، وهي سخرية مريرة من الجيل السائد في العراق والذي استمر منذ الستينيات، فهو الجيل ذاته الذي كان يحكم وهو جيل الثقافة المنفية وهو جيل أساتذة الجامعة...وقد اعتمدت في هذه الرواية علي معلومات نقبتها تنقيبا، وقرأت كل ما يمكن قراءته عن تلك المرحلة، وبعد عمل واصلت فيه الليل مع النهار كنت أنهيت رواية بابا سارتر...ثم قدمتها إلي دار الآداب.. ويؤسفني أن سهيل إدريس رفضها، وكتب لي رسالة قاسية في ذلك الوقت إذ عد الرواية إساءة متعمدة له ولعايدة مطرجي إدريس وتشويها لمواقفهما، لم أكن أقصد نقده شخصيا ولكني انتقدت منظومة الفهم في ثقافتنا، والآلية التي استقبلت بها الثقافة الغربية داخل مجتمعات متأخرة إلي حد بعيد ومنكفئة علي نفسها، ومن ثم الأثر المزلزل لهذه لأفكار علي هذه المجتمعات، وهو أمر لم يتناوله أحد لا في رواية ولا في كتاب، واستمر الأمر هكذا مع كل رواية أصدرتها تقريبا، ولكني في الواقع لا أستخدم الأسماء الواقعية للسخرية أو التشويه ولكني أعلّق علي أفكارها. والأمر يثير الذعر لأنه مكتوب في رواية لو كان في مكان آخر لمرّ الأمر بصورة مرنة. - أنت روائي..ولكنك تكتب وكأنك فيلسوف، هل هي تأثيرات الدراسة؟ ولماذا لا تؤلّف كتاباً فلسفياً بحتاً؟ لا لست فيلسوفا بالتأكيد، ولا أكتب كفيلسوف.. ولكن كانت تشغلني فكرة مزج المعرفة بالمتعة في الفلسفات الإغريقية القديمة، وحتي في الثقافة العربية في العصر الوسيط، وكانت لديّ هموم ثقافية، فأنا كروائي جئت من الجامعة، أكثر الروائيين العرب جاءوا من المقاهي الأدبية، وهم علي كراهية شديدة للجامعات والميادين البحثية، أنا بالعكس، كنت منكبا علي الدراسات النقدية والثقافية، مثل البنيوية، والتفكيكية، والسيميولوجيا، وما بعد الاستعمار، ثم دخلت الجامعة للدراسات العليا، وبدأت بمراسلة كتاب غربيين مهمين مثل نعوم تشومسكي، جاك دريدا، فريدريك جيمسون، وبدأت أكتب مقالات نقدية عن الأدب والثقافة والفكر، ثم قرأت غرامشي وإدوارد سعيد وسارتر وريمون آرون، والفلاسفة الجدد، ولهذا حدث اشتباك شرس بيني وبين المؤسسة الأكاديمية المتحجرة، فقد كنت طالبا صاخبا ومتطلبا ومخاصما ومحاججا علي الدوام، وكان عليّ أن أنفذ بين أساتذة عقولهم خربة، وموظفين عبيد، وخدم سلطة فاسدة، كل هذا أدّي بشكل درامي إلي فصلي من الجامعة، وبالتالي دخولي حالة من اليأس والعطالة الدائمة، وكنت أعيش بصعوبة وسط وضع سياسي منخور وكريه ومتأزّم. - ثم ذهبت إلي الحرب، وخضت حربين ضاريتين، وعشت تجربة القتال والخنادق، كيف أثّر ذلك علي كتاباتك؟ كانت التجربة عاصفة بكل معني الكلمة، كانت أشبه بالزلزال الذي عصف بحياتي، واعتقدت في البداية أني لا أمتلك عناصر قوة كافية لمجابهة هذه التجربة، غير أني تجاوزت مراحلها بسرعة، كل أصدقائي قتلوا في الحرب، كانوا أذكياء ووسيمين ومثقفين غير أنهم تلاشوا بلحظة واحدة وسط التراب والحديد والدخان، فلذلك سيطرت عليّ شخصية الناجي، أنا ناج من الموت، وأصبحت بيدي فرصة أن أكون وسط التاريخ عن طريق الكتابة، وفي كل ما كتبت وضعت هذا التقابل بين الآنية التي يمثّلها الجسد أو بالأحري التي يرزح تحت ثقلها، والأشياء التجريدية التي تقررها السلطة السياسية، مثلا كانوا يقولون لنا في الحرب نحن موجودون هنا بسبب التاريخ.. طبعا كل هذه المفاهيم بعيدة أشد البعد عن الآنية التي تمثلها الأشياء المحسوسة أو الروحية التي كانت تضغط علينا بعنف، الحب الرغبات الفضيلة الجنس، العطور، الملابس، السفر، وهكذا علي الجسد أن يقاوم الأيديولوجية التجريدية التي تصنع الخراب في كل لحظة. -تصنف نفسك ضمن أي جيل.. وهل تعترف بهذه المسألة من الأساس؟ نعم أنا من جيل التسعينيات في العالم العربي، ليس رقما فقط إنما بكل ما يحمله هذا الجيل من نظرة مغايرة، نحن الجيل الذي شهد نهاية الحلم العربي الكبير في الإصلاح الديني، والحداثة السياسية، والتنمية الاجتماعية، نحن الجيل الذي شهد زيف الشعارات الكبري، والنهاية الدراماتيكية للإيديولوجيات الثورية، واليوتوبيات الكاذبة، نحن الجيل الذي شهد كذب الآباء وزيف تربيتهم، ونهاية عصر النهضة، وتقهقر عصر الثورة، نحن الجيل الذي شهد غزو الكويت، وتدمير بغداد، والمواجهة الكبري مع الغرب، ونهاية الوجود الكارتوني للجامعة العربية، نحن الجيل الذي شهد أوسلو، والحروب الطائفية، وكذب الاستقلال، وتبديد الثروات، والتوريث، والفقر والمجانية السياسية. أنا لست من هذا الجيل فقط، إنما أردت أن أبلور كل أفكاره وغضبه وسخطه واختلافه في كل ما كتبت. - حصلت علي مجموعة كبيرة من الجوائز.. ماذا تعني لك؟ وهل تتابع الصراعات التي تحدث كل عام حولها؟ الجائزة لها مغزي عظيم لأن للأدب مغزي بطولياً، مثل الرياضة اليونانية القديمة، والتي تسمي بطولة، والمتسابقون أبطال، ولكنها تُشوّه اليوم بطريقة مبتذلة وخائرة ومتسولة، لا المتسابقون أبطالاً مع الأسف ولا الحكام يتمتعون بالنزاهة والطهر والشرف إلا قلة من هؤلاء وقلة من هؤلاء. والقلة ضائعة وسط "أحطّ" مارثون للتسول والابتذال والكرامة المهدورة. - كيف تكتب..هل لك طقوس معينة؟ لا وجود لطقوس بالمعني الحرفي للكلمة، فأنا عامل كتابة، أعمل مثل العبيد دون التقيّد بالوقت، أو بالراحة أو بالجهد، وأعتمد في تحضير الرواية علي السفر والاستقصاء والبحث عن المعلومات والوثائق والجرائد القديمة والأخبار والصور وإجراء المقابلات، واستقاء المعلومة الصغيرة مهما طال الوقت للحصول عليها حتي لو لم يتم استخدامها فيما بعد، غير أن كتابة الرواية هي فعلا شيء آخر في حياتي، فأنا أكتب في الأماكن الصاخبة لا في الأماكن الهادئة، في المقهي والبار والمطعم والباص والمطار لا في المنازل المنعزلة أو في الضواحي الهادئة. الشيء الذي أعرفه أني لا أستطيع الكتابة في ملابس البيت في البيجامة مثلا، أو دون حذاء، أو دون حزام، أنا أرتدي ملابسي وأخرج كي أكتب الرواية، أخرج إلي الأماكن المزدحمة بالناس والأحداث والأشياء، هناك فقط أشعر بنبض المكان وسخونة الفضاء، قريبا من الأسواق والسينمات والمسارح والبارات، أو علي مصطبات الحدائق، فلا أشعر بنبض الكتابة الحي إلا وسط الصخب، لا أشعر به إلا بين روائح البيرة المخمرة، أو روائح الفواكه الطازجة، أوخلف دخان السجائر وروائح النساء. وسط هذه الخميرة الحية التي تنزع وتقاوم تكتب الرواية. - ما الجديد الذي تعمل عليه الآن؟ من سنوات أعمل علي ثلاثية تغطي قرنا كاملا من العلاقات المتوترة بين العراق ومنطقة الشرق الأوسط، رواية ضخمة تصل إلي ألف وخمسمائة صفحة، تكشف كل النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي للعراق في علاقاته المتوترة مع محيطه ومع العالم، هذا عمل ثابت ربما سيستغرق عاما آخر للعمل، ولكني في طور إنجاز رواية قصيرة عن تجربتي الأولي في السينما حيث ذهبت لتمثيل فيلم وثائقي إيطالي عن الآثار الرومانية في ليبيا، وكانت تجربة الفيلم مثيرة، إذ تعرضت للموت أكثر من مرة، حيث ركبنا طائرة شينوك قديمة وكادت تسقط بنا فوق آثار مدينة قورينا شحات، وعبرنا من البردي بقوارب مطاطية وضربتنا عاصفة وسط البحر وشارفنا علي الهلاك، وانفجر لغم.. قريب منا في موقع للحرب العالمية الثانية في بير موسي، وسط كل هذه المغامرات كنت أقود مغامرة بعيدة عن الفيلم تماما، وهي البحث عن لغز جندي مثقف ورسام اسمه جون برل قتل في الحرب العالمية الأولي، وتابعت مسيرته من أسره في منطقة البردي، حتي مقتله في معركة العلمين ودفنه في مقبرة مرسي مطروح، وسأنشر هذه الرواية في العام المقبل إن شاء الله.