لجنة سكرتارية الهجرة باتحاد نقابات عمال مصر تناقش ملفات مهمة    غرفة شركات السياحة تكشف استعدداتها لموسم الحج    وزيرة التخطيط تبحث تعزيز الشراكات الاستثمارية بين مصر و قطر    وزير التموين: علينا الفخر بالصناعة المصرية.. وإنتاج السكر متميز    استطلاع: قلق بين الأمريكيين من تصاعد العنف السياسي بعد انتخابات ترامب ضد بايدن    الاتحاد الأوروبي ينتقد مناورات الصين واسعة النطاق قبالة تايوان    مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: الفيتو الأمريكي الحاجز الوحيد أمام حصولنا على العضوية الكاملة    موعد مباراة الزمالك المقبلة بعد التعادل مع مودرن فيوتشر في الدوري    تعليم الشرقية: تأجيل امتحان طالبة بالشهادة الإعدادية تعرضت لحادث سير    العثور على جثة متحللة لمسن في بورسعيد    نهى عابدين تعلق على نصيحة يحيى الفخراني لها بإنقاص وزنها: أنا مش رشيقة    دنيا سمير غانم «روكي الغلابة» وتتحدى بالبطولة السينمائية في مواجهة تايسون    الوجودية واختياراتنا في الحياة في عرض «سبع ليالي» ب مهرجان نوادي المسرح    "الصحة": اختتام ورشة عمل "تأثير تغير المناخ على الأمراض المعدية" بشرم الشيخ    محمد نور: خطة مجابهة التضليل تعتمد على 3 محاور    قرار قضائي جديد بشأن التحقيقات مع سائق «ميكروباص» معدية أبو غالب (القصة كاملة)    رفع كسوة الكعبة المشرَّفة للحفاظ على نظافتها وسلامتها    عبير فؤاد تحذر مواليد 5 أبراج في شهر يونيو: أزمات مهنية ومشكلات عاطفية    انقطاع التيار الكهربائى عن بعض أقسام مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح    طلاب يتضامنون مع غزة من على متن سفينة إسرائيلية يحتجزها الحوثيون    البورصات الأوروبية تغلق على ارتفاع.. وأسهم التكنولوجيا تصعد 1%    توقع عقد تشغيل مصنع تدوير ومعالجة المخلفات بالمحلة    «بوتين» يوقّع مرسوما يسمح بمصادرة أصول تابعة للولايات المتحدة في روسيا    وزير النقل خلال زيارته لمصانع شركة كاف الإسبانية: تحديث وتطوير 22 قطارًا بالخط الأول للمترو    20 لاعبًا في قائمة سموحة لمواجهة فاركو بالدوري المصري    روديجر: نريد إنهاء الموسم على القمة.. وركلة السيتي اللحظة الأفضل لي    في إطار تنامي التعاون.. «جاد»: زيادة عدد المنح الروسية لمصر إلى 310    انفجار مسيرتين مفخختين قرب كريات شمونة فى الجليل الأعلى شمال إسرائيل    الفريق أول محمد زكى: قادرون على مجابهة أى تحديات تفرض علينا    خضراوات وفواكه يجب تناولها بعد التعرض لأشعة الشمس والحر، تمنحك الترطيب    ما هو منتج كرة القدم الصحفى؟!    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال    رئيس الوزراء يناقش سبل دعم وتطوير خدمات الصحفيين    محافظ بورسعيد يشيد بجهد كنترول امتحانات الشهادة الإعدادية    بالفيديو.. خالد الجندي: عقد مؤتمر عن السنة يُفوت الفرصة على المزايدين    خاص.. الأهلي يدعو أسرة علي معلول لحضور نهائي دوري أبطال إفريقيا    متى وكم؟ فضول المصريين يتصاعد لمعرفة موعد إجازة عيد الأضحى 2024 وعدد الأيام    وزير الري: نبذل جهودا كبيرة لخدمة ودعم الدول الإفريقية    من الجمعة للثلاثاء | برنامج جديد للإعلامي إبراهيم فايق    قبل قصد بيت الله الحرام| قاعود: الإقلاع عن الذنوب ورد المظالم من أهم المستحبات    افتتاح كأس العالم لرفع الأثقال البارالمبي بالمكسيك بمشاركة منتخب مصر    أجمل عبارات تهنئة عيد الأضحى 2024 قصيرة وأروع الرسائل للاصدقاء    محافظ كفر الشيخ يتفقد السوق الدائم بغرب العاصمة    ما حكم سقوط الشعر خلال تمشيطه أثناء الحج؟ أمين الفتوى يجيب (فيديو)    فيديو.. ابنة قاسم سليماني تقدم خاتم والدها ليدفن مع جثمان وزير الخارجية الإيراني    رئيس الوزراء يتابع مشروعات تطوير موقع التجلي الأعظم بسانت كاترين    رئيس الوزراء يتابع موقف تنفيذ المرحلة الثانية من منظومة التأمين الصحي الشامل    وزارة التعليم: منع دخول طلاب الثانوية العامة لجان الامتحان بورقة بيضاء    رئيس وزراء أيرلندا: أوروبا تقف على الجانب الخطأ لاخفاقها فى وقف إراقة الدماء بغزة    الكشف على 1021 حالة مجانًا في قافلة طبية بنجع حمادي    ننشر حيثيات تغريم شيرين عبد الوهاب 5 آلاف جنيه بتهمة سب المنتج محمد الشاعر    تاج الدين: مصر لديها مراكز لتجميع البلازما بمواصفات عالمية    الرعاية الصحية تعلن نجاح اعتماد مستشفيي طابا وسانت كاترين بجنوب سيناء    المراكز التكنولوجية بالشرقية تستقبل 9215 طلب تصالح على مخالفات البناء    رجل متزوج يحب سيدة آخري متزوجة.. وأمين الفتوى ينصح    الهلال السعودي يستهدف التعاقد مع نجم برشلونة في الانتقالات الصيفية    حماس: معبر رفح كان وسيبقى معبرا فلسطينيا مصريا.. والاحتلال يتحمل مسئولية إغلاقه    الداخلية تضبط 484 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1356 رخصة خلال 24 ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليابان..امبراطورية العلامات
ثمة أمور عديدة يلزم تعلمها من الشرق

هذه مقاطع من كتاب امبراطورية العلامات للكاتب الفرنسي رولان بارت، وهو كتاب لا يزال يحتفظ بكل راهنيته وعمقه حيث يقرأ بارت فضاءات اليابان الرمزية والثقافية والسيميائية. وهذا الكتاب يشكل نوعا من التدوين لرحلة في حضارة اليابان إلي جانب عمقه الفكري والثقافي ومظهره السيميائي. هنا نوافذ من هذا الكتاب الرائع:
النص لا"يشرح" الصور. كما أن الصور لا توضح النص: لقد كان كل منهما، بالنسبة إلي فقط، منطلقا لنوع من التذبذب البصري المماثل لضياع المعني، هذا الذي يسميه الزن (Zen ) بالساتوري (satori ). إن كلا من النص والصور يريد أن يضمن، في تشابكهما، انتقال وتبادل هذه الدوال: الجسد، الوجه، الكتابة، ثم قراء نكوص العلامات في ذلك.
هناك
إذا كان لي أن أتخيل شعبا وهميا، فإنه بوسعي أن أطلق عليه اسما مختلقا، وأن أعالجه، بصورة جلية، كموضوع روائي مؤسسا بذلك مدينة جديدة بكيفية تجعلني أجازف بأي بلد حقيقي في تصوري ( بيد أن هذا التصور هو ما أجازف به،آنئذ، في علامات الأدب).
كما أنه بوسعي، كذلك، دون أن أرغب بشيء في تشخيص وتحليل أدني حقيقة (وهذه هي الإشارات المهمة في الخطاب الغربي)، أن أقتطع، في جهة ما، من العالم (هناك) عددا من السمات (الكلمة الخطية واللسانية)، فمن هذه السمات سيتشكل بتأن نسق ما، وهذا النسق هو ما سأطلق عليه: اليابان.
إن الشرق والغرب لايمكنهما أن يؤخذا هنا، والحالة هذه، وكأنهما: حقائق نحاول مقاربتها ومواجهتها تاريخيا وفلسفيا وثقافيا وسياسيا. ذلك
لأنني لا أتطلع بشغف إلي جوهر شرقي، فالشرق لا يثير في شعورا ما، إنه، وببساطة، يزودني بخزان من السمات والخطوط التي يتيح لي تثبيت العدة واللعب الخلاق من خلالها أن أداعب نسقا رمزيا غريبا ومستصغرا كلية عن نسقنا. إن ما يمكن أن يكون مشارا إليه، في تأمل الشرق، ليس رموزا أخري، ميتافيزيقا أخري، وحكمة أخري (تتبدي هذه مرغوبا فيها بكثرة حتي الآن ). ولكن إمكانية اختلاف، تغير، وثورة في معني المنظومات الرمزية. إنه ينبغي أن نصنع ذات يوم تاريخ غموضنا الخاص، وأن نجلي كثافة نرجسيتنا، وأن نحصي علي امتداد العصور بعض دواعي الاختلاف الذي كان بإمكاننا الإصغاء إليه أحيانا، والاستعدادات الإيديولوجية التي كانت مألوفة حتما، والتي كانت ترتكز دوما علي أقلمة جهلنا بآسيا بفضل اللغات المعروفة ( شرق فولتير، شرق " المجلة الأسيويةRevue Asiatique شرق بيير لوتي أو الخطوط الفرنسية َAir France ). أما اليوم فثمة بدون شك امور عديدة يستلزم تعلمها من الشرق: ذلك أن نتاجا شاسعا من المعرفة سوف يكون ضروريا ( وأن إرجاءه لا يمكن أن يكون سوي نتيجة استتار إيديولوجي )، علي أنه يلزم كذلك من شبكة معرفة دقيقة، راضية عن إهمال، من جانب آخر، مناطق ظل شاسعة ( اليابان الرأسمالي، المثاقفة الأمريكية، والتقدم التقني)، أن لا تبحث رموزا أخري، وإنما التصدع الرمزي نفسه، إن هذا التصدع لا يمكن له أن يتجلي علي مستوي المنتوجات الثقافية: ذلك أن ما هو ظاهر هنا لا ينتمي ( نطمح إلي ذلك علي الأقل) إلي الفن، والمدينية اليابانية والطبيخ الياباني. فالكاتب لم يصف بدقة شديدة، وبأي وجه من الوجوه، اليابان. وإنما يصح العكس: فاليابان قد رصعه بلمعان متعدد، أو بالأحري: قد هداه إلي مكان الكتابة. وهذا المكان هو ذلك المكان نفسه حيث يحدث ارتجاج للكائن، وانقلاب للقراءات القديمة، ورجة للمعني مقطعة ومنهوكة حتي فراغها غير الإبدالي دون أن يكف الموضوع أبدا عن ان يكون دالا ومرغوبا فيه. إن الكتابة هي، وبوجه الإجمال، وعلي نمطها، ساتوري satori: إن الساتوي (واقعة الزن Zen ) هي زلزال قوي بهذا القدر أوذاك ( غير احتفالي قطعا)، يؤرجح المعرفة والذات: يخلق فراغا في العبارة. وان فراغا في العبارة هو ما يشكل الكتابة أيضا، فمن هذا الفراغ تنطلق السمات التي يكون الزن Zen من خلالها، في براءة من كل معني، الحدائق، الحركات، المساكن، الباقات، الوجوه والعنف.
اللسان المجهول
الحلم: أن تطلع علي لسان مجهول ( غريب)، ومع ذلك لا تتمكن من فهمه هو: أن تدرك فيه الاختلاف، دون أن يكون هذا الاختلاف مستردا من خلال الطابع الاجتماعي السطحي للغة، التواصل أو الخشونة. فأن تعرف هو أن تعرف علي نحو مؤكد اتجاه استحالاتنا في لسان جديد، وتتعلم نظامية ما لايتصور وتفكك "واقعنا" بفعل تقطيعات أخري وتركيبات أخري، وتغير وجهة طوبولوجيته، وبكلمة واحدة، أن تسقط فيما يتعذر فهمه، مبتليا بالصدمة من غير أن تتخفف منها علي الإطلاق، حتي يتخلخل فينا الغرب برمته، وترتج قوانين اللسان الأبوي الذي انحدر إلينا من أجدادنا والذي جعل منا بدورنا آباء ومالكين لثقافة قد حولها التاريخ تماما إلي " طبيعة " فنحن نعلم أن التصورات الأساسية للفلسفة الأرسطية كانت تصورات مرغمة، إن صح التعبير، من خلال التمفصلات الأساسية للسان اليوناني. فكم سيكون مفيدا، بالعكس، ان ننتقل إلي نظرة الاختلافات غير القابلة للاختزال والتي يمكن أن توحي لنا بوضوح قليل بلسان بعيد جدا. ذلك أن أي رأي لسابير Sapirأو لوورف Whorf حول لغات الشنوك والنوتكا والهوبين أو رأيا لغراني حول اللغة الصينية، أو أي حديث لصديق ما حول اللغة اليابانية يضيء الروائي التام، الذي بوسع بعض النصوص الحديثة أن تقدم لنا فكرة عنه (وليس أية رواية)، متيحة لنا إدراك مشهد ليس بوسع عبارتنا (التي نمتلكها) مهما كان الثمن أن تتنبأ به ولا أن تكتشفه.
وهكذا فإن توالد اللواحق الوظيفية وتعقد الموصولات بما قبلها في اللغة اليابانية، تفترض بأن المسند إليه يتقدم في غضون التلفظ من خلال الاحتياطات، والاسترجاعات والارجاعات والالحاحات حيث إن المقدار النهائي (إننا لن نتكلم إذن عن نسق بسيط من الكلمات) هو الذي يجعل من المسند إليه بالضبط غلافا فارغا للعبارة، فليست هذه النواة هي التي تنهض بتوجيه جملنا، من الخارج ومن الفوق، بحيث ان ما يتبدي لنا وكأنه إفراط في الذاتية (يقال إن اللغة اليابانية تعبر عن انطباعات، وليس عن إثباتات) هو، فضلا عن ذلك، أسلوب تخفيف، وضياع للمسند إليه في لغة مجزأة، مشذرة ومكسرة حتي الفراغ. أو هذا أيضا: إن اللغة اليابانية، شأنها في ذلك شأن كثير من اللغات، تميز الحي ( بشري و/ أو حيواني) عن الجامد، وخصوصا علي صعيد فعل " كان". والحال أن الشخصيات الخيالية التي تندرج في حكاية ( من نوع: كان ذات يوم ملك ) هي شخصيات معينة بعلامة الجامد، إن فننا برمته إذن يلهث لتعيين " الحياة" و " واقع" الكائنات الروائية، فبنية اللغة اليابانية ذاتها تسترجع أو تحتفظ بهذه الكائنات في نوعية إنتاجها، في علاماتها المنفصلة عن التعلة المرجعية بجودة: والتي هي شيء حي. أو أيضا، وبطريقة اكثر جذرية، مادام الأمر يتعلق بإدراك ما لايتصوره لساننا: كيف يمكن لنا أن نتصور فعلا من غير مسند إليه ومن غير مسند في آن واحد، في حين أنه فعل متعد، شأنه في ذلك علي سبيل المثال، شأن عمل معرفي دون ذات عارفة ودون موضوع معروف؟ ومع ذلك، فإن هذا التصور هو المطلوب منا تجاه الديانة الهندية أصل الشان chan الصيني والزن Zen الياباني، الذي لن نتمكن من ترجمته، بصورة جلية، عن طريق واسطة ما، دون أن نسترجع هناك الذات والإله: حاول أن تزيحهم، فإنهم سيعودون، وذلك لأن لساننا هو الذي يجمعهما. فهذه الآثار وغيرها لواثقة كم هو تافه الاعتراض علي مجتمعنا دون أن نفكر في حدود اللسان ذاتها التي نريد من خلالها ( علاقة آلية ) الاعتراض عليه: إنها الرغبة في قتل الذئب بالارتماء في شدقه. إن هذه الممارسات لنحو زائغ سيكون لها، علي الأقل، فائدة في أن تحمل الشك حول إيديولوجية عبارتنا نفسها.
بلاعبارات
إن الكتلة المشوشة للسان مجهول تشكل حماية لذيذة، فهي تغلف الغريب ( لكي لا يظهر له البلد عدوانيا شيئا ما ) بغشاء رقيق صاخب يقطع علي مسمعه كل استلابات اللسان الامومي: الأصل، المحلي والاجتماعي، لمن يتكلمه، درجة ثقافته، ذكاؤه، ذوقه، والصورة التي يتشكل من خلالها كشخص، والذي يطلب التعرف عليها. كذلك، في الخارج، أية طمأنينة! إنني محمي هناك من البلاهة، والخشونة، والتباهي، وأخبار المجتمع، والتابعية، والانضباط. إن اللسان المجهول، الذي أمسك به، مع ذلك، النفس، التهوية الحساسة، وبكلمة واحدة تولد الدلالة signifiance الخالص يشكل حولي ما أن أحول موضعي شيئا فشيئا نشوة خفيفة، ويجذبني إلي فراغه الاصطناعي الذي لا يتحقق إلا بالنسبة إلي. إنني أعيش في فرجة interstice متحررا من كل معني كامل. " ف" كيف تدبرت الأمر هناك مع اللسان؟ والمقصود: كيف ضمنت هذه الحاجة الأساسية للتواصل؟ أو أكثر دقة، ذلك الادعاء الإيديولوجي الذي يخفي التساؤل الفعلي: لا يوجد تواصل إلا بالعبارة ( الكلام). والحال أنه يتواجد في هذا البلد ( اليابان) امبراطورية دوال جد شاسعة، إنها تفرط في العبارة إلي درجة أن تداول العلامات / الأدلة/ يبقي محتفظا بثرائه، بحركيته، وبدقته الساحرة رغما عن كثافة اللسان، وأحيانا بفضل هذه الكثافة كذلك، والسبب هو أن الجسد هناك يوجد، يمتد، يتصرف، ويمنح نفسه بدون هستيريا، وبدون نرجسية، ولكن وفق مشروع إيروتيكي خالص _ بالرغم من أنه رصين بدقة. فليس الصوت ( الذي نعين من خلاله نوع " حقوق" الشخص ) هو الذي يتواصل ( يتواصل مع ماذا؟ مع روحنا _ هي جميلة بالقوة- أم مع صراحتنا؟ أم مع حظوتنا؟ )، وإنما الجسد برمته ( العيون، الابتسامة، الخصلة، الحركة، اللباس ) يتحاور معك بضرب من " الثغثغة"، حيث الهيمنة التامة للشفرات تنزع كل طابع ارتدادي، أو طفولي. إن تحديد موعد ( من خلال الحركات، الرسوم، والأسماء الخاصة) يتطلب وقتا بدون شك، ولكن في أثناء هذا الوقت، بالنسبة لرسالة قد تصبح باطلة في وقت وجيز إذاما تم النطق بها ( إن كل شيء أساسي ولا معني له في آن واحد )، فإن جسد الآخر برمته هو الذي قد تم التعرف عليه، تذوقه ولمسه، والذي قد نشر ( دونما نهاية خالصة ) محكيه الخاص ونصه الحقيقي.
الماء والسبيخة
يبدو أن صينية الطعام هي عبارة عن لوحة لكل ماهو شهي: إنها إطار يحتوي في جوهره علي أشياء متنوعة ( أقداح، علب، صحون صغيرة، عيدان، وجبات بكمية كبيرة من الطعام، قليل من الزنجبيل الرمادي، بعض من ذرارة الخضروات البرتقالية، وقاع مرق التوابل الأسمر )، وبما أن هذه الأواني وهذه القطع من الطعام هي قليلة ودقيقة، غير أنها غزيرة، فإنه يمكن لنا القول إن هذه الأطباق تكمل تحديدنا للرسم والذي، كما يقول بييرودي لا فرنسيسكا: ليس سوي دليل علي المساحة والجسد اللذين يصبحان بلا انقطاع أكثر ضيقا أو اكثر اتساعا حسب حدهما. ومع ذلك، فإن أي ترتيب، متي كان يتبدي شهيا، هو مهيأ لأن يكون مفككا ومصنوعا من جديد وفقا لإيقاع (وزن) التغذية نفسه. ذلك أن ما كان لوحة مجمدة في البداية، سيصبح مثبتا ومتناسقا، فضاء، ليس للنظر، ولكن لعمل أو للعبة، إن الرسم لم يكن، في الواقع، سوي الشفرة ( مساحة للعمل) التي
ستستعملها شيئا فشيئا في تناول الطعام، غارفا هنا قبضة من الخضروات، وهناك رزا، وهنالك بهارا، وهنالك أيضا جرعة من الحساء وفقا لتناوب اختياري علي منوال مخطط ( ياباني تماما )، موضوع أمام لعبة فنجان والذي يعرف ويتردد في الوقت نفسه، بهذا الشكل، دون أن يكون مجهولا أو مصغرا (إن الأمر لا يتعلق بلا مبالاة تجاه الطعام، ذلك الموقف الاخلاقي دائما ). فالتغذية تبقي علامة لضرب من العمل أو اللعب، الذي يعتمد قليلا علي تحول المادة الأولية (المادة الخاصة بالطبيخ، إلا أن الطعام الياباني هو طعام مطبوخ قليلا، فالأطعمة تصل طبيعية علي المائدة والعمل الوحيد الذي يطرأ عليها حقا هو أنه يتم تقطيعها )، أكثر مما يعتمد علي الجمع التابع له، وكما أن الدفع ببعض العناصر حيث الترتيب المأخوذ ليس محددا من طرف أي بروتوكول (إنه بوسعك أن تناوب جرعة من الحساء، لقمة من الرز، وقبضة من الخضروات): فإن صنع الطعام برمته هو بمثابة تأليف، إذ بتأليفك لمغنمك، بوسعك أن تصنع بنفسك ما ستتناوله من طعام، إن / المأكل/ الطعام ليس منتوجا مبسطا علي الإطلاق، مما يجعل التحضير، عندنا، متأخرا بتحفظ في الزمان والمكان (طعام مهيأ سلفا وراء حجاب المطبخ، غرفة سرية حيث يسمح بكل شيء، شريطة ألا يبرز المنتوج إلا مكونا، مزينا، مطيبا ومخضبا). فمن أين جاء هذا الطابع الحي (والذي لايعني: الطبيعي) لهذا الطعام، الذي يبدو أنه يحقق في كل فصل من الفصول أمنية الشاعر: " أوه! لنحتفل بالربيع من خلال أطعمة شهية..".
إن الطعام الياباني يستمد كذلك من الرسم الكيفية الأقل عيانية مباشرة، الكيفية الشديدة الارتباط بالجسد ( المتعلقة بالعبء وبأثر اليد التي ترسم أوتحجب ) والتي ليست هي اللون ولكن اللمسة. فالرز المطبوخ ( الذي هو في تطابقه نوعي ومؤكد تماما من خلال اسم خاص، والذي ليس هو إسم الرز النيء) لا يمكن أن يتحدد إلا من خلال تناقض المادة، إنه متلاحم وقابل للاقتطاع في آن واحد، ذلك لأن غايته الجوهرية هي الجزء، التكتل الدقيق، فهو العنصر الوحيد المتوازن في الطعام الياباني (المتعارض مع الطعام الصيني)، إنه ذلك الشيء الذي يقع، بالتعارض مع الشيء الذي يتموج، فهو يشكل في اللوحة بياضا متماسكا ( كثيفا)، ومحببا (بخلاف بياض الخبز)، في حين أنه هش: إن ما يصل إلي المائدة، مشدودا، ملتصقا، ينحل، بواسطة العيدان، دون ان ينتشر مع ذلك علي الإطلاق، كما لو أن هذا الاقتطاع لايتم إلا من أجل أن يخلق مرة أخري تماسكا غير قابل للاختزال، إن هذا النقص المحدد ( غير الكامل) هو الذي يمنح للاستهلاك، من هذا الجانب ( أو ذاك)، للطعام. وعلي نفس المنوال _ لكن في الطرف الآخر للأغذية _ فإن الحساء الياباني (إن كلمة حساء هي بدون وجه حق كثيفة، ووجبة طعام للعائلة ) يملك في اللعبة الغذائية لمسة من الوضوح. فعندنا حساء واضح هو حساء فقير، أما هنا فإن خفة ( دقة ) الحساء، تذوب شأنها في ذلك شأن الماء، مسحوق الصوجا أو الفاصوليا التي تتحرك هناك، وقلة وجود إثنين أو ثلاثة جوامد (ذرارة من العشب، ليف من الخضر، وقطعة صغيرة من السمك ) التي تفرق متموجة هذه الكمية القليلة من الماء، تعطينا فكرة عن كثافة واضحة، عن قيمة غذائية بدون دسم، وعن إكسير مشجع، بقدر ما هو خالص: إن شيئا مائيا (وأكثر من أي شيء ماوي)، بحريا برقة يستدعي فكرة عن الأصل، والحيوية البعيدة الغور.
وهكذا فإن الطعام الياباني يتأسس علي نمط مصغر من المادة ( من الواضح إلي المجزأ )، علي ارتجاج الدال: فهاهنا توجد السمات الأولية للكتابة، الموضوعة علي ضرب من ترجرج اللغة وكما يتبدي جيدا الطعام الياباني: طعام مكتوب، وخاضع لحركات الاقتطاع والأخذ التي لا تسجل الطعام، علي صينية الأكلة ( والتي لا علاقة لها بأمر الطعام المصور بدقة شديدة، والتأليفات الملونة في مجلا تنا النسائية)، وإنما علي حيز كثيف يرتب بتدرج الإنسان، المائدة والعالم، وذلك لأن الكتابة هي بالضبط هذ العمل الذي يضم في نفس السعي ذلك الشيء الذي لا يمكن المسك به بأجمعه داخل المكان التافه للتمثل.
الأكل بالعيدان
في سوق بنكوك Bangkok الواسع، يمكث كل بائع في جذعية صغيرة ساكنة، يبيع كميات دقيقة جدا من الطعام: حبوب، عدد قليل من البيض، موز، جوز الهند، مانجو، فلفل حلو ( دون أن نتحدث عن الشيء المتعذر تسميته ) فمن تلقاء نفسه إلي بضاعته مرورا بزورقه الصغير، يبدو كل شيء ضئيلا.
إن الطعام الغربي المكوم، المنفوخ حتي المهابة والمرتبط بعملية تأثير يذهب دائما نحو الشيء الضخم، الكبير، الغزير والوافر، أما الطعام الشرقي، فإنه يتبع حركة عكسية، إنه يتفتح باتجاه الشيء الضئيل جدا: إن مآل الخيار ليس بتكويمه أو تخثيره، بل بتقسيمه وانتثاره الدقيق، كما هو مذكور في هذا الهايكو:
خيار مقطوع
ماؤه يسيل
راسما أقدام عنكبوت
يوجد تقارب بين ماهو صغير جدا وما يؤكل:
فالأشياء ليست صغيرة إلا من أجل أن تكون مأكولة، ولكن أيضا فهي صالحة للأكل من أجل أن تكمل جوهرها، الذي هو الضآلة.
إن تطابق الطعام الشرقي والعود baguette لا يمكن أن يكون وظيفيا، آليا وحسب، فالأطعمة مقطوعة لكي يكون بوسعها أن تؤخذ بالعود، ولكن أيضا، فإن العود موجود لأن الأطعمة مقطوعة إلي قطع صغيرة، إذ بنفس الحركة، فإن نفس الشكل يسمو علي المادة وآلتها: القسمة.
يملك العود وظائف أخري غير نقل الطعام من الطبق إلي الفم ( الذي هو أقل ملائمة، مادام هي أيضا تلك التي للأصابع وشوكات الأكل )، علما بأن هذه الوظائف تنتمي إليه بشكل خاص. يملك العود _ شكله يعبر عن ذلك بشكل كاف _ أولا وقبل كل شيءن وظيفة ديا كتيكية déictique : إنه يظهر الطعام، يحدد الجزء، يوجد من خلال حركة الانتقاء ذاتها، التي هي التعيين index، لكن، من ثم، بينما يتبع الادخال في المعدة نوعا من التتابع الآلي، حيث نكتفي بابتلاع أجزاء نفس الطبق شيئا فشيئا، فإن العود بتحديده لذلك الشيء الذي يختاره ( علما بأن الاختيار والحالة هذه يكون في آن باختيار هذا وليس ذاك )، لايدخل في استعمال الطعام ترتيبا ما، وإنما هوي وكما هو حال استرخاء ما: وعلي أي حال، فإنه عمل ذكين وليس ميكانيكي علي الإطلاق.
إن الوظيفة الأخري للعود المزدوج، هي تلك التي تمرز جزءا من الطعام ( وليس أبدا تأخذه بلهفة، كما تصنع شوكات الأكل عندنا )، فمرز pincer هي، إضافة إلي ذلك، كلمة قوية ومثيرة بصورة مفرطة ( إنها كلمة الفتيات المتكتمات، الجراحين، الخياطين، الطبائع الحساسة )، ذلك لأن الطعام لا يحتمل أبدا ضغطا أكبر مما ينبغي بدقة من أجل رفعه ونقله، ثمة في حركة العود، الملطفة كذلك من خلال مادتها، خشب أو لك، شيء من الأمومي، المحتفظ به ذاته، اللائق تماما، الذي نضعه في نقل ولد ما: قوة ( بالمعني الفعال للكلمة) وليس غريزة ما، ها هنا يوجد سلوك كامل تجاه الطعام، إذ أننا نري ذلك جيدا في عيدان الطاهي الطويلة، التي لا تصلح لتناول الطعام، ولكن لطبخه: فالأداة لا تخرق، لا تقطع، لا تشق، لا تجرح أبدا. ولكن فقط تقتطع، تقلب، تنقل، لأن العود ( الوظيفة الثالثة)، لكي يقسم، يعزل، يبعد، يتباطأ، بدلا من أن يقطع ويأخذ بلهفة، علي منوال الملعقة والشوكة والسكين عندنا، إنه لا يغتصب الطعام أبدا: فهو إما يميزه شيئا فشيئا ( في حالة الأعشاب ) أو يفككه ( في حالة الأسماك، الأنقليس ) مستردا هكذا الشقوق الطبيعية للمادة ( بذلك يكون أقرب إلي الاصبع الأصلي منه إلي السكين ). أخيرا، ولعل هذه هي وظيفته الأكثر جمالا، فإن العود المزدوج ينقل الطعام، سواء أكان، متشابكا كيدين، تساعدان ولا تمسكان علي الإطلاق، ينزلق تحت سبيخة الرز ويشده، صاعدا به إلي فم الآكل، أو ( من خلال حركة ألفية للشرق بأجمعه ) يعمل علي انزلاق نصاعة البياض الغذائي من القصعة إلي الشفاه، علي منوال (رفش)، ففي كل الاستخدامات، في كل الحركات التي تستتبعها، يتعارض العود مع السكين عندنا ( ومع بديله ، الشوكة ) : فهو الأداة الغذائية التي تأبي أن تقطع، تأخذ بلهفة، تجذم، تخرق ( إنها حركة محدودة جدا، منبوذة في تحضير الطعام): فالسماك الذي يسلخ الأنقليس الحية أمامنا يعزم نهائيا، بتضحية تمهيدية، علي اغتيال الطعام )، إن الطعام، ومن خلال العود، ليس غنيمة علي الإطلاق، يستوجب علينا أن نقوم با غتصابها (اللحوم التي ننصب عليها )، وإنما هو مادة substance محولة بتوافق، إنه يحول المادة المقسومة قبل كل شيء إلي قوت طير والأرز إلي مياه الحليب، الأمومي، إذ يفضي بلا كلل إلي حركة الزقة، تاركا لعاداتنا الغذائية، المسلحة بالعنزات والسكاكين، حركة الانتشال.
الطعام اللامركز
إن طبق السوكياكي sukiyaki هو عبارة عن قدير ( خليط من التوابل ) نعرف ونتعرف من خلاله علي كل العناصر، بما أنه مكون أمامك في الحال علي المائدة ذاتها أثناء أكلك له. إن المنتوجات النيئة ( لكن المجردة المغسولة، والمكتسبة قبلا عرية جمالية، وزاهية، وملونة، ومتناسقة، كمثل لباس ربيعي :( يقول ديدرو: إن كل شيء يوجد هناك، اللون، والجودة، واللمسة، والأثر، والانسجام، والقدير.) هي مجمعة ومنقولة علي
طبق، إن جوهر السوق ذاته هو الذي يدنو منك، طراوته، طبيعانيته، تنوعه، وحتي التصنيف الذي يكون من المادة البسيطة عهد واقعة: نمو الشهية المتعالقة بهذا الشيء الممزوج الذي هو منتوج السوق، والذي هو في الوقت ذاته طبيعة وبضاعة، طبيعة تجارية مناسبة للاقتناء الشعبي: أوراق صالحة للأكل، بقل، شعر الملاك، مربع كثير القشدة لعجينة الصوجا، مح، لحم أحمر، وسكر أبيض (مزيج غريب جدا، جذاب أو باعث علي التقزز، بما أنه عياني، حيث ذلك الشيء اليسير الحلو- المملح للطعام الصيني، الذي هو مطبوخ وحيث لا يتبين السكر إلا خلال الكرملة الساطعة لبعض الاطباق »المليكة«)، كل هذه الأشياء النيئة، الممزوجة قبل كل شيء، والمركبة كما هو الشأن في لوحة هولندية حيث تحتفظ بطوق الخط، بالصلابة المرنة لريشة الرسام وبالمبرنق الملون ( حيث لا نعرف من خلالها إن كانت معزوة لمادة الأشياء، لضوء المنظر، للدهان، الذي يكسو اللوحة او لإضاءة المتحف ) تنقل شيئا فشيئا إلي طنجرة كبيرة حيث تطبخ علي مرآي منك، فتفقد بذلك ألوانها، أشكالها وما هو غير مترابط فيها، إنها تصبح لينة ومغيرة في ذلك المكان، محولة إلي اللون الأ شقر الذي يعد اللون الأساسي للصلصة، وما أن تأخذ بأطراف العيدان أولا بأول بعض أجزاء هذا القدير ragout الجديد برمته حتي تظهر نيوءات crudités أخري تحل محلها.
فمن خلال هذا الذهاب والإياب يتصدر مشارك يتموضع خلفك غائرا شيئا ما، مسلحا بالعيدان الطويلة، يغذي بالتناوب الدست والمحاورة: فما تحتضنه بالنظر هو أوديسة طعام صغيرة برمتها: فأنت تشارك في غسق النيوءة.
من المعلوم أن هذه النيوءة هي الألوهية الواقية للطعام الياباني: إنه مقدم بأكمله، فإذا كان الطبيخ الياباني يتهيأ دائما إزاء ذلك الذي سيتناوله ( علامة أساسية لهذا المطبخ )، فربما لأنه يقتضي أن يثبت من خلا العرض موت ذلك الذي نكرمه. إن ما هو مكرم في النيوءة La crudité ( الكلمة التي نستعملها بغرابة في المفرد لنشير إلي جنسية اللغة، وفي الجمع لنعين الجانب الخارجي، المخالف للمألوف وبعض ما هو محرم في وجباتنا ) ليس، كما يبدو، كما هو الحال عندنا، جوهرا داخليا للغذاء، الغزارة الدموية ( الدم هو بمثابة رمز للقوة والموت) مما يجعلنا نستجمع عن طريق الانتقال العزم الحيوي ( عندنا تعد النيوءة حالة قوية للطعام، كما يظهر ذلك بشكل كنائي التتبيل الكثيف الذي نرتبه علي البفتيك المخردل
.steak tartare
إن النيوءة اليابانية هي نيوءة عيانية جوهريا، إنها تعين حالة ملونة من اللحم او النبات ( بشرط ألا يكون اللون قط ناضبا عن طريق قائمة لوينات، بل يحيل إلي لمسية المادة، كذلك فإن الساشمي Le sachimi تعرض ( تنشر) بأقل الألوان من المدافعات: تلك التي تغير لحم الأسماك النيئة، بتمرير ما يتواجد بالطبق من خلال التوقفات الواهية، والليفية، والمرنة، والمندمجة، والخشنة، والزلجة ) " ف" عيانيا بصورة تامة (مفكرا فيه، ومكثفا، مستعملا للنظر، وحتي لنظر الرسام والخطاط )، يعبر الطعام بهذا علي أنه ليس عويصا: فالمادة الصالحة للأكل هي بلاحمية نفيسة، بلا قوة مختفية، وبلا سر حيوي: فمامن طبق من الأطباق اليابانية في حاجة إلي مركز (المركز الغذائي مستتبع مستتبع عندنا عن طريق الطقس الذي يرتكز علي طلب الاكلة، بالإحاطة أو بتغطية الماكل الواحد بالمرق). إن كل شيء هناك يعد تزيينا لتزيين آخر.
أولا وقبل كل شيء لأن الطعام الموجود علي المائدة، علي الطبق ليس أبدا سوي مجموعة من الأجزاء، حيث لا أحد يتبدي مفضلا عن طريق نظام الإدخال في المعدة: فأن تأكل ليس /معناه/ أن تقيم وزنا لوجبة ما ( مسافة الصحون )، ولكن أن تقتطع، بلمسة خفيفة من العود، تارة لونا وطورا لونا آخر، باستلطاف ضرب من الشهيق الذي يتبدي في تمهله كمثل ملازمة مفكوكة، وغير مباشرة للمحاورة ( التي قد تكون، هي ذاتها، صامتة بشدة )، وذلك أن هذا الطعام علاوة علي ذلك، وهاهنا أصالته، يربط في وقت واحد بين زمن تحضيره وزمن استهلاكه، إن السوكياكي sukiyaki هو طبق لامتناه في التحضير، في الاستهلاك، وإذا أمكننا القول، في " التحاور " ليس من خلال صعوبة تقنية، وإنما، من خلال طبيعته في أن ينفد أولا باول حين طبخه، وبالتالي، في أن يعاد، فإن طبق السوكياكي ليس لديه من الوسم غير انطلاقه ( هذا الطبق يجلي الاطعمة التي نحضرها له )، ف " انطلق" parti، ليست في ذلك بعد لحظات أو أمكنة متميزة: إنها تغدو لا مركزة décentré، مثلها مثل نص غير منقطع.
العلامة الفارغة
إن الطباخ ( الذي لايطبخ ألبتة) يأخذ سمكة أنقليس حية ويغرز لها مخرزا طويلا في الرأس ثم يسلخها ويكشطها.
إن هذا المشهد الماهر، والمبتل ( أكثر منه دام) بقسوة طفيفة، سينتهي إلي شبيك. فالأنقليس ( أو الجزء من البقل والقشرية) المركز في المقلي شأنه في ذلك شأن فج سالزبورغ يصغر إلي كومة فارغة ضئيلة، وإلي سلسلة من الفرج: ذلك أن الغذاء يضم، هاهنا، الحلم المفارقة: ذلك الحلم بشيء بيفرجي، ومثير بالأحري حيث أن هذا الفراغ مهيأ لنتغذي منه ( فأحيانا يتكون الغذاء مكورا شأنه في ذلك شأن غزل ملونة ).
إن مأكل التمبورا( (tempura منعتق من المعني الذي نربطه حسب العادة بالمقلي والذي هو الثقل، فالطحين يسترد هنالك جوهره الذي هو جوهر الزهرة المتناثرة، وهو ممزوج برفق بسائل مشكلا حليبا، وليس عجينا، إذ محجوزا بالزيت يبدو أن هذا الحليب المذهب سريع الزوال فهو يسترد بطريقة ناقصة جزءا من الطعام حيث يتجلي قمرون بلون وردي، فلفل حلو بلون أخضر، وباذنجان أسمر، منتزعا هكذا من المقلي ما تهيأ به الفطيرة عندنا، والذي هو الغطاء والغلاف والإندماج (التراصية ).
إن الزيت ( لكن هل يتعلق الأمر حقا، من جهة الزيت، بجوهر الأم المزيتة؟ ) مجفف في الحال من خلال منشفة ورق تعرض من خلالها التمبورا في سلة سوحر صغيرة، فالزيت مجفف من غير أي اتصال إطلاقا بالزيوت التي تغطي بها بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط والمشرق مطابخها، حلاويها، إنها تفقد تضادا يبرز أطعمتها المطبوخة بالزيت أو الدهن والتي هي الشي دونما التسخين مجددا. هذا الشي الفاتر للدهون معوض هنا بخاصية يتضح أنه غير مسموح بها لكل طعام مقلي: الطراوة. إن الطراوة التي تتحرك في التمبورا عبر شبيك الطحين، ركيزة السمكي والنباتي، الأكثر صلابة والأكثر هشاشة في عداد الأطعمة،إن هذه الطراوة التي يتوفر عليها البكر والمنعش في آن معا هي طراوة الزيت. فمطاعم التمبورا تتصنف حسب درجة استنزاف الزيت التي تستعملها: إلي جانب الزيت الجديد المستعمل وهو يباع من جديد إلي مطعم آخر بين بين، وهلم جرا، إذ أننا لانشتري الطعام ولا حتي طراوته ( وأيضا دون منزلة المحل أو الخدمة )، وإنما بتولة طبخه.
أحيانا يكون الجزء من التمبورا علي درجات: فالمقلي يلتف ( أفضل من: يغلف ) حول فلفل حلو، هو ذاته مملوء ببلح البحر. إن ما يهم، هو أن يكون الغذاء مكونا من قطعة، أو جزء ( حالة جوهرية للمطبخ الياباني، حيث غطاء المائدة _ الصلصة، والقشدة، والقشرة _ مجهول )، ليس فقط عن طريق غمره بمادة شبيهة بالماء، وموحدة كالدهن، حيثما تبرز قطعة تامة ومميزة ومعينة، ولكنها مخرمة تماما، بيد أن الطوق هو جد خفيف بحيث يغدو مجردا: إن الغذاء لايملك لقاء الغلاف سوي الزمن ( فضلا عن كونه هوذاته دقيق بقوة ) الذي يرسخه.
يقال إن التمبورا مأكل من أصل مسيحي (برتغالي): إنه طعام الصوم الكبير، إلا أنه مصفي من خلال تقنيات الإلغاء والإعفاء اليابانية، إنه طعام زمن آخر: ليس زمن شعيرة الصوم والاستغفار، وإنما نوع من الولع بالتأمل، مشهدي بقدر ماهو غذائي ( بما أن التمبورا تتهيأ علي مرأي منك ) حول ذلك الشيء الذي نحدده لعدم توافر الأفضل ( وربما بسبب خلالنا الموضوعاتية) في اتجاه الخفيف، والمهوي، و الآني، والهش، والشفاف، والطري، واللاشيء، ولكن حيث سيكون الإسم الحقيقي ( هو) الفرجة من دون حافات ممتلئة، أو أيضا: العلامة الفارغة.
وفي حقيقة الأمر، فإنه لابد من العودة إلي الطباخ الحاذق الشاب الذي يشكل الشبيك بالسمك والفلافل الحلوة، فإذا كان يحضر طعاما لنا أمامنا، ناقلا، من حركة إلي حركة، ومن مكان إلي آخر، سمكة الأنقليس من حوض السمك إلي ورق أبيض والتي، لينتهي، يتسلمها مخرمة تماما، ليس هذا ( فقط) ليجعلنا شهودا علي تدقيقه الرفيع وطهارة طبيخه، إنما لأن فاعليته توجد في الحرف الخطي: فهو يسجل الغذاء في المادة، ومائدته موزعة كمثل مائدة معلم خط، وذلك لكونه يلامس المواد كما هو الأمر بالنسبة للخطاط (خصوصا إذا كان يابانيا ) الذي يناوب الريش والفناجين والمداد والماء والورق، إنه يحقق، هكذا، داخل تجمهر المطعم وتقاطع الرغبات، تدرجا، ليس تدرج اللحظة، وإنما اللحظات (لحظات تركيب التمبورا )، يجلي سلم الممارسات ( المزاولات )، ويحفظ الغذاء ليس كبضاعة تامة، حيث سيكون للإتقان وحده قيمة معينة ( وهذا هو حال مأكلنا الواحد )، وإنما كنتاج حيث المعني ليس نهائيا، بل إنه تصاعدي، ومنهوك، تقريبا، حين يكون إنتاجه متمما: فأنت الذي تأكل، لكن هو الذي لعب، سطر وأنتج.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.