بعد رحلته الطويلة عاد إلي إيثاكي ، وجد كل من فيها قد نسيه . وحدها حبيبته مازالت تذكره . فمنذ أن رحل وهي تجلس علي باب إيثاكي منذ الصباح حتي تغيب الشمس، تنتظر عودته . عندما ضمها إلي صدره ، لمح في رأسها بعض الشعر الأبيض . علم أن الزمن مر علي حبيبته، لم يدرك أن رأسه هو الآخر زارته خطوات الزمن الوئيدة. قرر الرحيل مرة أخري، فأرض إيثاكي لا تعطيه لذة التحدي ولا غرور المغامرة ، وحبيبته عما قريب ستصير عجوزا، وهو يريد أثينا التي لا تشيخ أبدا. علي باب إيثاكي، وقفت حبيبته مع العرافة تودعه وهي تبكي . أخذت العرافة دمعتين من دموعها، وأعطتهما له . أوصته بزراعتهما في اللحظة التي يدخل فيها التيه . ثم أعطته حذاءًً من سعف نخيل إيثاكي ، وأوصته بألا يخلعه أبدا. وحذرته قائلة: " لا تمنح قلبك إلا لمن تمنحك روحا، لا جسدا فقط ، فهي ستهبك الحياة . واحذر ممن حياتها في فنائك ولو كانت أميرة" دخل التيه . تقدم ببطء مشدوها ينظر إلي السماء الخالية من كل شيء . فلا أثر لشمس ولا لسحب ولا لنجوم، ونسي أن يزرع الدمعتين. سمع صوتا عميقا يملأ الفراغ يأمره بأن يخلع نعليه فهو في التيه المقدس ، فنسي مرة أخري وخلعهما ، وعلي الفور ظهرت كلابات حديدية أحاطت بقدميه وأوقعته علي الأرض . شعر بأن هناك من يجذبه من قدميه ويسحله دون أن يري أي أحد . فاقدا للسيطرة علي جسده ، رفعته يد لا مرئية وأجلسته علي كرسي مزدان بنقوش أفعوانية تبرق ألوانها فتخدر الحواس . نظر حوله ، وجد نفسه في قصر مهيب . تعلقت عيناه بالسقف المزدان بالشمس والقمر ، حتي النجوم قد انتظمت في أشكالها السماوية المعتادة . عندما أخفض رأسه ، رأي عرشا من لؤلؤ وقد استقرت عليه الأميرة ميدوزا . ورغم أنها أخفت وجهها وراء غطاء ذهبي لا يظهر منه غير شفتيها المكتنزتين ، فقد عرفها من شعرها الطويل المتحول لحيات . أتاه صوتها الساحر يطمئنه ويبشره بالنعيم المقيم الذي لا يزول ولا يتحول . أخبرته أن بالغد سيكون عرسهما . للحظة تذكر تحذير العرافة له ، ولكنه نظر إلي قدميه العاريتين الداميتين ، ثم ألقي بكلام العرافة أرضاً، فبالغد سيجد الشمس والقمر له ساجدين. جلس علي العرش ينظر إلي الجمهور المحتشد في حفل العرس . تملكته الدهشة ؛ فالجميع كانوا شيوخا تعدوا الستين أو السبعين من العمر. كان هو الشاب الوحيد في هذا الجمع . جاءت الأميرة ترتدي ثوب عرس يخلب الأبصار فيصرفها عن النظر إلي العروس ذاتها أو وجهها المختفي وراء القناع ، أو للحيات المتهافتة تحت الطرحة البيضاء. وقف الكاهن يتلو صلواته ، ثم سمح للعريس بأن يقبل العروس في النهاية . اقترب منها ليقبلها ، التصقت شفتاها بشفتيه ، فلم يستطع تخليص نفسه . شعر بكل قواه تخور وروحه تنسل منه ثم أغشي عليه . عندما أفاق ، شعر بظماً شديد ، وجد أمامه نهراً صغيراً فاندفع إليه يعب الماء عباً . لم يشعر بالارتواء . رأي صورته المنعكسة علي الماء، وأدرك لماذا كان كل رجال التيه شيوخا تعدوا الستين من العمر، فقد صار مثلهم عجوزا. هام علي وجهه في التيه، يبحث عن باب الخروج. ولكنه كان يدور في حلقة مفرغة، ويعود دوما إلي ذات النقطة التي إنطلق منها. شعر باليأس وبكي لأول مرة منذ سنواته الأولي التي شهدته فارسا صغيرا يجمع النجوم من سماء ايثاكا ويلضمها في خيط من الذهب ليزين به عنق حبيبته التي تعودت علي الحلم، والركض معه بين مروج القلب المترعة بأمنياتها المتعلقة دوما به وحده . عندما رأي دموعه التي تساقطت علي كفيه المجعدتين ، تذكر دموع حبيبته التي رحل عنها . بحث عن آخر دمعتين فرتا من عينيها وكان من المفروض أن يزرعهما عند دخوله التيه ، فوجدهما ملتصقتين بقلبه. في حفرتين صغيرتين زرعهما . وعلي الفور نمت إحداهما لتكون شجرة زيتون أخذت تكبر و ترتفع حتي ظللته . والأخري شقت الأرض فكانت يمامة . طارت اليمامة ووقفت علي كتفه تنقر خده بلطف وتشير لأعلي . أدرك أنها تريد منه تسلق شجرة الزيتون . وقفت اليمامة علي كتفه وتسلق الشجرة حتي وصل إلي القمة . وعندما نظر إلي الأفق، وجدها هناك علي البعد ؛ إيثاكي التي رحل عنها . بكي مرة أخري . فرت دمعة وحيدة منه ، التقطتها اليمامة فتحولت حصاناً مجنحاً حمله علي ظهره وطار به بعيداً عن التيه . أمام تنور بيته القديم ، أنزله الحصان المجنح من علي ظهره وعاد كما كان يمامة صغيرة. كل صباح تطير اليمامة تبحث عن أول قطرة ندي تتكون علي زهرة الياسمين الوحيدة في ايثاكي . ثم تضعها في فمه بمنقارها . ومع كل قطرة ندي كان يستعيد شبابه الذي سلبته الأميرة ميدوزا في حفل عرسها.