نرصد الإنترنت باعتباره جانبا هاما من حياتنا، وليس بوصفه اختراعاً. نحن ندرس انعكاسه علينا، الإنترنت مكان موجود، هو المكان الأفضل، والأكثر تنظيما، وتخزينا للحياة من الحياة نفسها، وأكثر تنظيما وتحليلاً من الإنسان نفسه، وكذلك أكثر تحريضاً.. هنا نرصد أداء وتفاعل الكاتب المصري علي الإنترنت، حيث نقدم تاريخاً موجزاً له بصيغة أنه الحياة الأرحب، تكتب د.شيرين أبو النجا عن الحقيقة العارية، التي يقدمها المستخدم المصري، راصدة روح التعبير الجديدة. كما يشير د.حسام عطا إلي قيادة الجمهور للنخبة في إبداع الانترنت ونرصد الفروق الجوهرية في النظرة بين المدون الأديب، والآخر الأصيل، من منظور محمد خير، أحمد الفخراني، سلمي صلاح، محمود عزت، ومحمد ربيع. 1 الغرق في البحر أتذكر الآن تلك النصائح. الهجوم الدائم. إنه يضعف النظر، يدمر العمود الفقري تماماً، يقتل الوقت، بل يخرب البيوت العامرة.. لماذا كان التعامل هكذا مع الإنترنت؟ تشكلت علاقة المجتمع بالشباب مواليد نهايات السبعينيات - بدايات الثمانينيات بعلاقة لوم، أن الحياة أكبر من الإنترنت.. أننا كنا نجلس إلي الكمبيوتر في المنزل، ومع ظهور اللاب توب تركناه. لكن لماذا كان الهجوم علي الكمبيوتر، ولماذا تزايد الهجوم عليه عقب 1997، حينما فتح الباب أمام العامة للدخول إلي الإنترنت، بعد ثلاث سنوات من الاحتكار الحكومي للخدمة في الجامعات والمعاهد والوزارات.. هل للأمر علاقة بالسلطة؟ دائما كانت هناك جرائد، نمائم سياسية، غضب مكتوم، سخط علي الحكومة، مظاهرات تتحرك في شوارع الجامعات المسورة، وقليلا ما تخرج خارج الحرم، لكن كل ذلك كان يحدث دون تغيير. لم يكن هناك شيء يتغير في الحياة رغم وجود كل هذا.. كلمة السر هي توظيف الإنترنت. منذ 97، وما بعدها، تغير التعبير، كان الناس يتكلمون عن لغة جديدة وتعبير جديد. السر- ببساطة عدم وجود بوابة إعلامية، لا يوجد من يراجع الكلمات، أو يحرفها، أو يحذف منها حتي ينزع عن الكلمات سخونتها، بحيث لا تسبب إزعاجا لأحد. كان التعبير، يشبه ما يحدث في الشارع.. تعبير خام، بلا رتوش أو مجاملات. بدأت الضربات المتتالية للرقابة مع كل مدونة جديدة، حيث اكتشف القارئ مع كل تدوينة وليدة أن فرض الرقابة ليس إلا محاولة لتسييد ذوق محدد، يرفض الآخر، ويحاول تنميطه، وتدجينه، لينتج أشكالاً محددة سلفاً، أشكالاً توافقية لا تسمح بالتجريب إلا في حدود.. هكذا أصبحت الرقابة سمة التعبير في الحياة بينما هي كائن خرافي في العالم الافتراضي. ظهرت كتابات لا تندرج تحت أي تصنيف مما اعتدناه، صار ممكناً أن نقول إنها كتابة بشكل عام، أتنتمي للقصة؟ للشعر.. أم الرواية؟ كان هذا سؤالاً غامضاً.. ولايزال. تلك الكتابة كان لا بد لها أن تظهر، لأنها كانت تلح علي أصحابها.. الضغوط، وتوافر مجال تعبير حر صنع بحراً لا أول له ولا آخر. كانت موجاته الأوضح بلون السياسة، ولكن في البحر تتداخل الأمواج.. ولا أحد يعرف ما الذي حرك الموج؟ ومتي ولدت الموجة الأولي.. هكذا سنجد اهتماماً أساسياً لدي المدون، لكنه يتحرك حول ذلك الاهتمام، يكتب عن المزيكا، الأدب، السياسة، العلاقات، الحب، الأكل، وكل شيء.. حسب ذلك الفهم للكتابة لم يعد هناك هوس بكتابة الإيروتيكا، مثلا، حيث أخذت أياماً وجهداً من الكتّاب، ثم استقرت في النهاية لدي مجموعة من المتابعين، من يريد الإثارة سيجدها، هكذا هي الكتابة في العالم الافتراضي، ولكنها ليست كذلك في حياتنا مع الأسف، نحن نتمسك بالرقابة لأسباب لا يعرفها إلا الرقيب. 2 حنفية التعبير ربيع الحرية مصطلح برز مع أمواج التدوين الأولي، وبداية الجرائد المستقلة، وإن كان الصوت الأعلي والتعبير الأجرأ كان للمدونين الأوائل. تلك السنوات شهدت حبس مدون، وهروب الكثير منهم خارج مصر، وشهدت النهاية الدرامية بإغلاق "حنفية التعبير"، المصطلح راج في عام 2010.. خلال الربيع الأول للحرية أخذت التجربة في الرسوخ. من كان يملك مدونة صار يملك موقعاً شخصياً. حالة التدوين مستمرة، ربما تكون قد دخلت في مراحل أكثر كثافة، ستجد أن التكثيف هو المسيطر الآن، نحن نتحدث عن بلاغة ال 140 حرفاً في تويتر، بداية حقبة جديدة لمستخدمي الإنترنت في مصر، عملية الاختزال تلك رصدها كتاب"من البوست إلي التويت" للصديق أحمد ناجي (الشبكة العربية لحقوق الإنسان- 2010). تستمر الحالة في التشكل علي مواقع تفاعلية أكثر شمولاً مثل tumblr، الذي يتيح لك إمكانية مشاركة تدوينة، صورة، فيديو، والعبارات القصيرة.. الدنيا لا يزال بها أكثر مما تتخيل، و google + ينافس الآن الفيسبوك. الجديد لا يمحو القديم. الأشياء تتجاور، ولا شيء يقضي علي الآخر، نحن لسنا في حلبة مصارعة. 3 الذاكرة كلب وفي منذ بدء الخليقة والإنسان يحارب الذاكرة.. بالحذف منها، بالإضافة إليها. الذاكرة لم تكن أبداً علي قدر رغبة حاملها. لكن الإنترنت كان له الفضل في ترويض الذاكرة.. صارت الذكريات تحت التصرف، تجلب لك الذكري إذا أردتها مثل كلب وفي يحضر لك الطبق الطائر الذي طوحته في الهواء، وهذا ما قدمه الإنترنت للإنسانية.. كل الموسيقي صارت هنا، لم تعد هناك حاجة لأرشيف شخصي. الصور كذلك، الفيديوهات، كم مكتبة وفرها عليك الإنترنت؟ الذاكرة الآن لم تعد محبوسة في حكايات شفهية، يتبادلها الناس بنبرة حنين، بل أصبح الماضي يعيش مع المستقبل علي الإنترنت. الذاكرة البصرية للجيل متوفرة علي اليوتيوب youtube، وعلي فليكر fliker. 4 حرب الأدبين نكتشف الآن أن الإنترنت أداة ربط بين أفعال لم تتقابل من قبل في حياتنا ولغتنا العربيتين، مثلا صار النضال قرينا للمتعة.. نضال الكيبورد شعار أطلقه صحفيو الحزب الوطني المنحل للتقليل من أداء وممارسة الشباب، لكن هذا التعبير صار تعبيرا عن مرحلة جديدة في تاريخ مصر حينما انقلبت الدنيا بسبب التعبير الجديد والتحريض الإليكتروني علي السياسة. لم تكن السياسة رفاهية، ولم يكن نضال الكيبورد بعيداً عن الواقع، بمعني أن العزلة عن الواقع لم تكن حادثة، هناك مظاهرات، مثلا، كانت بالكيبورد، حمل المدونون لوحة المفاتيح أمام نقابة الصحفيين. كانت السياسة جزءاً من كل، لكن الجديد في تجربة الفضاء الإلكتروني المصري كان الضربات المتتالية للكتابة التقليدية، في محاولة لنحت كتابة جديدة تبتعد عن متاهات الأدب في فترة التسعينيات، وما قبلها. سخرية المدونات من الأدب، واحتكاكات مدونين بأعمال أدبية كثيرة، استخدام الكتابة في التعبير دائما ما يولد عجز، وبحث عن صيغ أفضل، وهذا ما حدث، هكذا بدأت مناوشات أفرزت الجيل الأول من أدب المدونات، وإن كانت تلك العملية لا تقدم للقارئ جديداً، بل تمثل تقليلا من شأن النشر الحر/ المستقل، إلا أنها في النهاية لم تزد عن كونها اعترافاً من عالم الأدب بتلك الكتابة.. اعتراف لا يرقي لحجم الصراع خصوصاً أن بعض الحالات شهدت حذف كلمات وعبارات في مرحلة "التنزيل" بين دفتي الكتاب. هنا بالفضاء السيبري ولدت كتابة زبيدة بمدونة "الحرملك"، إنتاج تدويني مشاغب يفارق العديد من الكتابات النسوية، بل إن تلك الكتابة تدفعك لإعادة النظر فيما قرأته بعيداً عن "الحرملك". في أيام البحث عن اعتراف، بدأت حرب جديدة حيث اقتحم جيل جديد الأدب، قادماً من فضاء التدوين.. الاقتحام لم يكن تخلياً عن الأصل الافتراضي، استمر الكثيرون في التدوين، ثم التغريد، والبعض لم يدخل حارات النشر الضيقة مفضلا العالم الحر الموجود في الفضاء، خصوصاً أن الجمهور المقدر بتسعة ملايين، أيام اعتصام المحلة أبريل 2008 تزايد في ديسمبر 2010، قبل شهر من الثورة، إلي 19 مليوناً، وبعدها تجاوز رقم 22 مليون (الأرقام حسب تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء) 5 جندي مجهول مع ظهور رخصة المشاع الإبداعي تراجع مفهوم الملكية الفكرية، وقدسية العمل الأدبي بظهور حالات من الكتابة التفاعلية مثل روايات يكتبها عدة كتاب، وتكون مطروحة للقراء.. هكذا تشكلت ورش كتابة أون لاين. العمل المنسوب لأكثر من مؤلف أطاح بمفهوم ثابت مثل تعبير الكاتب عن نفسه بأدبه، وكذلك تكسرت أوهام أن النص يتوقف عند نشره، لأن عملية الكتابة ظلت مستمرة رغم النشر، التنقيح والتعديل واستكمال العمل وإعادة كتابته، كذلك صار أمراً يتم أمام عين القارئ، التي توقفت عن التلقي فقط، بل تدخلت بالمشاركة. الروائي محمد توفيق حرر موقعاً لكتابة روايته المنشورة "بائعة الحلوي"، ما احتواه الموقع يضاعف حجم الرواية الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية. توفيق احتفظ لنفسه بحقوق الملكية الفكرية، إلا أن هناك مدونين نشروا رواياتهم علي المدونة مع دعوة للمتابعين للمساهمة في إنتاج الرواية مرة أخري، أن يساهموا بالكتابة، أن يطوروا العمل، هكذا أعلن المدون كون المؤلف مجرد جندي مجهول في عملية مستمرة يتساوي فيها الجميع.. الأصالة كانت أن الكاتب لا يتدخل في عمله مرة أخري، أنه ملهم بحبكة وأن النص ليس إلا أسلوب كاتبه، لكن التدوين حرر تلك النظرة من سيطرة الكاتب المطلقة، ليكون لاعباً هاوياً، يبحث عن المتعة فيما يقدمه ويعيد إنتاج مساهمات الآخرين. 6 نهاية اللعب هذا وقد ماتت روح اللعب، أنت الآن لم تعد مجرد لاعب لا يملك شيئاً ليخسره، أعلن خبر الوفاة وائل غنيم علي مدونته الشخصية، مقدما 12 نصيحة لمستخدم الإنترنت، الناشط لم يعد راقصاً مدفوعاً بروح الإنترنت، بل أن تويتة كتبتها أسماء محفوظ غرمت صاحبتها 20 ألف جنيه أمام النيابة العسكرية. التعبير المختلف، لا تصلح معه قوانين النشر الخاصة بالجرائد، الجريدة مسئولة، وحينما تنشر معلومات بلا سند، يكون ذلك سبا وقذفا، لأن المصداقية هي المعيار والهدف، بل عنوان الجريدة بينما الإنترنت محرك، محرك يدفعك نحو المعرفة، للتأكد بنفسك من الحقيقة. روح الواقع الافتراضي تخبرك ألا تثق إلا بعقلك.. هكذا تحاول السلطة دائما تقييد التعبير، بل شله تماماً. غضب السلطة من الإنترنت قديم، قديم قدم أول ممارسة مصرية في العام 1997.الآن الكعكة الحجرية مخصصة لاعتصام الأمن المركزي، والفضاء مراقب.. لماذا تخاف السلطة إلي هذا الحد من الكلام؟ ربما لأن الكلام صار قابلاً للتحقق، وكل ما هو افتراضي صار قابلاً للحدوث في لمح البصر.