في حالات كثيرة يكون التاريخ صنيعة الجغرافيا، وفي حالة بلد مثل السودان يحدث هذا بشكل مضاعف. ففي هذا البلد العربي الإفريقي الذي يحمل تنوع قارة كاملة، من الصعب فصل الجغرافيا عن التاريخ. إذ تركت بصماتها الدامية عليه، وما زالت توجهه وتصنعه حتي الآن. ربما لهذا لن يُفاجأ قارئ كتاب "تاريخ السودان الحديث" الصادر مؤخراً عن المركز القومي للترجمة بترجمة مصطفي مجدي الجمال، ومراجعة د. حلمي شعراوي، حين يجد هذا الاهتمام الشديد من مؤلف الكتاب روبرت أو. كولينز بجغرافيا السودان وطبيعته وطبوغرافيته في كتاب من المفترض أنه يتناول تاريخ هذا البلد الشديد التنوع والكبير الحجم. أول ما يخطر في بالنا حين نسمع اسم السودان هو النيل، فمثلما أن مصر هبة النيل كما رآها هيرودوت قديماً، فإن السودان بدوره هبة هذا النهر الخالد. فنهر النيل هو الذي حدد طريقة عيش السودانيين ممن عاشوا علي ضفافه وميزهم عن الفلاحين والرعاة القاطنين في السهول السودانية بعيدا عن النهر. كما أنه ساهم في ترسيخ ثنائية المركز المتمتع بالكثير من المزايا، والأطراف المنسية المهمشة. إن أهم مكونين في تاريخ السودان وفقا لكولينز هما: الحجم والتنوع. فالسودان كما نعلم جميعا أكبر بلدان أفريقيا من حيث المساحة (مليون ميل مربع ويشغل 18 درجة من خطوط العرض). هذه المساحة تضم تنوعا جغرافيا هائلا من سهول وجبال وهضاب وصحراء وكثبان رملية. كما تتنوع النباتات والحيوانات لتباين مستويات تساقط الأمطار، حيث يمكننا تقسيم الحياة النباتية من الشمال إلي الجنوب إلي خمسة أحزمة. واستكمالا لحلقة التنوع وتأثيرها علي تاريخ السودان، سنجد أنه يضم 600 جماعة عرقية ولغوية (بعضها مكون من أفراد قليلين)!! غير أن المؤلف يشير لأسلوب آخر يحلو للكثيرين تقسيم السودانيين عبره إلي فئتين كبيرتين: المسلمين وغير المسلمين. لافتا النظر إلي أنه يمكن تقسيم المسلمين بدورهم إلي من يدعون الهوية العربية، ومن لا يرون في أنفسهم عربا! يكتب كولينز: "وعلي الرغم من اشتراك عرب السودان في اللغة والديانة الواحدة فإنهم لا يشكلون جماعة متماسكة حيث يقسمون بشكل متعسف إلي حد ما إلي مجموعتين: النوبيين المعربين و"الجعليين"، ويقصد بالأخيرين أولئك الذين يدعون التحدر من "إبراهيم جعل"، وهو من نسل "العباس" عم النبي، وقد عاش وسط جماعات استوطنت النيل بطوله، والمجموعة الأخري تضم بدو وأشباه بدو جهينة ويعيشون في السهول". أما السودانيون من غير المسلمين فيتركزون في جنوب السودان، ويمثلون ثلث سكان السودان ويتكونون من حوالي ستين جماعة مختلفة من الأصول النيلية الغربيةوالشرقية، (المصطلح يشير إلي الذين يتكلمون اللغات النيلية). النيليون الغربيون يتكونون بدورهم من: "اللو، الشيلوك، الأنواك، الأتشولي، الجور، إلي جانب الجماعتين العرقيتين الأقوي في جنوب السودان وهما "الدينكا" و"النوير"". هذا التوقف أمام الجماعات العرقية في السودان هدفه فقط الإشارة إلي التعقيد البالغ الناجم عن هذا. إذ يبدو الأمر لمن يحاول فهم الواقع السوداني من خارجه أشبه بلوغاريتم بالغ التعقيد. أو حقل ألغام إثنية. لأن هذا التنوع العرقي واللغوي الهائل، أسهم _ وفقا للمؤلف- في بلورة ما أسماه ب"العنصر الثالث في تاريخ السودان الحديث، ألا وهو العنصرية الثقافية". حيث يري أن العنصرية عميقة الجذور قد بنيت في السودان علي الأساسين التاريخي والثقافي أكثر من بنائها علي أساس اللون، وهي أيضا عنصرية فردية ومؤسسية أكثر من كونها أيديولوجية. حيث يكتب: "كان الاسترقاق مؤسسة تاريخية ومقبولة في السودان لآلاف السنين، وكان التمييز العنصري هو المبرر الأول له، وهو ما استمر في السودان المعاصر من خلال استخدام التعبير التحقيري "عبد" لوصف أولئك الذين يملكون خصائص ثقافية مختلفة، أو ذوي الوضعية الاقتصادية والاجتماعية المنخفضة سواء أكانت ظاهرة أم ضمنية". من مظاهر هذه العنصرية أن سكان السودان النهري "أولاد البحر" أظهروا منذ القدم ازدراءهم للعرقيات الأخري في الغرب "أولاد الغرب" حيث اعتبروهم غير متحضرين. (الجعليين والشايقية والدناقلة "أولاد البحر" احتكروا جميع المناصب الحكومية بدءا بمنصب الوزير وانتهاء بالوظائف الحكومية الصغيرة علي مدي الخمسين عاما التالية علي استقلال السودان. منذ البداية يعترف كولينز أن التأريخ للسودان عمل في موضوع حافل ومعقد، لأن تاريخ هذا البلد يمتد من مملكة "كوش" (760 قبل الميلاد- 350 بعد الميلاد) إلي يومنا الحالي. لكنه يستدرك أن تاريخ السودان المستقل يبدأ مع انسحاب الحكام البريطانيين والمصريين في أول يناير 1956. مؤكداً أن أية محاولة لفهم سودان اليوم يجب أن تقوم علي البحث في وقائع المائتي عام الأخيرة. "ذلك أن مجيء الأتراك والبريطانيين إلي السودان قبل وبعد الثورة المهدية (1881- 1898) لم يؤد فحسب إلي اضافة المزيد من التنوع المدهش أصلا لشعوب السودان، وإنما أفضي أيضا إلي خلق دولة تتحكم فيها أشكال حكم جديدة مصطنعة. فقد جلب الأتراك والمصريون معهم حضارة وثقافات من الإمبراطورية العثمانية والعالم العربي في القرن التاسع عشر، بينما أدخل البريطانيون إمبريالية وتعليم وديانة وتكنولوجيا الغرب في ذات القرن. وقد ترك كل طرف من أولئك الغزاة وراءه، وعلي طريقته الخاصة، طبقات إضافية من المؤسسات الغريبة فوق عناصر أصلية عميقة الجذور في نسيج الماضي السوداني". وكما اختار كولينز البحث في وقائع المائتي سنة الأخيرة فقط، سوف أجازف بدوري بالتركيز علي الجزء الذي يتناول تاريخ دارفور، أولاً لأهمية القضية وسخونتها، وثانياً لأن الطريقة التي تعقدت بها قضية هذا الإقليم وطريقة تعامل الإنجليز ثم الحكومات السودانية مع الإقليم ككل تكشف الكثير من طبقات التاريخ السوداني، والعلاقة المعقدة بين الإثنيات المختلفة فيه. لذا لن أكون مبالغة إذا قلت أن الفصل الأخير الذي يتناول أزمة دارفور من أهم فصول الكتاب، حيث يحلل إياها من منظور تاريخي، مبيناً من خلاله أن هذه الكارثة الإنسانية لم تبدأ اليوم ولا بالأمس القريب، إنما ذات جذور قديمة ومعقدة قدم وتعقد التركيبة العرقية في السودان. فكارثة دارفور ليست مجرد احتجاج عفوي علي الاهمال والحكم السيئ والعنصرية، إنما "آخر حلقات صراع مأساوي استمر لأربعين عاما حول السيطرة علي الحوض الكبير لبحيرة تشاد". أو بالأحري هي نتاج عقود (قرون؟) من الاهمال والتهميش. يقع إقليم دارفور في الحوض الكبير لبحيرة تشاد، تحده ليبيا من الشمال الغربي وتشاد من الغرب. وهنا نعود لنلاحظ كيف تصنع الجغرافيا التاريخ وتزيد من تعقده، إذ أن السهل السوداني بدارفور ينحدر تجاه الغرب، ويقطعه جبلة مَرّة. هذا الاتجاه الجغرافي صوب الغرب شكل تاريخ الإقليم قبل الحقبة الاستعمارية، حيث ينظر أهالي دارفور إلي تورا الواقعة شمال جبل مرة باعتبارها موطن الأجداد. وفي القرن السابع عشر أسس سليمان صولونغ سلالة كيرة الحاكمة وحول مملكة الفور القبلية إلي سلطنة متعددة الأعراق. وقد بنيت هذه السلطنة بعد أن هزم صولونغ المساليت والمراريت والزغاوة والبرجيد والتونجور. هذه السلطنة خاضت حروبا ومشاحنات مستمرة مع سلطنة واداي. ويورد المؤلف أن انتشار الإسلام واللغة العربية في دارفور اتسم بالبطء والتشتت والاختلاف الكبير عن مسار انتشارهما في وادي النيل. وتبني الإسلام الذي عرفه الفور والمساليت الكثير من الطقوس الأفريقية، "وهو ما ميز الإسلام المحلي غرب دارفور عن الإسلام الأكثر أصولية للدارفوريين شرق جبل مرة مثل البرجيد والميما والبرتي، وهو ما ميز تقليديا بين الأسلمة والتعريب في دارفور. فحتي نهاية القرن العشرين لم تتمكن اللغة العربية من الحلول محل اللغات النيلو- صحراوية لأولئك الدارفوريين في السهول الشرقية".في عام 1900 اعترفت الحكم الإنجليزي- المصري للسودان بعلي دينار زكريا محمد الفاضل رسميا كحاكم لسلطنة دارفور المستقلة مقابل دفع خراج رمزي. وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولي تغيرت نظرة الإنجليز لعلي دينار إذ لم يعودوا في حاجة إليه لمنع التقدم الفرنسي إلي الدويلات التابعة له علي الحدود الغربية. فقام طابور انجليزي- مصري قوامه 2500 جندي عام 1916 بهزيمة جيش الفور والاستيلاء علي الفاشر واحتلال قصر السلطان الفخم. لكن كيف فاقمت الإدارة البريطانية طوال فترة الحكم الثنائي للسودان من تعقد مشاكل إقليم دارفور؟ الإجابة هي أن سياسة بريطانيا في الإقليم قامت علي حفظ السلام فيه بأقل التكاليف. استخدمت عددا قليلا من الموظفين السياسيين الانجليز الذين حكموا دارفور من خلال إدارة أهلية اعترفت بسلطة الشيوخ والنظار والعمد طالما كانوا قادرين علي تسوية المنازعات بين القبائل ومراعاة القانون والنظام. ولنا أن نتخيل أنه حتي عام 1935 كان في إقليم دارفور (خمس حجم السودان تقريبا) مدرسة ابتدائية واحدة، وبلغ إجمالي ميزانية التعليم 1200 جنيه استرليني فقط في منطقة يبلغ تعداد من هم في سن التعليم فيها نص مليون نسمة. كما لم يتم فتح أي مدرسة للبنين منذ عام 1932 حتي عام 1947. أيضا كانت دارفور الولاية الوحيدة بالسودان التي لا توجد بها عيادات شعبية للأمومة، وتوطنت الأوبئة، وشاعت الأمراض مثل الجدري والالتهاب السحائي والحمي الراجعة والحمي السوداء. واستمر تهميش الإقليم وتجاهله بعد الاستقلال عام 1956، غير أنه مع وصول معمر القذافي للسلطة في ليبيا طرأ متغير جديد فيما يخص دارفور. فحلم "دولة الصحراء الإسلامية" الذي راود القذافي ووجه برفض السادات وجعفر نميري لفكرة الوحدة الثلاثية بين ليبيا ومصر والسودان. فوجه القذافي كل جهوده لبناء الإمبراطورية السودانية الليبية العربية التي تلعب فيها دارفور دورا استراتيجيا. يكتب كولينز: "جعل القذافي من نفسه راعيا لجبهة التحرير الوطني التشادية، كما استضاف الصادق المهدي وزوده بالسلاح ومعسكرات التدريب في معرة والجداعيم جنوبي ليبيا حيث تم تدريب أكثر من ألفين من البقارة الأنصار من دارفور ووحدات من المرتزقة في الفيلق الإسلامي الذي يرعاه القذافي، وذلك استعدادا للمحاولة التي قام بها الصادق المهدي في يوليو عام 1976 للاطاحة بحكم نميري". تم اخماد الانقلاب، فقرر القذافي تركيز طاقاته علي بناء وجوده في دارفور. وفي بداية الثمانينيات أصبح دارفور مليئا بالأسلحة الآلية، خاصة الكلاشينكوف، وترتب علي ذلك زيادة كبيرة في الغارات والغارات المضادة بين فلاحي الفور الأفارقة والرعاة الرزيقات العرب. في 1987 خرج التجمع العربي إلي العلن بنشر خطاب مفتوح إلي الصادق المهدي (أزيح النميري عن السلطة 1985) في صحيفة الأيام أكدوا فيه علي الفضل العربي! منذرين بوقوع كارثة إذا استمر إهمال العنصر العربي. ثم تخلوا عن حذرهم تدريجياً مؤكدين العزم علي قتل جميع "الزرق" (الأفارقة)، وعلي أن دارفور هي دار العرب. اندلعت الحرب الأهلية في ربيع 1989، وتم قتل 3000 من الفور بالقرب من نيالا، وقتل 1500 آخرون علي أيدي ميليشيات بني حلبة والسلامات العربية حول جبل مرة. ومع إطاحة عمر حسن البشير بحكومة الصادق المهدي نهاية يونيو 1989 بدأت صفحة أكثر سوادا في تاريخ الإقليم المنكوب. فمع انشغال تشاد وليبيا بمشكلة شريط أوزو الحدود، أحكمت حكومة البشير الإسلامية قبضتها علي دارفور منتهجة سياسة القمع المنهجي للفور، نزع سلاحهم وترحيل الآلاف منهم. كما أعادت رسم حدود المراكز الإدارية وتحويلها لولايات منفصلة هادفة بالأساس إلي جعل الفور أقلية مهمشة، كما جري تعيين المسئولين الإداريين في الولاياتالجديدة بشكل أثار السخط المرير عند الدارفوريين المسلمين من غير العرب. وبدأ الإسلاميون في الضغط علي التراتبية التقليدية للمساليت، بنزع السلطة من شيوخهم وسجن وتعذيب كثيرين منهم. لتنشب حرب العصابات التي بدأها المساليت الأكثر ميلا للاستقلال عام 98 عندما بدأ عرب بني حسن تحركهم الموسمي بقعانهم جنوبا في وقت مبكر عن المعتاد، الأمر الذي أدي إلي تدمير الكثير من محاصيل فلاحي المساليت. ليقتل من المساليت المئات وتدمر اكثر من مئة قرية من قراهم، ويفر حوالي خمسة آلاف منهم كلاجئين داخليين أو لاجئين في تشاد. بعد صلح هش، استؤنف القتال مرة أخري بداية 99مع وصول بني حسن مرة أخري إلي دار مساليت. لكنه كان أكثر شراسة بفعل الرغبة في الثأر. ونتيجة لهذا القتال "اعتبرت الخرطوم أن متمردي المساليت يمثلون الطابور الخامس للحركة الشعبية لتحرير السودان، ومن ثم أطلقت يد الميليشيات العربية. ولم تكن هذه الميليشيات قد اكتسبت بعد لقب "جنجويد" الشائن، وهو تعبير قديم شائع في دار مساليت يطلق علي عصابات قطاع الطرق القادمة من تشاد، بغض النظر عن عرقيتها". كانت النتيجة قتل ما يزيد عن الألفين من المساليت وحرق ثلاثة آلاف كوخ من أكواخهم ونهب أعداد ضخمة من ماشيتهم، وإعدام 14 زعيما من زعمائهم بأحكام صادرة عن محاكم خاصة شكلت علي عجل. وهرب 40 ألف من المساليت إلي معسكرات اللجوء في تشاد. لم يتوقف الأمر عند هذا، إذ مع تعيين عبد الله الصافي النور حاكما لولاية شمال دارفور عام 2000 (معروف بكونه من المدافعين علنا عن فكرة التفوق العربي) كان أول أمر يصدره هو جمع السلاح من جميع أفراد الشرطة من غير العرب، وقام بتسليم السلاح لموسي هلال الذي جند 2000 من العرب التشاديين والبقارة ليشكلوا نواة الجنجويد أو البشمرجة. ليأتي التمرد المسلح في الإقليم عام 2003 كأنه نتيجة حتمية وحلقة جديدة من سلسلة العنف التي تعود جذورها للماضي. وهو التمرد الذي لم يقدر الجيش وحده علي اخماده فأسرعت الخرطوم بإعادة تسليح وإطلاق ميليشيات عرب دارفور "الجنجويد" لإنقاذ الجيش (بلغ عددهم 5000 فرد قام الجيش بتسليحهم وتدريبهم). يورد المؤلف أرقاما مخيفة بعدد القتلي غير العرب في دارفور وتفاصيل مرعبة لانتهاكات حقوق الإنسان في الإقليم، واصفاً ما يتم بأنه تطهير عرقي، ويتحفظ المترجم علي الأرقام الواردة كونها من وجهة نظره غير مدعومة بمصادر، كما يتحفظ علي استخدام مصطلح "تطهير عرقي" دون تمحيص، إلا أنه يعترف أن "الخسائر البشرية في دارفور فادحة جدا للأسف". وسواء أكانت الأرقام الواردة دقيقة أم لا، فإن ما لا يمكن إنكاره هو أن ما يحدث في دارفور هو جريمة ضد الإنسانية (دفعت المؤلف للقول بأن الدارفوريين سيصبحون فلسطينيو أفريقيا) ، ووضع مأساوي بكل المقاييس، نتج عن حلقة في صراع عمره 45 عاماً من أجل السيطرة علي حوض بحيرة تشاد، وعن عنصرية ثقافية تعود لعقود سابقة. الكتاب: تاريخ السودان الحديث المؤلف: روبرت أو. كولينز المترجم: مصطفي مجدي الجمال المراجع: حلمي شعراوي الناشر: المركز القومي للترجمة