افتكروا كلامي.. خالد أبو بكر: لا حل لأي معضلة بالشرق الأوسط بدون مصر    «صحة البرلمان» تكشف الهدف من قانون المنشآت الصحية    سعر سبيكة الذهب بعد تثبيت الفائدة.. اعرف بكام    مياه الشرب بالجيزة.. كسر مفاجىء بمحبس مياه قطر 600 مم بمنطقة كعابيش بفيصل    نداء عاجل من غرفة شركات السياحة لحاملي تأشيرات الزيارة بالسعودية    أسعار الدواجن البيضاء في المزرعة والأسواق اليوم الجمعة 24-5-2024    أصحاب المركز الرابع للعلوم الطبية الانتقالية يكشفون ل«مصر تستطيع» تفاصيل المسابقة    هيئة الأركان المسلحة الإيرانية: مروحية "رئيسي" احترقت بعد اصطدامها بمرتفع.. ولم تخرج عن مسارها    حزب الله اللبناني يعلن استهدف جنود إسرائيليين عند مثلث السروات مقابل بلدة يارون بالصواريخ    قرار يوسع العزلة الدولية.. ماذا وراء تصنيف الحكومة الأسترالية لميليشيات الحوثي كمنظمة إرهابية؟    مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: الحصول على العضوية الكاملة تتوقف على الفيتو الأمريكي    رياض منصور: فلسطين ستحصل على العضوية الكاملة بالأمم المتحدة قريبا    هيثم عرابي يكشف تعليمات طلعت يوسف للاعبي فيوتشر قبل مواجهة الزمالك    منتخب مصر يخسر من المغرب في ربع نهائي بطولة إفريقيا للساق الواحدة    خالد جلال: جوميز كان يعرف من أين تؤكل الكتف    إصابة فتاة إثر تناولها مادة سامة بقنا    خبطة في مقتل.. تفاصيل ضبط ترسانة من الأسلحة والمخدرات بمطروح    موعد إعلان نتيجة الصفين الرابع والخامس الابتدائي الأزهري 2024    نقابة المهن الموسيقية تعزي مدحت صالح في وفاة شقيقه    حظك اليوم برج الحوت الجمعة 24-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. فرصة للتألق    حظك اليوم برج العقرب الجمعة 24-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حظك اليوم برج القوس الجمعة 24-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    مأساة غزة.. إدارة مستشفى شهداء الأقصى تحذر من كارثة خلال ساعات وتقدم طلبا لتفاديها    5 شهداء وعدد من الجرحى في قصف شقة سكنية وسط حي الدرج بمدينة غزة    شهادات سيدات ل«المصرى اليوم» تحكى تجربة استخدام أوبر : «بنعيش أوقات من الرعب»    لمستخدمي الآيفون.. 6 نصائح للحفاظ على الهواتف والبطاريات في ظل الموجة الحارة    طريقة الاستعلام عن معاشات شهر يونيو.. أماكن الصرف وحقيقة الزيادة    الأحزاب السياسية: أكاذيب شبكة CNN حول مصر تتعمد تضليل الرأي العام.. تقرير    شوبير يُعلن موقف عبد المنعم وهاني من المشاركة أمام الترجي    عمرو أنور يعلن رحيله عن طنطا ويقترب من تدريب المصرية للاتصالات    «فيها جهاز تكييف رباني».. أستاذ أمراض صدرية يكشف مفاجأة عن أنف الإنسان (فيديو)    انتهاء فعاليات الدورة التدريبية على أعمال طب الاسرة    سعر الدولار مقابل الجنيه.. بعد قرارات المركزي بشأن أسعار الفائدة    الهلال يهزم الطائي بثلاثية في الدوري السعودي    «دنيا سمير غانم كانت هتبقى معانا».. هشام ماجد يكشف مفاجأه عن الموسم الأول من «أشغال شقة»    أكثرهم «برج الحوت».. 5 أبراج سيحالفها الحظ خلال الفترة المقبلة (تعرف عليها)    "دمي فلسطيني".. والد بيلا حديد يعلق على إطلالة ابنته بالكوفية الفلسطينية في "كان" السينمائي    إيرادات الأربعاء.. "السرب" الأول و"بنقدر ظروفك" في المركز الرابع    انطلاق المؤتمر السنوي ل «طب القناة» في دورته ال 15    العثور على جثة متحللة لمسن في بورسعيد    لجنة سكرتارية الهجرة باتحاد نقابات عمال مصر تناقش ملفات مهمة    قرار قضائي جديد بشأن التحقيقات مع سائق «ميكروباص» معدية أبو غالب (القصة كاملة)    محمد نور: خطة مجابهة التضليل تعتمد على 3 محاور    الفريق أول محمد زكى: قادرون على مجابهة أى تحديات تفرض علينا    رئيس الوزراء يناقش سبل دعم وتطوير خدمات الصحفيين    محافظ بورسعيد يشيد بجهد كنترول امتحانات الشهادة الإعدادية    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال    متى وكم؟ فضول المصريين يتصاعد لمعرفة موعد إجازة عيد الأضحى 2024 وعدد الأيام    خاص.. الأهلي يدعو أسرة علي معلول لحضور نهائي دوري أبطال إفريقيا    بالفيديو.. خالد الجندي: عقد مؤتمر عن السنة يُفوت الفرصة على المزايدين    قبل قصد بيت الله الحرام| قاعود: الإقلاع عن الذنوب ورد المظالم من أهم المستحبات    الجودو المصري يحجز مقعدين في أولمبياد باريس 2024    وزارة الصحة تؤكد: المرأة الحامل أكثر عرضة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرى    محافظ كفر الشيخ يتفقد السوق الدائم بغرب العاصمة    ما حكم سقوط الشعر خلال تمشيطه أثناء الحج؟ أمين الفتوى يجيب (فيديو)    عفو السيسي عن عقوبة "البحيري" .. هل عطّل الأزهر عن فتوى جديدة عن "مركز تكوين"    رئيس الوزراء يتابع موقف تنفيذ المرحلة الثانية من منظومة التأمين الصحي الشامل    رجل متزوج يحب سيدة آخري متزوجة.. وأمين الفتوى ينصح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان.. الانفصال الذى كان واقعًا يمكن تغييره فأصبح مصيرًا مقررًا
نشر في الشروق الجديد يوم 18 - 01 - 2011

«وكانت مشاعر السخط لدى الجنوبيين قد تفاقمت سريعا بعد إعلان نتائج السودنة فى عام 1954، ومما زاد المشاعر مرارة أن مناصب إدارية مهمة فى الجنوب قد ذهبت إلى سودانيين شماليين غرباء عن الإقليم ولا يعلمون شيئا بمعنى الكلمة عن الجنوبيين، أعراقا وثقافات ولغات»، هكذا كتب روبرت أو كولينز الأكاديمى البريطانى العارف بالشأن السودانى فى كتابه «تاريخ السودان الحديث» الصادر فى طبعته العربية عن المركز القومى للترجمة.
الكتاب الواقع فى نسختة العربية فى أكثر من 350 صفحة بترجمة مصطفى مجدى الجمال ومراجعة الخبير المصرى الأوثق فى الشئون الأفريقية حلمى شعراوى يروى قصة انفصال جنوب السودان عن شماله، التى بدأ أول فصولها مع حرب العاج فى عام 1863، حيث كان أبناء القبائل الشمالية، وجلهم من العرب المعتنقين لإسلام أتى إليهم، يغيرون على أحراش الجنوب، حيث الأفارقة المتلقين لتبشير الإرساليات المسيحية، لاصطياد الأفيال بأمر من حكام غير سودانيين وما صاحب ذلك وتبعه من تجارة الرقيق، التى كانت تتم من الشمال للجنوب لمصلحة الاستعمار البريطانى بالأساس، مرورا بذلك «القمع العنيف للاضطرابات فى جنوب السودان بعد تمرد عام 1955» و«الحنث بوعد إقامة الفيدرالية فى السودان» نحو نهاية الخمسينيات من القرن الماضى وهو القمع والحنث، الذى دفع الجنوبيين «إلى السلبية مؤقتا، ولكنه كان نوعا من الصمت المرير الذى كان ينتظر الشرارة ليشعل الحريق الذى أصبح يعرف بمشكلة الجنوب»، بالرغم من تصور إبراهيم عبود القائد العام للجيش السودانى فى منتصف الخمسينيات وغيره من القيادات العسكرية للسودان خلال الستة عقود التالية حسبما يؤكد كولينز أن الأمر ممكن حسمه بفرض الوحدة من خلال «الانضباط العسكرى الصارم وفرض سياسة تعريب جامدة وغير حساسة تضمنت فرض الهوية واللغة العربية مصحوبة باسلمة جميع غير المسلمين على الجنوبيين الأفارقة غير العرب» دون بذل «أى جهد لاستخدام التنمية الاقتصادية لتخفيف المرارة من عمليتى التعريب والإسلام».
وبالرغم من أن سرد كولينز لفصول تاريخ السودان الحديث الذى يتجاوز قصة الشمال والجنوب إلى قصة دارفور وغيرها من قصص الخلافات السودانية التى لا تزال ماثلة لا يتجاوز توقيع اتفاقيات السلام بما فى ذلك اتفاق 2005 بين الشمال وقيادات الحركات المسلحة فى الجنوب تلك التى بدأ نشاطها فى الخمسينات من القرن الماضى التى مهدت للاستفتاء على الانفصال وهو ما تم بالفعل يوم الأحد، التاسع من يناير، إلا أن قارئ الفصول العشر وما يسبقها من تصدير وخاتمة لا يمكن له إلا أن يخلص إلى استحالة استمرار ربط مصير الجنوب بالشمال تحت حكومة الإنقاذ الاسلامى أو غيرها من الحكومات، بما فى ذلك تلك المقررة من قبل الاحتلال البريطانى أو الحكم الثنائى المصرى البريطانى، التى توالت على حكم السودان الذى كان حتى السبت الثامن من يناير، البلد الأفريقى الأكبر.
رواية كولينز يوثقها بتفاصيل تغطى قرابة القرنين من التاريخ السودانى من خلال دراسات أكاديمية وافية وجمع موثق للمعلومات من مصادر سودانية ومصرية وبريطانية لا ترصد فقط التباين الكبير فى المسار والمصير للشمال والجنوب منذ بدايات التقسيم الاستعمارى للقارة ولكنها تشير أيضا إلى تعدد علامات تجاهل الجنوب وبدرجة مختلفة دارفور وتعمد تعميق الفروق إلى أكثر من التنوع القبلى والاثنى بكثير، من قبل حكام غير سودانيين تعارضت أهدافهم ومصالحهم، بإطفاء مكثف للتباعد الثقافى والدينى وصولا إلى استحالة وحدة الهوية أو الشعور بالمواطنة المتساوية وعجز القيادات السودانية المتوالية، خاصة فى الشمال، عن الأخذ بأسباب المواطنة المتساوية اللهم إلا فى حالات الاضطرار جراء التراجع العسكرى أو الضغط الأجنبى ولفترات وجيزة.
فى «تاريخ السودان الحديث» يطل القارئ على نشأة وتسلح الحركات السياسية الجنوبية الرافضة للهيمنة الشمالية المتجاوزة لحقوق الجنوبيين وهجرة بعض قياداتها إلى دول الجوار وشنها لعمليات تستهدف القوات العسكرية للشمال ومحاولة تلك القوات «سحق» تلك الحركات «المتمردة»، التى وصفها عبود فى الخمسينات، على عهدة كولينز ب«أولئك العبيد».
كما يتابع القارئ التخبط اللانهائى فى علاقة الشمال مع الجنوب ليس فقط مع سنوات استقلال السودان الحديث فى منتصف الخمسينيات، ولكن منذ عهد الحكم البريطانى لهذا البلد ومع سنوات الحكم المصرى البريطانى المشترك، ذلك التخبط الذى بدى واضحا فى المفاوضات المتتالية للتهدئة أو السلام بين النظام فى الشمال وقيادات الجنوب سواء كانت تلك الهادفة لسودان جديد علمانى يقوم على الوحدة والمساواة مثل جون جارنج أو تلك الرافضة للوحدة من حيث المبدأ والتى عارضت جارنج وحاربته حتى مقتله الغامض بعد فترة قصيرة من توقيع اتفاق السلام فى نيفاشا 2005 تمهيدا لوقوع الاستفتاء.
العلاقة المعقدة بين الشمال والجنوب لم يكن السبب الوحيد فيها حسبما يمكن للقارئ أن يخلص من سرد كولينز الشمال، أو حتى الجنوب والشمال، ولكنها فى الأساس تكمن فى أزمة هوية حقيقية للسودان إجمالا تتمثل بين الشمال والجنوب كما بين الشمال ودارفور بتلك التركيبة العرقية المعقدة وبتمازج للثقافات والاثنيات والأديان ذلك التمازج الذى استحال فى كثير من الاحيان لحروب، بعضها بين الشمال والجنوب وبعضها الآخر داخل الشمال أو داخل الجنوب، دون أن يتمكن أكثر القادة الوحدويين على قلتهم من تحويل هذا التمازج إلى تعايش، ربما لعدم رغبة أصحاب الهويات المختلفة فى قبول بعضهما البعض وربما للصياغات الدكتاتورية التى ميزت اشكال الحكم المتوالية على السودان فى شماله إجمالا وفى جنوبه أحيانا وما تبعها من تفضيل انفاق المال على السلاح والميليشيات العصبية بدلا من التنمية ومن تعمد تجاوز المثقفين ودعاة المساواة كاساس للوحدة.
«إن ذلك التنوع العرقى واللغوى الهائل فى السودان قد أسهم فى بلورة (أحد العناصر الحاكمة) فى تاريخ السودان الحديث ألا وهو العنصرية»، يقول كولينز الذى لا يقصر النعرة العنصرية على نظرة الشمال من أبناء العرب إلى أبناء الأفارقة فى الشمال وبالأكثر فى الجنوب بل بين أبناء الشمال وأبناء الجنوب تبعا للتنوع الاثنى والقبلى والدينى والأخير يتجاوز المسيحية والاسلام إلى ديانات أفريقية يرى كاتب «تاريخ السودان الحديث» أنها ما زالت حاسمة ومؤثرة فى الممارسات المسيحية والاسلامية، بل وفى الطريقة التى قرر بها حكام الشمال بدرجات متفاوتة فرض الشريعة الاسلامية على كل السودان فى مرحلة ما بعد استقلال السودان منتصف القرن الماضى.
وربما يضطر من يقرأ «تاريخ السودان الحديث» أن يعترف بعدم جهوزية دول الجوار السودانى للتعاطى السليم مع طفرات التشاحن العرقى فى السودان سواء كان ذلك داخل الشمال أو داخل الجنوب أو بين الشمال والجنوب.
كما يمكن للقارئ أيضا أن يواجه بتصورات ليست بالضرورة متفائلة حول السبيل الذى ستصير إليه العلاقات بين حكم الخرطوم وقيادات التمرد الدارفورية فى الغرب أو قيادات شرق السودان، فعلى الرغم من اشتراك هؤلاء جميعا فى تبنى اللغة العربية والاسلام فإن الفروق تبدو ضخمة من المنظور الاثنى بصورة قد تختلف فى صياغتها عن العلاقة بين الشمال والجنوب، ولكنها فى فحواها تبقى معبرة عن نفس الخلاف فى قبول الهوية المختلفة فى تعبيرات عنصرية قد يكون تجاوزها من خلال اتفاقات سلام غامضة مستحيلا، وقد يرى البعض أن لا حل لها سوى بصياغات استقلالية.
تفاصيل تغييرات الحكم والموائمات السياسية ولحظات انطلاق الحروب وحديث موائد التفاوض من اجل السلام ومواقف الأطراف المختلفة وتغييراتها، يقدمها كلها كولينز لمن يريد أن يفهم لماذا صار السودان إلى ما صار إليه ولمن يريد أن يكون تصورا عن فصول مقبلة فى تاريخ السودان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.