عاش السودان قبل أيام حدثين مهمين متزامنين, الأول سفر الرئيس السوداني عمر البشير إلي العاصمة التشادية للمشاركة في قمة تجمع الساحل والصحراء, حيث رفضت انجامينا طلبا أمريكيا لتسليم الرئيس البشير إلي محكمة الجنايات الدولية تنفيذا لطلب المدعي العام للمحكمة بالقبض علي الرئيس السوداني, ومحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور. الحدث الثاني كان بدء اجتماعات شريكي الحكم في السودان, حزب المؤتمر الوطني الحاكم, والحركة الشعبية التي تسيطر علي حكومة جنوب السودان لبحث ترتيبات إجراء استفتاء تقرير المصير في جنوب السودان في يناير القادم, ليحدد أهل الجنوب خيارهم القادم, إما بالبقاء ضمن الدولة السودانية أو الانفصال عنها. الحدثان في غاية الأهمية, لكن التناول الإعلامي لهما اختلف بشكل كبير حيث ركز أكثر علي قضية سفر الرئيس البشير إلي تشاد في تحد لقرار القبض عليه, ورفض تشاد تسليم البشير أو القبض عليه علي أراضيها رغم الخلافات العميقة بين البلدين, واتهام كل طرف للآخر بدعم حركات انفصالية معادية له. وقد يكون مع الإعلام العالمي حق في متابعة قضية البشير, باعتباره رئيسا مطلوبا محاكمته أمام محكمة الجنايات الدولية, وباعتبار أن قضية دارفور تحولت إلي شأن عالمي, يوليها الغرب أهمية كبري, ويحرص الإعلام الغربي علي تضخيم أحداثها, وربما الانحياز إلي طرف علي حساب الآخر في هذه الأزمة. المشكلة الأكبر هي أن ينجر الإعلام المصري وراء أولويات الإعلام الغربي, فقضية اعتقال البشير من عدمه, يجب ألا تكون علي رأس أولوياتنا, ليس لأننا غير معنيين بهذه القضية, وإنما لأن فكرة القبض علي الرئيس البشير أثناء سفره خارج بلاده غير واردة, فلا توجد دولة عربية أو أفريقية ستنفذ قرار المدعي العام للمحكمة, والرئيس البشير نفسه لن يسافر إلي أي بلد دون وجود تعهدات بعدم المساس به, كما أن فكرة نزول قوة خاصة إلي السودان والقبض علي البشير غير واردة علي الإطلاق. ووفقا لهذا السياق تبدو قضية سفر الرئيس البشير إلي تشاد هامشية مقارنة باستفتاء تقرير المصير الأكثر أهمية ليس للسودان فقط, وإنما لمصر وللعرب والأفارقة علي حد سواء, لأنها تتعلق بإعادة رسم خارطة القارة السمراء, وإذا صوت الجنوبيون علي الانفصال عن السودان كما هو متوقع, فإن هذا يعني عملية فصل حقيقية بين العرب والأفارقة, حيث ينضم شمال السودان العربي إلي دول الشمال الإفريقي العربية, بينما ينضم جنوب السودان إلي دول جنوب الصحراء الإفريقية السمراء. لقد ظلت عبقرية الجغرافيا السودانية, في أنها الدولة الإفريقية الوحيدة التي مثلت جسرا لتلاقي الحضارتين العربية, والإفريقية, وظل السودانيون يؤمنون لمئات السنين, بأنهم مؤهلون للعب هذا الدور والبقاء جسرا للتواصل بين الشمال العربي والجنوب الإفريقي الأسمر, لكن فشل الحكومات السودانية المتعاقبة في مزج هذا التنوع في خليط وهوية واحدة, قد يؤدي إلي انتهاء هذه الحالة الاستثنائية. وليس خافيا أن الإدارة الأمريكية خلال حكم الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون(1994 2002) قد شهدت اهتماما كبيرا بإنشاء ما يعرف بالحزام الإفريقي الكبير الذي يحيط بالشمال العربي, وكان خيار السودان إما أن ينضم إلي هذا الحزام الجنوبي, أو يستسلم للتقسيم ما بين شماله العربي, وجنوبه الإفريقي الأسمر, وما عجل من هذا الخيار سيطرة الدكتور حسن الترابي الزعيم التاريخي للجبهة القومية السودانية والمؤتمر الوطني علي مقاليد الحكم قبل الانقلاب عليه عام2000, واتباعه سياسة دعم الحركات الانفصالية خاصة الدينية منها في دول شرق ووسط أفريقيا مما جعل السودان وسط بحر من الأعداء وليس الأصدقاء. هكذا يبدو السودان أمام خيارات صعبة, وتبدو دولة الجنوب علي مرمي البصر, وهو حدث يحتاج أن يوليه الإعلام المصري أهمية خاصة, لدراسة نتائجه, واستشراف آفاقه وتأثيراته ليس علي مصر فقط, وإنما علي العلاقة بين الشمال الإفريقي ووسطه وشرقه.