هذا هو اسم الأغنية الشعبية الأشهر لمحمود الحسيني. تتجلي في هذه الأغنية بالذات حيلة في غاية الذكاء في التعاطي مع المنظومة الدينية والأخلاقية السائدة في مصر في الآونة الأخيرة. طبعا ليست هذه هي الأغنية الوحيدة في هذا السياق فهناك العديد من الأغاني لمغنيين آخرين مثل أغنية "عامل مسمار" لسمير صبري و"حجريين" لهوبا وأغنية "العبد والشيطان" لمحمود الحسيني ايضا. علي أن أغنية "سيجارة بني" تبقي الأكثر تدليلا علي تلك الحيلة التي سوف أوضحها لاحقا. ولكن قبل ذلك لا بد من الوقوف وقفة سريعة مع مصطلح "أغنية شعبية". في الحقيقة يبدو أن هناك تناقضا كبيرا بين المعني الحرفي والمعني الاستخدامي لهذا المصطلح. أنا مع الرأي القائل بأن معني كلمة شعب يتضح أكثر ما يتضح في اللحظات التي تصطف فيها معظم الطبقات والشرائح الاجتماعية في مواجهة تدخل خارجي بالذات. وهي بهذا تشمل كل سكان الدولة فيما عدا ذلك الجزء المحدود من السكان الذي ترتبط مصالحه مع هذا العدو أو ذلك. بهذا التعريف يجب أن يعني تعبير أغنية شعبية أغنية لكل الناس أي لكل سكان الدولة تقريبا. هذا معني مختلف تماما عن المعني الاستخدامي لهذا المصطلح الذي يحصرها في أغاني الطبقات الفقيرة والمهمشة أو أغاني سكان المناطق الشعبية والعشوائية والأحياء والقري الفقيرة، وقد يستخدم المصطلح أحيانا للتعبير عن ذوق أحط من الذوق الرسمي، وهذا الاستخدام الأخير سيكون محل تحفظ من كل محبي الغناء الشعبي بالضرورة. علي كل حال يبدو لي أن الهوة بين المعنيين في تناقص مستمر إذ أعتقد أن الأغنية الشعبية قد تخطت مرحلة رفض أو قبول المجتمع المميز لطور البدايات إلي مرحلة التواجد الفعلي القوي المميز لطور التمكن و الاستقرار. بالفعل لقد تجاوزت الأغنية الشعبية في العشرين سنة الأخيرة كل التحديات حيث ازداد عدد المغنيين الشعبيين زيادة كبيرة. كذلك تنوعت الأشكال الفنية لهذا الغناء تنوعا كبيرا. علي أن أهم ملمح من ملامح ذلك التواجد الفعال هو اكتساح تلك الأغاني لمعظم الأفراح والنوادي الليلية والأفلام السينمائية، هذا بخلاف آلاف المواقع التي تتباري في تسليط الضوء علي كل ما هو جديد من الأغاني الشعبية. هذه الشواهد وغيرها هي ما يجعلني أؤكد أن الأغنية الشعبية لم تعد في مرحلة التجريب أو التقلب، ولكن في مرحلة تمكن ونجاح حقيقي بما فيها من مدارس مختلفة وخطوط إنتاج ثابتة ومتطورة وقادرة علي الأخذ بأحدث الأساليب التقنية . يجب هنا ملاحظه الفرق بين ثبات خطوط الإنتاج ككل وبين تغيير أسماء المنتجين وأماكن نشاطهم من إمبابة وشبرا الخيمة إلي العمرانية وبولاق الدكرور وحتي طنطا وغيرها حيث تصعد دائما شركات و تهبط أخري وحتي المغنيين أنفسهم تتغير مكانتهم في السوق باستمرار حيث تظهر وجوه جديدة دائما ومعظمهم يتعالي علي الشركات البسيطة التي ظهر معها ويتمني الدخول فورا إلي عالم النجومية، تلك المظاهر هي ما يعطي انطباعا خاطئا بان خطوط الإنتاج الكلي غير مستقره آو ان استمرارها غير مضمون. علي أنني أتمني في هذا المستوي التمييز بين ما هو شعبي وما هو شبيه بالشعبي أو الشعبوي حيث أعتقد أن هناك فروق جمالية كبيرة بين هذين الشكلين. فالغناء الشعبي كما هو متحقق من عدوية وشفيقة إلي عبد الباسط حموده و محمود الحسيني ومحمود الليثي ومنار محمود سعد يبدوا لي كأنه صوت داخلي أو صوت ذات معنية بغناء نفسها. أما الشبيه بالشعبي أو الشعبوي، من محمد رشدي إلي حكيم وريكو وغيرهم الكثير، فيبدو لي كأنه صوت خارجي يعبر عن تصور ما عن ذات شعبية متخيلة حيث يكثر هنا خطاب الإعجاب أو الشفقة أو التماهي، وأحيانا خطاب التوجيه الأخلاقي او التربوي. بالتأكيد تحتاج تفرقة كهذه لمجهود إضافي خصوصا إذ لاحظنا انقلاب بعض المغنيين من طائفة الشعبي إلي الشعبوي، خذ شعبان عبد الرحيم مثالا. علي أية حال، إن ما يعنيني هنا ليس الغناء الشعبوي ولكن الغناء الشعبي. وهذا هو اللون الغنائي الذي أعتقد بانتقاله إلي مرحلة التمكن والاستقرار. وهذا ما سأحاول أن أقدم له تفسيرا ألان. إن كان لنظام حكم مثل نظامنا الحاكم من حسنة، فهي عدم التدخل علي المستوي الأيديولوجي أو الثقافي أو الأخلاقي أو الجمالي أو الفني. الحقيقة أنها طبيعة مثل تلك الأنظمة حيث لا يكون لديها الوقت الكافي للتدخل في هذا الجزء من البناء الفوقي، ويكون الوقت كله مكرس للتدخل علي المستوي الاقتصادي (لضبط إيقاع التحرر الاقتصادي) وكذلك علي المستوي السياسي (الأمني بالذات). فالنظام لم يعد ذلك النظام القديم الذي يمثل الدولة القومية، بل أصبح نظاما جديدا ليست لديه أية مصلحة في فرض أنماط جمالية أو أيديولوجية أو ثقافية معينة، بل علي العكس له مصلحة في إضفاء جو من السماح الديمقراطي وإطلاق بعض من الحريات الفردية، وفي نفس الوقت هناك تدخل كثيف علي المستوي الاقتصادي أو السياسي (بطريقة معينة)، أدي هذا التدخل الأخير إلي أداء اقتصادي وسياسي مستقر إلي حد ما وبالتالي إلي ثبات مجتمعي امتد للعقود الأربعة الأخيرة بدون تقلبات تذكر. وبما أن أمد عدم التدخل الثقافي والجمالي والأخلاقي قد طال وسيطول في جو عام سمته الأساسية ثبات الأداء الاقتصادي والسياسي، أصبح المجال الاجتماعي ساحة مفتوحة لكل التفاعلات التي تعبر عن تناقضات بين قوي مختلفة تسعي كل منها لحرف التوازن لصالحها في صراعات لن تحسم إلا بالقوة. هكذا ثار المحامون في مواجهة النيابة وتحرك القضاة في مواجهة تبعية تقليدية موروثة لرجال السلطة التنفيذية، وحتي الشرطة تحاول تجاوز الضمانات الممنوحة قانونيا للمواطنين وتحاول الكنيسة بكل السبل استعادة بعض قوتها المهدرة. وحتي تجمعات الأقليات الجنسية كالمثليين حاولت التعبير عن نفسها، وانحصر المد الديني وعاد إلي عقاله التي انطلق منها ألا وهي القطاع المحافظ من المجتمع تاركا الذوق العام أكثر تخلفا. وانفتحت كل أشكال التعبير الأدبي مثل قصيدة النثر والأشكال المتعددة للرواية الحديثة، ناهيك عن أشكال التعبير الصحفي وحدثت انتفاضة لمختلف أنواع المعارضين في قطاع الميديا والانترنت.علما بأن معظم تلك الساحات وبالذات تلك التي تخص الإبداع الادبي والفني قد تُركت مفتوحة لصراع قوي التجديد و قوي التقليد بدون أجنده سياسيه تذكر. في سياق كهذا، ولأن الجماعة الشعبية لا بد أن تفرح أحيانا، أصبح من السهل عليها العثور علي طريقتها الخاصة وليست طريقة الذوق السائد والذي لم يعد يسهر عليه أحد. هذه الطريقة هي الأغاني الشعبية. يتوقع بعض مثقفي الطبقات المتوسطة والعليا من الفنان الشعبي أن يكون الناطق الرسمي باسم الجماعة الشعبية بالمعني الاستخدامي للكلمة، وعليه إذن أن يعاني من الفقر وضيق الحال، وهذا بالذات هو مصدر المفاجأة فلا الفنان الشعبي هو ممثل الفقراء ولا هو يشتكي من ضيق ذات اليد. إنه ببساطة فنان مثل كل فنان، منفصل عن طبقته بطريقة ما، وليس بوقا لأحد، وهو مثل كل فنان حر ينتمي فورا لفئة المبدعين وعمله الأساسي هو التأمل واللعب بالأدوات. فالحقيقة أن الفنان الشعبي ربما يكون أكثر حرية من أقرانه المبدعين من أبناء الطبقة المتوسطة، فهو من ناحية ذو تعليم خفيف أي لم تمر علي جسده عجلات قطار التنميط والتأطير، ومن ناحية أخري ليس شديد الانتماء، بحكم طبقته، للمنظومة الأخلاقية السائدة. إن ما لديه هو عدة أمور بسيطة حقا، رغبة أكيدة في التعبير عن نفسه تحركها قدرته الذاتية الخاصة علي التأمل في أمور الحياة من حوله، وجسده في مواجهة الزمن. هذا الخليط اللطيف هو ما يجعله مختلفا وخاصا. وهذا ما يجعله يحتفي دائما باللحظة، ولا يريدها أن تمر فهو يعرف تقلبات الزمن عز المعرفة ويندهش تماما من تحولات الناس. وفي سبيل تكريس لحظة المتعة عليه أحيانا أن يتحايل علي المنظومة السائدة وهذا ما سيعيدنا إلي "سيجارة بني" التي كنت قد بدأت منها كلامي. فلأول وهلة عند سماعك "سيجارة بني" قد تظن نفسك بصدد أغنية لرجل صالح حيث يبدأ الكلام هكذا "صحاب السوء ضحكوا عليا وغرقوني" وينهيه هكذا: "مش هشرب بني تاني" وكأنه يريد أن يعتذر عما فعل. لكن خذ بالك فالمتن الأساسي للأغنية هو وصف خبرة تعاطي سيجارة من الحشيش حيث أفاض واستفاض في وصف تلك الخبرة بإعجاب واضح حتي أنه عندما أنهي السيجارة الأولي وانبسط مزاجه فإذا به يتمادي ويشرب السيجارة الثانية واصفا بدقة تامة دخوله المرتبة الأعلي من السلطنة. وطبعا مرحلة وصف خبرة التدخين كانت الأكثر تدفقا من حيث سخونة اللحن وتألقه. فهل حقا كان يريد أن يعتذر؟ كذلك كان السياق الخارجي في أغنية "العبد والشيطان"، المدخل والنهاية، كأنه سياق توبة عما ارتكبه من معاصٍ، وفي الحقيقة إن وصف تلك المعاصي كان هو المتن الأساسي للأغنية ومكمن جاذبيتها. نفس الحيلة تكررت في أغنية هوبا "حجرين علي الشيشة". بسبب حيل كتلك وغيرها، يستطيع الغناء الشعبي أن يكون أكثر حرية و ان يبقي دائما قادرا علي الدخول إلي مناطق محظورة وسيستطيع كسر الكثير من القيود ضاما لسرديته ما قد لا يتمكن غناء أصحاب الذوق الأنيق من ضمه، وبقليل من الجدية والبعد عن الأغنية الإفيه قد يستطيع الغناء الشعبي بما له من ميزات أن ينال جواز المرور عبر ثقافات الطبقات المختلفة. ولن يستطيع سد احتياج الطبقات الشعبية فقط _ بل سيتجاوزها ليصل للجميع.