أتخيله يقف بين الحضور. يتقدّم باتّجاه المسرح، يصعد الدرجات القليلة، ويتقدم نحو المنصة.. يضحك:" ألم أقل لكم أنني سأنتصر في النهاية؟!". قالها نصر أبوزيد تقريبا من قبل، في عام 2008 عندما جاء إلي القاهرة لإلقاء محاضرته عن "الفن وخطاب التحريم":"أفكاري ومفردات خطابي العلمي ومعانيها تسرّبت إلي خصومي".. بالفعل تسرّبت هذه الأفكار إلي معارضي نصر الذين أقاموا عليه الدنيا، واضطروه إلي أن يدخل الجامعة تحت الحراسة! قد يلتفت إلي جابر عصفور.. يؤيد ما اختتم به كلامه في ندوة التأبين:" كم ذا بمصر من المضحكات"." حكي عصفور عن مصادرة كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" وتجريده من "شهادة العالمية"، كانت الحكومة وقتها فاسدة، والملك فؤاد ديكتاتوراً..وبعد شهور عندما جاءت حكومة أخري..وأصدر طه حسين كتابه الشهير "الشعر الجاهلي" لم يحدث شيء، وحفظ محمد نور وكيل النيابة الشهير التحقيق علي اعتبار أن "عميد الأدب العربي" مجتهد وينبغي أن يُثاب علي اجتهاده وإن كان خطأ! ولكن أليس انتصارا أيضا إقامة الندوة في المسرح الصغير بالأوبرا... منذ عامين رفضت وزارة الثقافة ( المسرح الصغير، مكتبة القاهرة، وأيضا نقابة الصحفيين طلب مؤسسة المورد الثقافي لإقامة ندوة نصر التي استضافتها الجامعة الأمريكية فيما بعد.. كانت الحجة أنها " تستطيع توفير الحماية الكافية له"... اليوم يُكرم نصر أبوزيد في الأوبرا، في المسرح الصغير.. الذي مُنع عنه! ما الفارق؟ هل انتصرت أفكار نصر أبوزيد؟ كم ظُلم صاحب "التفكير في زمن التكفير" حيّاً. تم اختصاره في "قضية". لم يسع إليها..أما الأفكار التي أدّت إلي القضية فلم يقترب منها أحد، يناقشها، يتفق معها أو حتي يختلف. كان أبوزيد يكره بشدة اختصاره في "القضية"، لا يعتبر نفسه رمزا، لحرية الفكر، بل هو مجرد باحث يسعي إلي "تقديم" رؤي جديدة في قضايا قديمة. كان يقول دائما: لست صاحب مدرسة أو "مشروع"..إنما مجرد باحث.. ولكن نصر بالفعل " فتّاح سكك"، وممهد طرق من الأفكار يسير فيها الآخرون. ربما لهذا كانت الندوة التي نظمتها مجموعة من أصدقائه وزوجته الدكتورة ابتهال يونس مساء السبت الماضي بدار الأوبرا المصرية مجرد "محاولة أولي" للاقتراب من أبوزيد..الذي يمكن أن تكون حياته وكفاحه، علاقته المتميّزة بزملائه أمرا مثيرا للتناول والاقتراب ولكن ربما أيضا يظلم ذلك أفكاره..التي تراها فئة من المجتمع "صادمة" رغم أنهم لم يقتربوا منها أو يقرأوها! ولهذا لقي اقتراح الدكتور عماد أبوغازي بإقامة المجلس الأعلي للثقافة ندوة موسعة في الذكري السنوية الأولي لرحيل نصر قبولاً وترحيباً..وكذا ستفعل الجمعية الفلسفية في مؤتمرها السنوي بديسمبر القادم، فضلا عن ندوات في بيروت ( 12 أكتوبر القادم)، وإسبانيا ( نوفمبر).. وهولندا وألمانيا.. وغيرها. ندوات الخارج تُناقش الأفكار، تبحث فيها، ترفضها أو تؤيّدها. ليس مهما.. ونتمني أن تكون ندوات الداخل أيضا كذلك.. وهكذا يمكن أن تبقي "السيرة" أطول من "العمر" كما يقول الدكتور أحمد مرسي الذي أدار الندوة وقدّم الاحتفالية. معتبرا أننا لا نؤبن نصر فسيرة المفكرين أطول من أعمارهم الحقيقية. ربما هذا ما لفتت إليه الانتباه أيضا الدكتورة ابتهال يونس إذ أكدت في بداية الاحتفالية:"المفكرون لا يموتون، ليس فقط بكتبهم ولكن أيضا بحرصهم علي التواجد والحضور علي الساحة الفكرية، والموت الحقيقي لنصر هو الموت علي الساحة الفكرية لذلك أطلب منكم أن نعمل علي أفكاره ومنهجه العلمي من خلال اللقاءات والمؤتمرات والندوات، رغم أنه لم يكن يحب كلمة مشروع أو مدرسة، وهذا يقع علي الباحثين الشبان، كما يجب علينا أن نظل مهتمّين بنصر الإنسان، بتواضعه وسماحته، بانفتاحه العقلي والقلبي والروحي وبعناده في الدفاع عن الحق".
احتفالية نصر كشفت مقدار الحب الذي حظي به الراحل في حياته، الناشر حسن ياغي انخرط في بكاء شديد أثناء إلقاء كلمته التي لم يستكملها، ولكنه أشار إلي أن عشرات من المثقفين العرب أرسلوا إليه طالبين المشاركة في الاحتفالية. الدكتور حسن حنفي وصف أبوزيد بأنه "مفكر" قضي حياته محاولا تغيير الواقع إلي الأفضل وعدم الاستسلام له وعدم تبريره. تغلبه أحيانا نغمة التشاؤم. قضي آخر لحظة في عمره يؤسس معهداً دولياً للدراسات القرآنية". وأشار "فريدرم هاوس" إلي أول لقاء جمعه بنصر في القاهرة عام 1991 عندما قرأ حوارا له في الأهرام كان بعنوان "تذكروا هذا الاسم جيدا: نصر أبوزيد مفكر مصري جديد". الدكتورة آمنة نصير الأستاذة بجامعة الأزهر تحدثت عن زيارتها إلي جامعة لايدن أستاذا زائرا لفترة محدودة وشعورها بغربة شديدة حتي جاء نصر أبوزيد من رحلة له إلي فرنسا واتصل بها، وقتها شعرت أن مصر كلها في استقبالها. وأضافت: في لقائي الأول به ب"لايدن" طلب مني ألا أغضب إذا وجدت معاملة فاترة من القسم. فيما بعد أخبرها رئيس القسم أنهم عندما قرأوا ال(C V) الخاص بها وجدوها محجبة وكل كتاباتها إسلامية فخشوا أن تكون إرهابية..لكن نصر دافع عنها دفاعا شديدا؟ وأضافت: أكبر محنة نمرّ بها الآن عدم قبول الاختلاف وانعدام تلك الثقافة، مع أن الاختلاف إرادة بشرية وليس رغبة بشرية، فالله خلقنا مختلفين ولم يرد أن نكون أمة واحدة، لكننا صرنا أوصياء علي بعض، وللأسف دخلنا خلال الأعوام العشرين الأخيرة في التدين الخارجي، وهي معركة تحتاج لصبر. تلميذه المصري أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة لايدن الدكتور عمرو رياض تحدث عن لقاءاتهم معه -هو وزملاؤه- في هولندا قائلا: لم يحمل ضغينة لأحد حتي خصومه، كنا نطلق عليه شيخ القبيلة المصرية في لايدن، فقد اعتاد دعوتنا -نحن الدارسين الأزهريين- للإفطار معه في شهر رمضان، وكانت الدكتورة ابتهال تعد لنا الطعام بنفسها، حتي أنه اعتذر عن لقاء السفير يوما حينما تعارض لقاؤه مع لقائنا، وأذكر أنه داوم علي وضع برنامج الأذان علي جهاز الكمبيوتر، وكان يقول: الأذان اللي في جامع بلدنا قحافة بيوحشني كتير". الكاتب الكويتي طالب المولي قدّم اعتذاراً لروح نصر علي منعه من دخول الكويت العام الماضي، واعتبر أن هذا عمل يستحق الإدانة. ومن جانبه عدد الدكتور عماد أبو غازي معاني اجتماع هذا العدد الهائل من المفكّرين من أجل نصر أبوزيد، معني حرية الفكر والاعتقاد كقيمة ترتقي بها الأمم وبغيابها تتراجع، معني حرية البحث العلمي والحريات الأكاديمية التي عاني منها أبو زيد، معني الاجتهاد واحتياجنا له في حياتنا وانتماء نصر أبو زيد لمدارس الاجتهاد والتجديد في التراث، معني الباحث الذي يحترم أساتذته ويبني علي اجتهاداتهم ويضيف إليها ويأخذ بيد تلاميذه ويحترم زملاءه فكان مجتهدا في البحث عن الحقيقة، وأخيرا معني مقارنة تزييف العقل العربي وهي مسئولية كل عربي مثقف قادر علي فعل أي شيء.
وأكد الدكتور برهان غليون: نحن لا ندافع اليوم فقط عن حق نصر في حرية التفكير بل وعن حق جميع المثقفين والمواطنين أن يكونوا أحراراً، أن يفكروا بما تمليه عليهم ضمائرهم . وأضاف غليون أن المنطقة العربية تعيش فترة تحول سريع وهناك اختلاف علي جميع المستويات، و إذا لم نقبل بالاختلاف فسنصطدم باستمرار. نحن مجتعات تعيش حالة تحول سريع واختلاف حتي في شكل تصورنا لمستقبلنا وأوضاعنا السياسية والاقتصادية، وكمفكرين علينا أن نفكر وأن نخطئ، ولكن لا أن نكفر أو نتهم بالإلحاد لأننا لا نملك الحجة العلمية في الدفاع، فالعقل لا يعني العداء للدين، فإذا لم نتفق ونقبل بالاختلاف سيزداد العنف، فليس لأحد منا أن يدعي أنه وصل للطريق الحق أو لديه التصور الصحيح. وأكد الناقد ابراهيم فتحي أن منهج نصر التاريخي العقلي منهج خصب في التأويل لا يحيد عن مبادئ الإسلام بينما يوظفها توظيفا جيدا. وقال الدكتور علي حرب: "لا أبالغ إذا قلت أن د. أبو زيد كان مؤمنا أكثر من حماة الإيمان الذين أصفهم ب"بتنانين العقائد" الذين يميلون للتكفير لضيق عقولهم كما يحدث في الحروب الأهلية التي تودي بمجتمعاتنا، فقضية التكفير اليوم تبدوا هامشية مضحكة. ولا أخشي القول بأن الحداثيين العرب لايمارسون بحق علاقاتهم بشعارات الحداثة بوصفها مهمة دائمة، مما أدي إلي استهلاكها حتي أصبحت أكثر سذاجة، فالحداثة ليست مطلقة وإنما هي شبكة متواصلة".. أما الدكتور جابر عصفور فأشار إلي واقعة أخري تمس حرية الرأي والتعبير ، عندما أصدر الشيخ عبد الصبور شاهين (المتهم الرئيسي في قضية أبي زيد) كتابه "أبي آدم" وواجه نفس التهم التي شهرها في وجه نصر حامد أبوزيد، ولكن _ياللعجب- لم يحدث شيء للشيخ عبد الصبور.. داعيا في ختام كلمته للتأمّل في قول الشاعر المتنبي "وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء". من جانبه أكد الكاتب والمفكر الفلسطيني فيصل دراج أنّ أبو زيد لم يأخذ بعادات الفكر الاتّباعي وإنما أراد أن يكون المختلف النقدي الذي يطرح جديدا، فأثري الحقل التراثي مثل التصوّف والتأويل ونقد الخطاب الديني الذي يسوغ في زمن الانحطاط. لقد أقام أبوزيد بحثه علي مبدأ التعدد الذي لا يرتاح إلي اليقين مؤكدا أن المعرفة حوار وأن العقل الإنساني متعدد وأن الركون إلي الأحادية اقتراب من الموت، فاختلف ككل مفكر حقيقي مع حراس الركود الذين يساوون بين الجمود والمقدّس واختلف مع تقليد مدرسي قديم يصالح بين الحقيقة والمنفعة السلطوية. وقد اقترحت اللجنة المنظمة للاحتفالية تبنّي ما جاء في كلمة دراج باعتباره بياناً للمشاركين في الاحتفالية.