لم تكن انتقالات المبدعين بين الأنواع المختلفة موفقة دائمًا، لكنّ أحدًا لا يستطيع أن يحرم غيره من التجريب؛ فالتجريب هو روح الفن وليس اتجاهًا أو نوعًا فنيًا كما يحاول البعض أن يصور الأمر. في فنون الكتابة تبدو هجرة الشعراء إلي السرد سيرة ورواية ظاهرة إبداعية منذ سنوات، وليس في هذا النزوع سيرًا وراء مقولة زمن الرواية، بقدر ما هي ضرورة لإبلاغ ما لا تستطيع القصيدة إبلاغه. هل هو إحساس بتهديد غامض يحاول المبدعون رده عبر فن بوسعه أن يشرح ويفضفض ويؤصل؟ في ذاكرتي، من دون أي جهد للبحث قائمة من الشعراء: محمد عفيفي مطر (أوائل زيارات الدهشة) مريد البرغوثي (رأيت رام الله) ميسون صقر (ريحانة) عباس بيضون (تحليل دم) وأخيرًا أمجد ناصر (حيث لا تسقط الأمطار) وليس في ارتكاب أمجد للرواية أية مفاجأة؛ فالنزوع السردي متأصل لديه منذ "مديح لمقهي آخر 1979) مرورًا بدواوينه التالية التي تقوم علي شعرية تفاصيل من لحم ودم، وكتابين في الرحلة، حتي كان عمله الشعري (حياة كسرد متقطع 2004) الذي أثار ارتباكًا نقديًا يوم صدوره؛ إذ وضع الشاعر قدمًا في أرض السرد القصصي بملامح بشر وتجارب وأماكن، بينما بقيت القدم الأخري ثابتة في أرض الشعر بتوتره وكثافته (العلامة الفارقة للشعر) وفي كل الأحوال بالمفارقة العالية، وهذه السمة الأخيرة مع المصادفات الفانتازية أبرز ما يطبع زيارته الأولي لأرض الرواية "حيث لا تسقط الأمطار". يلبي البطل المنفي الذي صار مهاجرًا وزوجته دعوة من أصدقاء لقضاء يوم في مدينة لم يطآها من قبل، وتلتقط الزوجة ورقة من الشاعر تكتشف أنها مكتوبة بخط الزوج وبها ذكريات عن حبيبته الأولي، من الذي أتي بالرسالة إلي هذه المدينة الغريبة بعد عشرين عامًا من فراره من "الحامية" ومن الذي أتي في مصادفة أخري بساعة قديمة تعبأ باليد ليجدها علي بسطة بائع أشياء قديمة بالمهجر بينما كان هو نفسه قد فقدها منذ سنوات طويلة علي طاولة تحلق حولها أدباء وفضوليون في مؤتمر أقيم ببلد مجاور لبلده الذي طرده! ليست هناك حدوتة يمكن تلخيصها للقاريء في هذه الرواية، وليس من زمن يتصاعد. الحدوتة كلها في القلب، والزمن يبدأ من النهاية: " ها أنت تعود، أيها الرجل الهارب من عواقب اسمه أو ما فعلته يداه. مضي وقت طويل علي خروجك الذي لم يشكل حدثاً إلاّ لقلة تهتم بأمرك وهذه القلّة، كالعادة، تتناقص باستمرار" ولكنه يعود إلي البداية ثم يدور ويلتف ويتشابك مثل متاهة بورخيسية، لكنه الالتفاف والدوران الذي لا تختلف محصلته عن الصفر، لا شيء سوي الحنين الأسيان الساعة التي اشتراها متوقفة علي ما بعد الخامسة بقليل، وكان قد نسيها في ذلك الزمان البعيد حول الخامسة أيضًا! الحياة تمضي بالرغم من يونس الخطاط يشبه يونس خطاط آخر بالمهنة ذاتها ويتخفي في اسم أدهم جابر، حيث عذاب اللايقين حتي علي مستوي معرفة الشخص بذاته في حياة كسرد ملتف ومتشابك، لا سيطرة للبطل علي حاضرها أو ماضيها، حتي في التقنية السرية التي استخدم فيها الكاتب علي مدار الرواية ضمير المخاطب، وكأنه يملي علي البطل مصيرًا لم يشارك في صنعه، أو ذكريات لم يعشها. الأماكن هي الأخري تحضر بصفاتها، فنجد المدينة الرمادية والحمراء، الحامية، وجزيرة الشمس؛ فنكاد نشير إلي عمان وبيروت وقبرص ولندن، ونكاد لا نفعل، لأن الراوي ينظر إلي الأماكن والأحداث من وراء حجاب يشبه غلالة الدانتيلا، التي رفعت ديوان أمجد ناصر "سر من رآك" إلي ذروة من ذري الغزل العربي ، حيث متعة الإيماءة والكشف والإخفاء، بينما من خلال الرحلة العبثية للكهل الذي ترك الحامية شابًا يحلم بتقدم العالم وعاد علي تأخر الحامية، نستطيع أن نتذكر ذلك النفس الملحمي التراجيدي لخيبة آخر ملوك الأندلس في "مرتقي الأنفاس". وكأن الرواية تأطير حكائي لرحلة شاعر، لم يكن يومًا بعيدًا عن أرض السرد.