انتظر لحظة الإقلاع دائما، أترقبها، أترصدها، أستنفر حواسي كافة، السمع مرهف إلي هدير المحركات، تغيرها، كل ما يطرأ عليه من تدرج، تصاعد، ثم انطلاق، ثم ما يجري بعد الاقلاع. النظر مصوب إلي الخارج، إلي الأرض بالتحديد عبر النافذة المستديرة. أعد علي أصابعي، أترقب الرقم الذي سيبدأ عنده، أتمني أن يكون رقم سبعة، اتفاءل به، الارض تتراجع إلي الوراء كأنها تجري ونحن في الحقيقة الذين نمضي، ها آنذا في الطائرة المصرية المتجهة إلي فيينا، تري، كم مرة أقلعت من قبل؟، يمكنني أن أحصيها لو عكفت علي جوازات سفري التي احتفظ بها كافة منذ سفري لاول مرة إلي خارج الحدود عام ثلاثة وسبعين قاصدا دمشق، أول طائرة مصرية تقلع بعد وقف اطلاق النار، سبعة جوازات سفر، ستة بطل مفعولها، تحمل اختام السفر والوصول. الدخول والخروج، مجرد خطوط لاتعني شيئا لمن يتأملها الآن، لكن في ثنايا كل منها أشواق وخطرات وفيوضات، فيها ما فيها كما يقول مولانا جلال الدين الرومي في واحد من أعذب وأجمل دواوين الشعر الانساني كافة، منها يمكن الاستدلال علي مرات اقلاعي، لكن سيظل الأمر ناقصا، ماذا عن مرات اقلاعي في الطائرات العسكرية زمن الحرب، وزمن الاعداد لخوضها؟، مرات عديدة في طرز مختلفة، اليوشن 41، الانتينوف، هرقل سي 031، ثم الاقلاع العمودي، طائرات الهيلوكبتر سوفيتية الصنع، سي 8، سي 21، والطائرات الامريكية من طراز سيكورسكي، في عام سبعين حضرت مناورة عسكرية، كان ذلك صيفا، يمكنني اعتبارها تجربة للعبور الكبير الذي قدر لي أن أشهد معاركه اعتبارا من اليوم التالي - الأحد -، خلال المناورة وفي يوم واحد اقلعت بي طائرات الهيلوكبتر أكثر من ثمان مرات، اذن.. لا يمكنني الاعتماد علي الذاكرة، لايمكنني احصاء المرات التي انفصلت فيها عن الارض، عن اليابسة التي أشعر بالاطمئنان كلما مشيت فوقها، أو كنت قريبا منها، حتي أنني اثناء الطيران أكون اكثر اطمئنانا طالما أنني فوق اليابسة، حتي اذا بدأ فوق البحر أو المحيط أصير أقل اطمئنانا مع أن الوضع واحد، لا أدري أين قرأت مثلا صينيا يقول: اذا نمت نم قريبا من الارض، أتذكره دائما في الطوابق العليا التي أضطر إلي النوم فيها خلال اسفاري، أو في البيت الذي أقيم فيه (الخامس). تستدير الطائرة لتواجه الممر، احيانا يمكنني رؤية امتداده، يتوالي هدير المحرك، يبدأ الإسراع، دائما البداية من مطار القاهرة، اصبحت احفظ تفاصيله، كذلك المسارات التي تتخدها الطائرة عند الاقلاع، كذلك عند الهبوط. واحد، اثنان، ثلاثة، اربعة، خمسة. ستة... دائما أترصد تلك اللحظة، عندما ترتفع المقدمة وتفارق العجلات الارض، أرقب ابتعادها، الصعود القوي، الهادر، يقال إنها اخطر اللحظات في الطيران، الاقلاع والهبوط، اذكر المرات التي اقلعت فيها. عبر الذاكرة تتشابه المرات.. عدا القليل منها، دائما أستعيد اقلاعي عام ستة وتسعين، كنت متجها إلي الولاياتالمتحدة في رحلة علاج، كنت مقبلا علي عملية جراحية دقيقة في القلب، كانت وقتئذ من العمليات المصنفة بأنها خطيرة، وكنت قد مررت بأحوال انتهت بي إلي التكيف مع الوضع، وقبول أقصي النتيجة، عندما جلست إلي جوار زوجتي في الطائرة الجامبو، مازلت اذكر أسمها »حتشبسوت«، لسنوات ظللت كلما لمحتها في المطار ينشأ عندي أمر ما، غامض يستعصي علي التفسير، عندما فارقت عجلاتها الارض، أومأت مودعا، مقتنعا أنها المرة الأخيرة، وأنني ربما لن أرجع مرة أخري لأخطو فوقها، انما عودتي ستكون بدءا لتناثر ذراتي في حناياها، في رحلة العودة كنت كالطفل المولود من جديد، لكنها ولادة مغايرة بمعارف مكتملة، وتراث مساند. لايشبه اقلاع الآخر، احيانا لا اشعر بالفرق بين الاندفاع فوق الارض وارتقاء الفراغ، يتوقف الامر علي مهارة الطيار، والحق ان شهرة الطيارين المصريين في الاقلاع والهبوط معروفة، النعومة والسلاسة، عندما تندفع الطائرة لتحقق الاقلاع تكون سرعتها فوق المائتي كيلومتر في الساعة، وهذا قليل، ظننته أكثر، لكن المحركات تعمل باقصي طاقتها، الاقلاع والهبوط يتمان عبر قيادة الربان ومساعده، في الأعالي يقوم الطيار الآلي بضبط الرحلة. هأنذا في الفراغ، سحب خفيفة، نهار صحو، تستدير الطائرة متجهة إلي الغرب، أعرف المسار، عندي توثب وفضول.. انني اقصد بلدا انزله لاول مرة، سلوفاكيا، اقطع الطريق للمرة الثانية، محطة الوصول فيينا، سينتظرني أصدقاء سلوفاك، انتقل إلي براتسلافا العاصمة بالسيارة، مسافة حوالي ستين كيلو مترا، إن الوجهة التي يقصدها الانسان عند الرحيل تحدد مزاجه وحالته النفسية، كذلك وضعه في الجلوس، في السنوات الاخيرة أضيف عامل آخر، الارهاق أو الراحة، أي الحالة الصحية. في كل الأحوال يعد الاقلاع فاصلاً بين حدين، بين وضعين، انه عين الانتقال وجوهره، فلأنتبه، النهار جميل، واللون الازرق الذي يحيرني وضوءه صاف، موح، رقراق رغم الغمامات السابحة.