دولابكِ الزجاجي مازال يتصدر الصالة.. يحتضن أطقمك المذهبة.. أكوابكِ الكريستال.. لعبي الخزفية، والمطاطية برائحة غربة أبي البعيدة، وإقامته القليلة قبل ترحاله الأخير.. وصورتي معكِ القادمة من أغوار طفولتي الغضة وشبابكِ الذي كان عفيا صلبا، يطل منها خارقا حجب السنين.. هل تعلمين الآن أن طفل هذه الصورة قد جاوز عامه الأربعين، ولم يشعر بها إلا الآن؟؟!! تطل علب المواليد التذكارية، وما تبقي من صور من رحلوا.. يتسرب من الدولاب الآن بقوة عبق بخوركِ الجاوي.. يمتطي صهوة أجواء البيت المشبع برائحتكِ، بأنفاسكِ، بتحومات روحكِ القوية في أركانه التي أراها الآن تطل بعينيك الصاحيتين، علي عيون جهيرة، ووجوه متشابهة كالحة، لا يعييها حس ولا شعور.. تحاول إزاحة ستائرك الموشاة المفرودة علي الحوائط، اختراق الأبواب.. تفضح ما في قلوبهن، وما لا تستحيين منه، وما توميء إليه نظراتهن، وما تنبس به شفاههن الغليظة، وما تلفظه ألسنتهن من حمم، فلكل منهن معكِ قصة وحكاية تستبيح بها الآن قدسا من أقداس الصمت الذي كان يوما. هن من غدرن بشفقتك وروحك الحنون التي كانت تعلم ما يدور في الخفايا، وما تجحده تلك العيون، لكنك كنتِ تؤثرين الخير، وما لم أعيه من كلماتكِ البليغة التي كانت تلح علي وعيي: " من لا يبكي عليَّ وأنا حية .. يدبر دموعه وقت الممات " وأنتِ الآن .........؟ ينغرز الأمس في قاع شعوري بشفرته البليدة.. المتمادية في تعذيب روحي، أتوحد فيه بما تبقي من جدار قديم في مواجهة منفاكِ ينشع بقسوة صقيع جاف، قارس، في صباح ربيع ظالم اقتلع بخماسينه صحوي، وأقضَّ مضجعي.. أقتعده، وظهري الذي كان مسنودا بكِ قد صار في مهب الريح والعواء.. يفصلني عن جسدكِ المستسلم في حيرته وسرمدية ألمه، بحر الطريق، الأسوار العالية، الأبواب الصدئة المغلقة، الأبيض الناشع بالصفرة المقيتة، علي الحوائط والأسرة، خلف سواتر بيضاء كالحة، الرائحة المقيتة للأدوية وخراطيم المحاليل وأكياس الدم المدلاة .. تنتهبني اقتلاعات النفس المشحونة بالشجن، وأوهام الحيرة، وهواجس الألم، وأشباح الفقد المارقة من حول مقعدي.... أهرب منه إلي أمس سحيق لكنه منطبع في الذاكرة بقاع طفولتي المبتسرة كظل وحيد لشجرة بفرعين أحدهما مبحر في غربته، سادر في معانقة أهوال البحر، وأنتِ الأخري المبحرة في هموم مَنْ حولِكِ.. تحملين علي كتفيكِ همومهم وهمومهن، وفي قلبكِ الحنون هم رعايتي ووجودي، كثمرة وحيدة نبتت في أرض قاربت علي الإعجاف!! ترنو عيونهن الجاحدة المتسعة علي أحداقها.. تتسحب.. تتسلق بروزات باب الشقة من الداخل، ال "ما شاء الله"، "العين الزرقاء" اللامعة، المدلاة منها الكفوف الصغيرة المفرودة، ومسبحة جدي ال "يُسر" التي انتزعتِها من أيديهم لتستقر في قلبكِ، و"نجمة البحر" المثبتة بأعلي إطار الباب، الذي أغلق علي انتظارهن الملول لاندفاعه، والتيقن من ذهابكِ الأخير بلا عودة. منذ رأيتُ النور، لم ينقطع الحبل السري الذي كان يربطني بكِ .. التحمت أنفاسي بأنفاسكِ وحيدين في ليل يطول بلا راعينا.. لكنه كان هنا وهناك يقاوم الأمواج والأعاصير ليأتي إلينا كوجه عزيز، وعاطفة جياشة بالحنين، ونفس طاغ يشيع طغيان روحه القوية في نفسينا، وفي جغرافيا المكان الذي كان يتعطر بعطره من قبل قدومه، كبشير لاقتراب العود الحميد الخاطف، محملا برائحة البلاد البعيدة وخير شقائه الوفير، ثم يغادر كإعصار مفارق، يُهدِر بقايا فورته في سفر جديد وفراق جديد متواصل؛ لنعود.. نتحد سويا بأنفاسنا، وجسدي الصغير الملتحم بجسدك الوفير الذي يستعيدني ثانياً في رحمه في كل ليل طويل، وبرد شديد، ومتاهات عديدة تتجاذبني بين الأحلام والكوابيس.. تشدني.. تزرع في القلب الغض، الخوف الباكر والرهبة من الليل، وندوب قد تحدثها الأيام في وجهي، وفي نفسي حين يؤلمها الالتصاق الشديد بكِ.. أنتِ الفرع اللين، الشديد في حكمه برغم فيضان حسه، بقدر ما يؤلمني الابتعاد عن أبي، واهب ملامحي، الجذر الصلب المغادر دوما بلا قرار، وأنا الشارد في شغبي الطفولي المقموع علي أعتاب الوعد والوعيد... تطل عليهن عيناكِ المبتهلتان، ومسبحتكِ المدلاة من علٍ، وهمهمات تسبيحك، ونظرتك المضيئة التي لم يطفئها ذهاب نور إحدي عينيكِ، وبياضها الذي زادها إشعاعا؛ وما يزال شالكِ المعطر بأريج تسبيحكِ ينتظركِ معلقا علي مشجب يلوح من طرف ضيق من باب حجرتكِ الفارغة من جسدكِ، الموارب؛ فتجحظ العيون بيضاء بلا ملامح ولا ألوان.. تتقلب علي أسطح وجوهها البليدة.. تعود لتعيث في فراغ الصالة.. تصطدم بالنجفة المعلقة في وسطها، باهتة الضوء، مقهورة إشعاعاتها، وتميل علي الإطار الكبير الذي يحوي صورتكِ البهية مع أبي، صاحب ملامحي الأكبر، مطفأة الأركان... تفاجئني نهايات عقدي الثاني.. تزلزلني.. تقمع أحلامي.. تفرض علينا التوحد قسرا، أنا وأنتِ سويا مع سبق الإصرار والترصد.. تقر حقيقة جديدة لا مفر منها.. تثبت خيمة الفراق أوتادها علي أرضنا العنيدة.. نصير صنوين في إحساس الفقد المرير؛ فرجل الارتحالات الطويلة والإطلالات المشعة، قد فارق مرفأه بلا عودة، مخلفا مجدافيه مكسورين علي أرض أحلامي ووجودك؛ ليغزو الحزن ملامحك الريانة، ولأشعر بوحدة لم أشعر بها من قبل برغم حنان احتوائك ولنتصادم كأنما نتعارف للتو.. شيء ما في خريطة شعوري اختلف، تبدل اغترابا ناقعا لم تعهده نفسي، لكن حنانك وحرصك كانا طوق نجاة جديد انتشلني عبر قنطرة من قناطر العمر نحو كيان جديد، وإطار جديد يتوحد فيه فرعا الشجرة الكبيرة في فرع واحد هو أنتِ؛ لينبسط ظلكِ الوارف منفردا علي امتداد أيامي، وتنفرد فيه صورتك الجديدة، مع طفل اعتقلت طفولته، وتمكن الشباب والرجولة منه، علي أعتاب عقد جديد من عقود العمر، في ظلكِ، معلقة علي جدار الأيام والذاكرة... تزداد حدة النظرات وجحوظ العيون في محاجرها.. يقتلها الانتظار البغيض.. تتخبط.. تعاود الألسنة بعدما هدأت قليلا لوك ما تبقي من فتات جسدكِ الذي يتهيأ للمراسيم النهائية للغياب.. ثم تعود للهدوء المباغت.. تركض المشاعر المقموعة علي الوجوه.. تعود للتخفي تحت غلالات الانحناء والتدبر المقيت، فرك الأصابع، تكتيف الأذرع وضمها إلي الصدور والبطون، تعصيب الأدمغة بالأكف، ومراوحة النظرات عبر زجاج الدولاب، وخلف الستائر التي تحجب ممرات البيت الذي كان مرتعا لعيونهن وأرجلهن وأفواههن الناهضة بالتفحص ومحاولات استجلاب الخبيء، ونحو باب البيت الذي مازال موصدا ينتظر الوجوه القادمة والأنباء، و........ يتعرش ظلكِ.. يمتد.. يتعملق.. يحتويني.. يضمني.. يشيع فيَّ الرغبة في الامتداد والتبرعم واجتلاب المزيد من الثمار اليانعة المؤنسة؛ فتتبرعم زهوري الجديدة بين أنامل حنانك، ومتكأ وجودك، السند والظهر المنتصب؛ فبالرغم من التطواف والترحال وركوب أهوال تحصيل الرزق، كنتِ هذا السند الوحيد والظل الظليل الذي كانت ترتاح إليه جوانحي وآلام جسدي وعطب أيامي، والحِجر الذي يرتاح إليه رأسي المفعم بما يؤرقه، وتنام عليه فلذات كبدي وأغلي أشياء وجودكِ.. لكن الشبح الهلامي يبسط وجوده علي خارطة أيامكِ.. تمر مضنية.. عصيبة.. يتألم فيها الحبل السري الممدود بين ذاتي وذاتك.. يتزلزل الكيان.. يتخلي جسدكِ عن بنيانه الفاره.. وتأتي الإنذارات الملحة، لكن القلب يتعلق بالأوتار المرتخية، ويستبعد الخطر المحيق، وينحي الوصية المضنية، الملحة، جانبا: "يسترك الله ويحفظك.. لا تطلع أحداً علي عورتي" يهتز فضاء البيت بعويل صارخ يأتي من خارجه.. يمزق ارتعاشات الكلام علي الشفاه المبللة بدم الكلمات الجارحة.. المتراصة بوجوهها الميتة الملامح.. يهتز معه زجاج الدولاب، وإطار الصورة، وتمتط الرقاب.. يقفز من المحاجر التي غاصت مآقيها في خليط العجب والدهشة، وتصنُع الألم الممض، ومصمصة الشفاه الفارغة، ومضغ الأضراس علي خوائها، وأحاسيس تتضارب.. تتعلق بأهداب الحيرة، ورغبات المغادرة، ومحاولات الأعين اختراق زجاج دولابكِ الذي تعملق وغام ما فيه في عيونهن، والأستار التي كانت تحجب بدنكِ المسجي بعيدا هناك، تاركا هنا روحكِ التي لم تغادر.