مثلها مثل الكثير من مراهقات سنها اللاتي أصبن بعشق فصل الشتاء حيث "برودته, رائحة مطره، صمته الغائر، ملابسه الأنيقة" كانت شغوفة به بكل ما يحمل معه في زيارته لها، حتى كآبته خصصت لها في قلبها ضريح. فمنذ نعومة أظافرها واشتياقها للشتاء يزداد عام بعد الآخر.... عفوا.... أعني منذ أن كانت صغيرة، فهي ما زالت ناعمة الأظافر، بريئة الملامح كأنها لم تكبر بعد !! وجهها الطفولي وعيناها التي طالما نظرت إليهما شعرت بنشوة تسري بداخلي عندما يتبادر إلى ذهني صورًا ومواقف من طفولتها تمسان قلبي فتحفزه على إفراز هرمونات السعادة التي سرعان ما تنتشر لأشعر بها وقد اخترقت كل مكان داخل جسدي. أراقبها حين تحمل السماء بالغيوم منذرة بميلاد جيل جديد من الأمطار, تنظر مبتسمة إلى السماء، ثم تخرج من غرفتها متسللة كي لا تشعر بها والدتها التي تسكن الغرفة المجاورة لها, تهطل الأمطار فوق رأسها وهي تجري ضاحكة، تزداد الأمطار ويعلو معها صوت ضحكاتها الذي يجمع حولها كل الأطفال في الشارع ليشاركونها اللعب مع الماء، وسرعان ما تتقاسم ضحكتها معهم فترى بسمة واحدة تعلو كل الوجوه. تستمر في اللعب إلى أن تشعر والدتها بعدم وجودها في المنزل، فتخرج مسرعة لتبحث عنها وكأنها لا تعرف المكان عندما يحل هذا الزمان!! تسير في شوارع القرية الضيقة التي كان من الصعب على الحكومة رصفها فقررت بقائها كما هي محملة بالأتربة التي سرعان ما تتحول إلى عجين بعد ابتلاعها ما تقذفه لها السماء. تأتي ابنتها لتراها ملطخة بالطين في شتى أنحاء جسدها فتحملها على الفور وقد قررت معاقبتها ولكن قرارها هذا يتلاشى فبمجرد وصولهم إلى المنزل تنزع عنها ملابسها وبنفسها تقوم على حمومها بالماء الدافئ وتنقلها حيث السرير المخصص لها, ثم تذهب لتأتي لها بمشروب دافئ الذي عادة ما يكون ليمون ساخن تقدمه لها عند إصابتها بإحدى نزلات البرد. تجلس والدتها إلى جوارها لتستغل فرصة تجمعهما في وضع كهذا لتبدأ في سرد قصص الماضي التي عادة ما تكون عن أبيها فهذا يشعرها أكثر بالاطمئنان الذي ينتقل منها لتراه في أعين صغيرتها، تحدثها عن والدها كيف كان شغوفًا مثلها بالشتاء والمطر، وكيف كان سيشاركها لعبها بالماء ليتقاسما كل ما في الشتاء سويا؛ ولكن أين أباها الآن !! فهو ليس كالشتاء يغيب ويعود ليطمئنها إنها ما زالت بداخله كما هو بداخلها لا يغيب عن تفكيرها لحظات. شتاء إثر شتاء، يأتي ليطل عليها كل عام دون أن يتغير فيه شيئًا، فالشتاء هو الشتاء، بل هي التي كانت تتغير عليه كل عام، يأتي ليراها وقد نضجت جسديًا وفكريًا إلا شيء واحد لا يمكن له أن يتغير فيهما "ذكرياتهما معًا". يذهب شتاء ويحل آخر ليراها عازمة على أن لا تضيع من زيارته لحظة دون أن يستمتعا كل منهما بالآخ؛ فحينما يحل أغسطس من العام، أراها وقد بدأت تتظاهر بمظاهر الشتاء فتفعل كل طقوسها التي لا تكون إلا معه, فتأتي دولابها الصغير, وتخرج منه جميع ملابسها الشتوية التي عادة ما تكون محتلة الجزء الأكبر من دولابها, وتشرع في لبسهما واحد تلو الآخر وهي تنظر لنفسها معجبة أمام المرآة, يريق لها هذا المظهر كثيرًا، فتقرر الخروج هكذا، أراها بملابسها الثقيله تسير وسط الناس المتأففين من حرارة الصيف الذي لم يمض بعد، فينظرون إليها بنظراتهم المستنكرة لما تفعله, يدورون حولها وبداخلهم ألف سؤال وسؤال !! يذهب الشتاء وتجلس منتظرة إلى أن يقرر طرق بابها مرة أخرى من جديد، الذي عندما تفتح له الباب، يلقي كل ما حمل لها معه ليغوصا معًا داخل قبلة ترحيبية طويلة، فيها ينتزع من شفتيها كل ما تبقى فيها من رطوبة ويتركها جافة كأرض بور لتبقى آثار قبلته لها طيلة فترة زيارته, كما إنها كانت ترفض معالجة هذه الآثار لأنها تحمل بين ثنايا شفاها الكثير والكثير من الذكريات!! تدور الأيام، ونقترب أكثر من نهاية العام ويشتد البرد ليصل أعلى درجات بردوته ليلة رأس العام الجديد، فتجلس ضامة ركبتيها إلى صدرها وتلف زراعيها حول جسدها فتشعر به وكأنه يحتضنها ليطمئنها بوجوده في الموعد المحدد ليحتفلا معًا بميلاد عامهم الجديد, وتظل في حضرته بضعة أشهر قبل أن يولي لها ظهره تاركًا إياها لباقي فصول السنة فتقبلهما على مضض، ويكون الصيف هو الفصل الأبغض بالنسبة لها فهي تراه قاس القلب والطباع، حيث شمسه الملتهبة التي تنبع منها حرارة شديدة, زحامه المروري، أرقه، ورائحة عرقه، كل ما فيه كانت تبغضه حتى قبلاته الترحيبية التي كانت تترك على وجهها البثور حيث تأخذ فترات طويلة لمعالجتها. ففي الصيف كان بداخلها شتاء تصنعه كي تسأنس به إلى أن يعود إليها، فقد كانت كل أحاديثها مع صديقاتها لا تخلو من جملة "أود أن لو أسافر إلى بلاد لا تعرف الشمس"!!. فهي ترى في الشتاء موطنها في أي بلد كان وفي أي ساعة كان يمضى الصيف ويليه الخريف لتأتي من بعدهما بوادر الشتاء فيتراقص قلبها فرحًا، وتذهب مسرعة لتمارس طقوساتها السنوية، ولكن زيارته هذا العام شعرت فيها ولأول مرة بقسوته عليها، زيارته هذه كانت متقطعة الأيام فلم يشعرها قط بوجوده, حتى استقباله لها كان شديد الجفاف, كان شتاء بارد جدًا لا لبرده القاصي ولا لكآبته المخيفة، ولكن لخلوه من كل هذا !! أين الشتاء! فهي لم تعتده بهذا المظهر الذي يرتدي فيه سترة الصيف رافعًا أكمامه، ومعريًا لجزء كبير ظاهر من صدره! أليس هذا هو الشتاء!! تتسائل؟ إذن أين سترته الصوفيه؟ أين رابطة عنقه وغطاء رأسه؟؟ اليس هذا هو الشتاء !! ولو كان هذا هو الشتاء فأي شيء يدل عليه؟ أهو شتاء منزوع الدسم؟ تجري بخطواتها السريعة إلى نتيجة الحائط وتقلب وريقاتها بين يديها ظانة أن تكون قد أخطأت في حساب موعد مجيئه هذا العام، ولكنها لم تكن مخطئة بل هو! نعم إنه الشتاء، ولكنه شتاء لم تعتده من قبل "شتاء حار جدًا".