سنوات مضت منذ زيارتها الأخيرة لمدينة أمها "المنصورة"، فقد أفقدتها خشونة الحياة رفاهة تبادل الزيارات العائلية، لكنها اليوم قررت زيارة أبناء خالتها، ربما كانت تدعي الشوق لهم وربما كانت تموج مشاعرها بالحنين لذكريات طفولتها، ابتسمت فور جلوسها بجوار نافذة القطار... إبتسمت للنافذة... ولمحت فيها إنعكاس لعينيها فاتسعت ابتسامتها وبدأت رحلة العودة لزمن البراءة... نفس المصانع تنسحب بعيداً وتزحف خضرة الريف لتملأ المشهد ويقسم نافذتها خط رفيع ما بين خضرة الأرض وزرقة السماء، نفس الأعمدة الخشبية تمر مسرعة... ولكن الخيوط المرتخية تقطعت وتدلت، وبقيت الأعمدة وحيدة لكنها ثابتة، ارتعش جسدها قليلاً خوفاً من أن تقف هكذا وحيدة، بلا خيوط... نظرت للمقعد المجاور لها بعفوية، تبحث عن أبيها، فقد اعتادت مجاورته في رحلة القطار... ترحمت عليه وعادت ببصرها لمشهدها وحاولت بث الأمل في تلك الأعمدة الوحيدة... افاقت مرة أخرى من تأملها حين طلب المحصل تذكرة القطار... - المنصورة المحطة القادمة... حمد لله على السلامة ( قالها المحصل وهو يشطب التذكرة بقلمه ) إبتسمت شاكرة، وعادت للنافذة وتنفست بعمق وهي تراقب تباطوء القطار ويخيفها صرير عجلاته الحديدية وهي تنزلق على القضبان، وحين توقف الصرير وارتد القطار بفعل قصوره الذاتي وقفت هي، تحركت نحو باب القطار ووقفت تطلع للمحطة... تتنفسها فتتسرب روح "المنصورة" إلى رئتيها، فتعيدها مرة أخرى لطفلة صغيرة يتزن وجهها بضفيرتيها، لم تتحرك إلا بصوت المحصل "القطار سيتحرك يا مدام" تحركت... وتذكرت مرة أخرى أنها "مدام" فلم تعد الطفلة ذات الضفائر... ولكنها تصر دوماً للعودة إليها، أحست بوزنها أخف وهي تتحرك تاركة "القاهرة" بكل ما بها خلفها، حتى أمها وأخويها وبناتها، تركت الجميع بالقطار لتنتهي ظلالهم عند بوابة المحطة وانسابت هي وحقيبة يدها الصغيرة، لم يضايقها الزحام على غير عادتها، كان يشعرها بالألفة مع المكان وينقلها بالزمان، نفس رائحة الزحام من سنوات عديدة... هكذا هي "المنصورة" كما تعرفها مزيج من الشقاء والرفاهية... الورد والأشواك. فندق رخيص يظهر لها فتتجاهله قبل أن تصل لجوار فندق "مارشال المحطة" يبتسم لها وتبتسم له، رغم أنها زارته مرة واحدة في حياتها إلا أنها لا تنسى أبداً هذا اليوم، كانت برفقة "فاطمة" وهي تنتظر "صلاح" وأصر هو على دعوتها وإبنة خالتها الصغيرة لبهو الفندق قائلاً " لا يصح أن نتكلم في الشارع"... تذكرت يد فاطمة وهي تمسك يدها، شعرت بالرعشة ذاتها حين تلاقت أعين فاطمة وصلاح... إبتسمت... كانت دوماً تشعر أن كل ما كتب "نزار" كان لفاطمه وكل ما قال "درويش" كان على لسان صلاح... تذكرت خجلها حين سألها صلاح "ها تاخدي إيه يا أمورة" وهي تنظر للصور الملونة بقائمة الطعام ولم تفهم شيئاً حتى تجمد بصرها على صورة "الآيس كريم" المثلج وداعبت طفولتها كراته الملونة... حتى صلاح قد لاحظ، ربما هذا ما أشعرها بالخجل، وكانت تتمنى أن يطلب لها تلك المثلجات الملونة ولا ينتهي الأمر بزجاجة "الكازوزة" لكنه أحضر لها مرادها قبل أن تطلب، لم تكن تشبه الصورة من قريب أو بعيد لكنها كرات وأيضاً مثلجة، وبينما هي تحاول الاستمتاع بالتهام المثلجات واضعة ذقنها داخل الصحن الزجاجي حتى لا تسقط شيئاً على ملابسها وتقوم أمها بتعنيفها حين تعود... كانت كل جوارحها غارقة في المثلجات ما عدا أذنيها كانتا بين فاطمة وصلاح... دون أن تدري وجدت نفسها وسط ورشات تصليح السيارات وتعالت الأصوات من حولها... تمنت لو كانت أذنها لم تزل عند فاطمة وصلاح، قلبت وجهها قليلاً قائلة لنفسها "حتى الذكريات يا ربي لن أهنأ بها؟" تلفتت حولها بضيق باحثة عن سيارة أجرة حتى وجدتها، فتحت الباب وركبت السيارة دون أن تنطق، سألها السائق " إلى أين؟" انتبهت وقررت أن تكمل رحلتها مع فاطمة وصلاح فردت بوضوح "المشاية عند جزيرة الورد"... وانطلقت بها السيارة. حاولت العودة لضفائرها وطعم المثلجات أثناء خروج السيارة من قلب المدينة لنافذتها، لم تعرف لماذا تغيرت المدينة... ولم تعرف أبداً لماذا لم تتزوج فاطمة من صلاح... كانت تراهم كالحمائم البيضاء، كانت فاطمة بوجهها الملائكي الصبوح وابتسامتها التي تذيب الجليد وتفتت الجبال وتفجر الحياة أينما طلت، عيناها كانتا مثل أعين الحمامة أو هكذا كان يراها الجميع، كان مجرد وجودها يضفي من الحب ما يكفي الجميع ويفيض، لم تعرف رجلاً سوى صلاح، ولم تقابله إلا بوجودها معها... لماذا لم تتزوج صلاح؟... لم تسألها أبدا فقط كانت تتأملها وتغوص في بحر حنانها دون أن تسأل أو تستفسر، فقد كانت فاطمة هي الحب والبيت والحنان الذي فاق كل ما عرفته في حياتها... وفي حياة فاطمة. ظهر النيل أمامها فتنفست وقررت الترجل من السيارة قبل جزيرة الورد بقليل، ابتسمت للنيل ومشت بجواره متعلقة بيده، كما كانت تمشي مع فاطمة، لم تحرك طرف وهي تطالع سمرة النيل، فقد طارت في سماء غير سمائها وبهرتها زرقتها، وراق لها التحليق، وغرتها قوة أجنحتها، واعجبها تودد الصقور إليها وإغوائهم لها، لكنها لم تكن مثل الصقور ولم يكونوا مثلها، ولا يجمعهما سوى سماء ليست بسمائها، كانت سماءهم هم... الصقور، ولا يوجد بتلك السماء حمائم فهي موجودة فقط كوليمة طازجة لصغار الصقور... وحين حاولت الهرب من تلك السماء غطاها الليل بستائره وتعبت أجنحتها، ولم تجد بيت لها بتلك السماء الموحشة، فحين احتاجت الراحة لم تعد مبهرة لها بل صارت كالجحيم، وهي تحاول الفكاك منها، باحثة عن بوابة العودة لسمائها... لبيتها... ولم تجدها... ربما العودة لفاطمة ستكون عودتها هي... تسير مع النيل وتلمح الأحباء المتراصين على ضفته، تلمح البراءة والإغواء، تلمح نظرات الصقور، وتلمح خوف الحمائم، لم يكن أحدهم صلاح، ولم تكن إحداهن فاطمة... لم تشعر بدمعها تنساب بصفحة وجهها فتذيب الكحل وترسم خطين من السواد بوجهها، خط يرثي فاطمة والآخر يرثي صلاح، لم تتنبه حتى أعطتها فتاة مراهقة منديل مشيرة لوجهها قائلة " لا أحد يستحق دموعك" أرتبكت وأدركت بكاء عينيها، وتمتمت شاكرة وهي تردد بداخلها " بل يوجد من يستحق... يوجد من يستحق" وصلت جزيرة الورد ودخلت إليها وهي تنظر لتذكرة الدخول مبتسمة "لماذا تغير كل شيء ولم تتغير تلك التذكرة؟" لم تعد جزيرة الورد كما كانت، حتى روادها الآن من القرى القريبة من المنصورة وتلاميذ المدارس الريفية، لكن كل هذا لم يعيق تقدمها لتحتل مكانها أمام النيل مباشرة، وطلبت كأس الليمون، وحين جاء شربت منه مباشرة ليرسم لها شارب من رغوته، لم تحاول مسحه... فقد كانت في انتظار فاطمة لتمسحه بمنديلها وهي مبتسمة بحنان، لماذا تزوجت فاطمة من هذا الرجل؟ لم تتذكر حتى إسمه... كان يخيفها... كيف كانت فاطمة تبتسم في وجهه؟ بل كيف لم يقتلها الرعب ليلة زفافها بهذا الوحش الكاسر؟ كيف استطاع رحم الملائكة أن يحمل طفل الشياطين؟؟؟... هل كانت الحمائم ما يعينها؟؟ كانت تعرف لغته... لغة الحمائم... فقد كان يصطف أمامها في غيته وهي تطعمه بيدها... كان يرقص لها... يرقص معها... وهي تضحك كالملاك الهائم في جنته، والحمائم تعتلي كتفها ورأسها وتقف كالصقر المدرب على كفها... يأكل من يدها ويشرب من يدها... كانت تحدثه ويسمعها... ويجيبها وتفهمه... أفاقت مرة أخرى على منديل آخر بيد النادل الممتدة وهو يشير لشارب رغوة الليمون... ابتسمت شاكرة، لم تقلقها نظرته، وظلت مبتسمة حتى تغير وجهه ورسم وجهاً باسماً وكأنها دفعت بالإنسان بداخله ليطرد نظراته القانصة ويحتل وجهه بسعادة من ملك الدنيا... شكرها عدة مرات دون سبب وانصرف سعيداً... كادت تبكي من سعادته، هكذا كانت فاطمة تطرد كل الشياطين... من قال بأن البراءة ضعيفة وسط الأحراش؟ من قال بأن الإبتسامة تثير أطماع الصقور؟ الآن عرفت أن ابتسامتها قد تروض الصقور وتطرد الشياطين، أحست أنها في طريقها للعودة لنفسها ولفاطمة... جميل هو بكاء السعادة... بكت حين رفض أباها أن يشتري لها فستان جديد يوم فرح أخت فاطمة، بكاء مكتوم لم يدركه أحد سوى فاطمة فأخذتها وهي في شهور حملها الأولى وخرجت، وإذا بها تشتري لها فستان جميل يشبه فستان العرائس الصغيرة فبكت مرة أخرى بين ذراعي فاطمة... بكاء مليء بأشجان السعادة وعادت وتلقت تعنيف أبويها بوجه عابث يخفي سعادته وظلت بجوار فاطمة طوال اليوم وهي بفستانها الأبيض وحذاء مدرستها الأسود، حتى رحل الجميع واستأذنت فاطمة لتعود لبيتها، وحين طلبت أن تذهب معها وثار والدها ربتت فاطمة على خدها قائلة أنها لن تتأخر عليها هكذا وعدتها... ونزلت فاطمة وبدأ الجميع يستعد للنوم إلا هي فقد كانت في انتظار فاطمة... لم تتأخر فاطمة فقد عادت ولكنها لم تكن هي، كانت ثائرة باكية، بدت كمن فقد نصف وزنه، لم يفهم أحد كانت تصرخ صرخات غير مفهومة، وكانت ترتعش كمن مسته الصاعقة... حاول الجميع معرفة ماحدث بلا جدوى... ارتعب الجميع وجلست هي بجوار فاطمة ووضعت رأسها على ساق فاطمة ونامت... في الصباح وجدت أنها نائمة بجوار أمها نزلت من السرير لتبحث عن فاطمة فوجدتها نائمة وحولها العائلة وطبيب يعطيهم تعليمات لم تفهمها، كان الجميع موجود إلا زوجها المرعب، حمدت الله أنه لم يكن موجوداً... كانت تنظر حين تخلو الحجرة من الجميع لتنام بجوار فاطمة وتغمض عينيها لتصحو في حضن أمها... ساءت حالة فاطمة في أيام قليلة وبدا للجميع ألا فائدة وأن الباقي لها أيام أو ساعات، كانت تحاول أن تعرف ماذا حدث لكنها لم تعرف أبدا، لم تعرف أين ذهب صلاح... ومن يرعى حمائم فاطمة... حتى وجدت أقفاص الحمائم وقد أرسلها زوج فاطمة لأختها وكأنه لم يجد ما يعلن به إنتهاء علاقته بفاطمة سوى إلقاء حمائمها... فلم يبق سوى صلاح؟ هو من يستطيع أن يعيد فاطمة... أين هو؟ كل شيء مضى سريعاً وارتفعت الصرخات من جدران البيت، الجميع ينعون رحيل روحها الجميع يبكي، حتى الحمائم بكتها، أصابها الذهول وظلت تبكي في صمت لم تعرف لماذا منعوها من دخول حجرة فاطمة؟ لم تعرف ماذا تفعل تلك السيدة في الحجرة؟ وما كل تلك الأربطة والأقمشة والأقطان ماذا يفعلون بها؟ ماذا يفعلون بفاطمة... خرجت للشرفة تبكي وحدها وهي تنظر في السماء التي كانت تبكيها بأمطار غسلت البيوت والأشجار والطرقات... ورأت صلاح يجلس على الرصيف ورأسه بين ركبتيه باكياً ثائراً... حطت الحمائم جوار صلاح، تنظر إليه تنعيه تحاسبه... تعاتبه... لم تعرف ماذا تقول الحمائم لصلاح فقد كان هو أيضا يعرف لغتها... ظلت واقفة وحدها تبكي... تنتظر فاطمة أن تمسح دموعها... تحتضنها... ولكنها لم تأتي لها... تمنت لو لم تعد فاطمة كما وعدتها... قفز صلاح من مكانه حين خرج صندوق كبير من بوابة البيت كان يدافع الرجال حتى حمل مقدمة الصندوق وسار به والجميع يحاولون دفعه لسيارة كبيرة واقفة بجوار البيت وهو يقاوم ويحاول الذهاب للنيل وهو مغمض العينين من البكاء، كان يريد أن تودع النيل وتودع الحمائم قبل أن ترحل بالسيارة لمثواها... ووصل للنيل وحطت كل حمائم الأرض حولهما وكأنها ترى فاطمة وتصطف لتأكل من يدها... ورحلت السيارة... من سيطعم الحمائم؟ وقد رحلت فاطمة؟؟؟ دموع تنهمر من عينيها ومخاط من أنفها... ترتعش كمان كانت ترتعش في الشرفة... رحلت فاطمة ولم يعرف أحد ماحدث لها وما أمرضها... وبقي النيل... وبقيت الحمائم... سحبت حقيبتها وقامت والنادل يودعها بابتسامة حانية وعين دامعة... عادت إليه قائلة ببكاء "أريد بعض حبات القمح"... تعجب النادل لكنها لم يفكر بل ذهب سريعا لا تعرف لأين وعاد ومعه صرة صغيرة بها قمح... أخدتها ورحلت... عبرت الطريق دون النظر خلفها لم يكن البيت ببعيد... صعدت... فرحت بها العائلة، تركت الجميع وذهبت لشرفة المطبخ... فتحت كل أقفاص الحمائم... ترددت الحمائم قليلاً ثم خرجت كمن أحست بروح فاطمة، أخرجت الحبات من الصرة وأخدت تطعم الحمائم وهي مصطفة تتراقص لها... تتراقص معها... تحدثها فتسمعها... وتجيبها فتفهمها.