صندوق النقد: أداء الاقتصاد العالمي أفضل من المتوقع ويتجه نحو هبوط سلس للغاية    الدوري السعودي، ساديو ماني يقود النصر للفوز على الفيحاء 3-1 في غياب رونالدو (صور)    مصرع طفل دهسا أسفل عجلات سيارة بأبو قرقاص بالمنيا    أحدث ظهور ل سامح الصريطي بعد تعرضه لوعكة صحية    700 مليون جنيه تكلفة الخطة الوقائية لمرض الهيموفيليا على نفقة التأمين الصحي    لخسارة الوزن، أفضل 10 خضروات منخفضة الكربوهيدرات    وزيرا خارجية مصر وجنوب إفريقيا يترأسان الدورة العاشرة للجنة المشتركة للتعاون بين البلدين    حماة الوطن يهنئ أهالي أسيوط ب العيد القومي للمحافظة    قريبة من موقع نووي.. أحمد موسى يكشف تفاصيل الضربة الإسرائيلية على إيران    كيف بدت الأجواء في إيران بعد الهجوم على أصفهان فجر اليوم؟    السودان: عودة مفاوضات جدة بين الجيش و"الدعم السريع" دون شروط    امتحانات الثانوية العامة.. التقرير الأسبوعي لوزارة «التعليم» في الفترة من 13 إلى 19 إبريل 2024    مؤتمر أرتيتا: لم يتحدث أحد عن تدوير اللاعبين بعد برايتون.. وسيكون لديك مشكلة إذا تريد حافز    إسلام الكتاتني: الإخوان واجهت الدولة في ثورة يونيو بتفكير مؤسسي وليس فرديًا    الحماية المدنية تسيطر على حريق محدود داخل وحدة صحية في بورسعيد    سقوط عاطل متهم بسرقة أموالا من صيدلية في القليوبية    محافظ قنا يتفقد أعمال ترفيق منطقة "هو" الصناعية بنجع حمادي    من بينهم السراب وأهل الكهف..قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024    نيابة عن الرئيس السيسي.. وزير الإتصالات يشهد ختام البطولة الدولية للبرمجيات    6 آلاف فرصة عمل | بشرى لتوظيف شباب قنا بهذه المصانع    افتتاح "المؤتمر الدولي الثامن للصحة النفسية وعلاج الإدمان" فى الإسكندرية    الداخلية تكشف تفاصيل منشور ادعى صاحبه سرقة الدراجات النارية في الفيوم    رجال يد الأهلي يلتقي عين التوتة الجزائري في بطولة كأس الكؤوس    «التحالف الوطني»: 74 قاطرة محملة بغذاء ومشروبات وملابس لأشقائنا في غزة    محمود قاسم عن صلاح السعدني: الفن العربي فقد قامة كبيرة لا تتكرر    جامعة القاهرة تحتل المرتبة 38 عالميًا لأول مرة فى تخصص إدارة المكتبات والمعلومات    وزير الاتصالات يشهد ختام فعاليات البطولة الدولية للبرمجيات بالأقصر    بالإنفوجراف.. 29 معلومة عن امتحانات الثانوية العامة 2024    وفاة رئيس أرسنال السابق    "مصريين بلا حدود" تنظم حوارا مجتمعيا لمكافحة التمييز وتعزيز المساواة    سوق السيارات المستعملة ببني سويف يشهد تسجيل أول مركبة في الشهر العقاري (صور)    الكنيسة الأرثوذكسية تحيي ذكرى نياحة الأنبا إيساك    ضبط محتال رحلات الحج والعمرة الوهمية بالقليوبية    وزيرة التضامن ورئيس مهرجان الإسكندرية يبحثان تطوير سينما المكفوفين    بطولة إفريقيا للكرة الطائرة.. مباريات اليوم السادس    العمدة أهلاوي قديم.. الخطيب يحضر جنازة الفنان صلاح السعدني (صورة)    محمود عاشور: تعرضت لعنصرية من بيريرا.. وكيف أتعاقد مع شخص يتقاضى 20 مليون لينظم الحكام فقط؟    خالد جلال ناعيا صلاح السعدني: حفر اسمه في تاريخ الفن المصري    انتهاء أعمال المرحلة الخامسة من مشروع «حكاية شارع» في مصر الجديدة    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 4 مجازر في غزة راح ضحيتها 42 شهيدا و63 مصابا    دعاء لأبي المتوفي يوم الجمعة.. من أفضل الصدقات    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    انطلاق 10 قوافل دعوية.. وعلماء الأوقاف يؤكدون: الصدق طريق الفائزين    القاهرة الإخبارية: تخبط في حكومة نتنياهو بعد الرد الإسرائيلي على إيران    "التعليم": مشروع رأس المال الدائم يؤهل الطلاب كرواد أعمال في المستقبل    شرب وصرف صحي الأقصر تنفى انقطاع المياه .. اليوم    احذر| ظهور هذه الأحرف "Lou bott" على شاشة عداد الكهرباء "أبو كارت"    الصحة: فحص 432 ألف طفل ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    4 أبراج ما بتعرفش الفشل في الشغل.. الحمل جريء وطموح والقوس مغامر    استشهاد شاب فلسطينى وإصابة 2 بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم نور شمس شمال الضفة    طريقة تحضير بخاخ الجيوب الأنفية في المنزل    تمريض القناة تناقش ابتكارات الذكاء الاصطناعي    استشهاد شاب فلسطيني وإصابة اثنين بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم "نور شمس" شمال الضفة    ضبط 14799 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    ليفركوزن يخطط لمواصلة سلسلته الاستثنائية    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هدير الحمام‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 10 - 2010

في طفولتنا لم يكن النوم يداعب جفوننا إلا في ظل المذبحة والدم‏,‏ فقد كانت الأغنية المثالية لكل أم رؤوم كي ينخمد العيل منا‏, ونوم الظالم عبادة‏,‏ هي‏:‏ نام ننه نام وادبح لك جوزين حمام وتوارثنا الأغنية وتوارثنا ذبح الحمام جيلا بعد جيل حتي أتي جيل الحمام الحالي كي يذبحنا نحن علي وقع أغان لا تمت للهديل بصلة‏,‏ وذلك بعدما توصل العلماء هذا الشهر في اسبانيا إلي أن الحمام يحمل حشرة تعرف باسم تشلاميدو فيلابسيتاكي موجودة في‏52.6%‏ منه‏,‏ إلي جانب حشرة أخري تعرف باسم كامبيلو باكتر جيجوني موجودة بنسبة‏69.1%‏ منه‏..‏ والحشرتان تمثلان أهم الأسباب في الإصابة بالإنفلونزا إياها التي تتطور إلي التهاب رئوي يهدد الحياة‏,‏ وصرح العالم فرناندوا سبيرون رئيس مركز الأبحاث في مدريد بأن الطيور التي تكون علي اتصال وثيق مع البشر مثل الحمام يمكن أن تكون ناقلا سريعا للكائنات التي تسبب أمراضا خطيرة علي نطاق ميداني واسع‏,‏ ومن هنا فإن المترددين علي الميادين العامة مثل ترافلجار سكوير في لندن‏,‏ وميدان القديس مارك في البندقية‏,‏ وتايمز سكوير في نيويورك‏,‏ أكثرعرضة للإصابة لوجود الحمام فيها بكثرة وبالتالي مخلفاته حيث يقتات علي كسرات الخبز وما يقدمه له السواح من حبوب طوال الوقت‏..‏ وصرح العالم اسبيرون بأن حالات الإصابة بالإسهال الحاد الناتج من حشرة الكامبيلو باكتر تفوق ما تسببه بكتيريا السالمونيلا السامة بأضعاف مضاعفة‏,‏ مع العلم بأن الحمام الحامل لها مهمته نقل الرسالة السامة فقط دون التأثر بها‏!‏
وإن كان علي الكامبيلو أو حتي البسيتاكي فالأمر بالنسبة لي هين مع صنف الحمام‏,‏ فلي معه ثأر بايت تعود حكايته إلي أكثر من ثلاثين عاما وإن بدت في أولها حكاية غرام عندما كنت العروس الرومانسية الحالمة عاشقة الطبيعة والخلاء والهيام في الفضاء السارح‏..‏ أسبح عند أعالي الشجر بمايوه مسحور خيوطه فتلة من الغسق والشفق وفتلة مدككة بقوس قزح‏..‏ أتهادي علي النجيل السندسي وأملأ الأذن بابتهالات اليمام وهديل الحمام‏,‏ وتحملني سحابة صيف لأتلاشي أذوب في دفء شعاع شمس‏,‏ قادم من الأفق البعيد‏..‏ كنت مقبلة علي الحياة‏..‏ وفي بحثنا المتأني عن العش المثالي خرجنا للهدوء في الضواحي‏,‏ ومن بين عشرات المساكن الخالية التي يطاردنا أصحابها بإلحاح ممجوج‏,‏ ويرسلون خلفنا سماسرتهم يلوحون بتنازلات وإغراءات ضخمة منها رخام فينو للأرضيات والباركيه مسمار ودواليب الحوائط أرو‏.‏ رأيت الجنة‏..‏ فيللا متفردة بيضاء كقصور الأحلام علي جانبيها ربوع خضرة الأراضي الزراعية البكر‏..‏ علي الرصيف المقابل خط من الأشجار الوارفة تصنع سورا لنادي الصيد‏,‏ حيث تشرق الشمس في الخلفية فيتحول التابلوه الحي من تداخل الأغصان وأحضان الظلال إلي أرق خيوط الدانتيللا المشعة‏..‏ أبراج الحمام تتوسطه تخرج منها أطياف ملائكتها ساعة العصاري في موجات بيضاء كعرائس الفردوس تزين وجه السماء بشرائط الباليه الراقصة‏,‏ مقبلة بمرح‏,‏ مدبرة بدلال‏,‏ مرتفعة باستعلاء للعنان‏,‏ هابطة في تراخ حنون لتغدو قمة المتعة للعين المراقبة المتابعة للسرب القادم من هذه الناحية والسرب الغادي في الناحية الأخري‏..‏ أتشبث بقلعة السحر وأرفض كل نزهة وحفل‏,‏ فيكفيني لأنتشي أن أفتح نافذتي وصدري لحقول يمشطها الهواء تتثني وتتجعد أمواجا خضراء‏,‏ ترتعش أهدابها‏,‏ وتتعانق زهراتها‏,‏ وتتغاير درجات خضرتها تحت سحابات وجولات وطلعات وغدوات وروحات الحمام‏..‏ وأنجب طفلي وأشتري له بسكلتة حمراء يلهو بها ويقطع الطريق ولا خوف عليه‏,‏ فكل عربة يتصادف وتسير في شارعنا محيي الدين أبوالعز كنا نعرف صاحبها وموعد خروجه وأوان أوبته‏..‏ وكان لكل صوت طلقة أسمعه من بعيد مفهوما بأن هناك حمامة قد انقطع خبرها‏,‏ بفعل بندقية أحد الهواة في نادي الصيد قبالتي علي الجانب الآخر من الرصيف‏..‏ كان للطلقة دوي في صدري فلحظتها تتمثل لي الحمامة الشهيدة في سقوطها من الأعالي مثخنة بالجراح‏,‏ فألعن الهواية الوحشية وأرثي لحال حاملة غصن الزيتون ورسول السلام‏..‏ وكان مشهدا أدمي الفؤاد مني لفاروق ملك مصر يقف مزهوا بثياب الصيد‏..‏ الشورت والبرنيطة الفيللين‏..‏ وبجواره علي طرف العربة الجيب باقة من صرعي البط والحمام التي قام الملك المفدي بصيدها فصفقت لمهارته الحاشية‏,‏ وانبرت العدسات تسجل التذكار الملكي الدامي‏..‏ وحمدا لله أن هواية الصيد عند الناس الأكابر زهدت في البط والحمام وانحسرت في أيامنا هذه في الزغاليل‏,‏ وإن كان علي الذبح فيوكل بعمليته لطاقم المساعدين المتحرضين‏!‏
و‏..‏ تدريجيا انسحبت السجادة الخضراء من تحت أقدامنا‏..‏ انحسرت الجنة‏..‏ تقلصت مساحات الخضرة لترتفع مكانها غابات الأسمنت‏..‏ حتي بيتنا الصغير الجميل اعتلته الأدوار وشقق المفروش‏,‏ وأصبح لقبنا سكان الدور الأرضي‏,‏ أو بمعني أكثر إيلاما مطفأة سجائر ومخلفات الأدوار العليا‏..‏ وطبعا توقفت سباحات ملائكة الأبراج‏,‏ وخرست ترانيم الهديل‏,‏ ولم تعد حمامة بيضاء تهجع فوق سورنا عندما تضل طريقها عن خط سير السرب إلي أن تلوح طلعة جديدة تأخذ موقعها فيها‏..‏ ويظهر في شارعنا عسكر إشارات مرور‏,‏ وعسكر أكشاك أمن لأكثر من سيادة وزير‏,‏ وعسكر أمن مركزي في عربات لوري مفتوحة‏..‏ وعسكر وحرامية كل في طريقه‏..‏ و‏..‏تبرد أطباق المائدة حتي يستطيع الابن أن يعبر إلينا من الرصيف المقابل ثمانية خطوط من السيارات المارقة بعرض الأسفلت‏,‏ بعد ترك سيارته مفتوحة في ميدان الدقي البعيد فربما يستطيع المنادي سحبها لزنقة شاغرة في ساعة حظ‏.‏
عزلت مصر الجديدة بجوار عمارة قصيرة يطلع سطحها ساعة العصاري جار عجوز من هواة تربية الحمام وعنده غية هديلها يشنف الآذان‏..‏ الرجل الفنان يقف يشاور للحمام يطاوع السرب حركة الأعلام‏,‏ يميل ويرقص في السماء تجاوبا لإشاراته‏..‏ ويظل المشهد الممتع لسنوات إحدي فقرات يومي التي تذكرني بزمان وحلاوة الذي مضي وكان‏..‏ وعندما كان هادي السرب يختفي لأيام من فوق منصة السطوح تظل السماء مجدبة بلا أجنحة‏..‏ وأبتلع ريقي وتصعد الزفرة مرتاحة من صدري لرؤية فارسي يصعد السلم لمملكة الطيران الموجه‏,‏ وإن كان في صعوده متساندا‏..‏ ومن بعد مرات من وقوفه المتخاذل‏,‏ ثم جلوسه المتهدل‏,‏ يأتي الاختفاء الكلي‏..‏ جاري العجوز قبطان السطوح ارتحل مع السرب المغادر‏,‏ وهذه المرة بلا أوبة‏..‏ ومن بعده تشردت المملكة‏,‏ وتفرق الجمع‏,‏ وتشتت الائتلاف‏,‏ وذهب كل مجنح يبحث عن مأوي بعدما اندك العش‏,‏ وأزيل القش‏,‏ وتمزقت الأعلام‏,‏ واندكت قاعدة السطوح‏,‏ ونهش المقاول المفترس الموكل من قبل الأخطبوط المبني الكريم القديم من أساسه في مخطط إقامة ناطحة جديدة في غابة ناطحات شارعنا الملتصقة التي نسلم فيها بالأيدي من الشبابيك علي كل جيران جدد‏,‏ ونترحم علي جيران الزمن القريب الذين تسلموا التعويض‏,‏ وذهب كل في طريق التمليك بدلا من الإقامة بالأجرة كما زين لهم‏!‏
هذا ما تم من أمر البشر‏,‏ أما ما أصاب الحمام‏,‏ ونحن في ذيله‏,‏ فحدث ولا حرج‏..‏ جميع الأسراب بعد إقامتها لعدة أسابيع فوق حافة كرانيش العمارات المقابلة عقدت اجتماعا موسعا اتخذت فيه قرارا مصيريا بالاستقرار الجماعي داخل منور عمارتنا متخذة حلقات مواسير الحمامات محطات ودشم لإقامة الأعشاش التي يفقس بيضها بضجيج الولادات المتعسرة‏,‏ وتبزغ أفراخها المبتسرة المعوقة من جراء تعرضها لسخونة الماء داخل المواسير مع رجرجات زلزلة شد السيفونات المتتالية علي ارتفاع خمسة عشر طابقا‏,‏ لتحنو عليها أمهاتها برفرفاتها وهديلها وصوصواتها التي تحول حياتنا إلي جحيم‏,‏ ناهيك بعذاب الليل وكوابيسه المصحوبة بالعويل والزئير والرقع والهبد‏,‏ فالظلمة حالكة داخل نفق المنور‏,‏ والأجنحة تتخبط ما بين الحوائط والزجاج‏,‏ وعيوننا لا تنام في ليالي رعب هتشكوك‏,‏ وعيون الحمام ذات البصر الثاقب التي ترصد الإشارات علي مسافة كيلومتر أيضا لا تنام بل تظل عمياء رغم خلقتها بجفن ثالث إلي جانب جفنيها الأعلي والأسفل ووظيفته أن ينزلق من الأمام إلي الوراء وبالعكس ليحمي العينين ويخفف من وهج النور‏..‏ لكن المنور بلا نور‏!!‏ وإذا ما كان هذا هو حال قلب العمارة فناهيك بقواعد النوافذ وزجاجها وأسطح التند وظهور أجهزة التكييف التي لم يعد يجدي مع حمامها المشرد خارج المنور أي منظفات تواجه استخدامها كدورات مياه مفتوحة‏..‏ لا الجاز نفع‏,‏ ولا الديتول أتي بنتيجة‏,‏ ولا الكلور قال كلمته‏,‏ ولا خيال المآتة الذي استعضنا عنه بدبدوب يتأرجح في الهواء وقف في وجه تيار نتاج هضم مصارين الحمام النهم الذي يزدرد في النهار ما يزيد علي ضعف وزنه‏,‏ ويبتلع طعامه دون مضغ‏,‏ فيتجمع في كيس الحويصلة ثم إلي المعدة حيث العصارات الهضمية والطحن بفضل خشونة عضلاتها‏,‏ وتسهيلا لسحق الطعام يبتلع الحمام بعض الحصي الصغير الذي يعود فيتقيؤه فيما بعد‏,‏ ومع وصول الغذاء أخيرا إلي الأمعاء حيث يمتص الدم قسما منه‏,‏ تطرح النفايات خارجا فوق زجاج شباك حجرة نومي‏!!‏ ويقول قائل‏:‏ إنه مادام الحمام قد أصبح بالنسبة لكم صوت عذاب لا ينطق بنجواه القديمة اذكروا ربكم بل نسي دينه وإيمانه وقصص الحب الجميلة‏,‏ فقد حل لكم إبادته‏..‏ ولو أن أحدا منكم مطرحي لوضع ذلك الحل في عين الاعتبار بعد أن كره الحمام وسيرة الحمام وغزل الحمام وهديل الحمام وأكل الحمام‏..‏ لو أي منكم شاف عذاب مثلي أنا من المدعوق الحمام لدعا علي يوم دخلة الست أسمهان الجنينة ورؤيتها لجوز الحمام الذي طارت منه الوليفة وماسألتشي في حبيبها‏,‏ وخلفت له العذاب‏,‏ وهو من حبه فيها غني لها لحن الغرام‏,‏ بينما حالته تبكي الجماد‏,‏ الغبي الذي حفظ ودادها وهي خانت عهود الوداد‏!!‏
وأتاري غدر أنثي الحمام ليس في حنجرة أسمهان وحدها ولا من طبع فاتنة الجنينة التي دخلتها فقط‏,‏ وإنما غدر الحمام في الموال الشعبي في تتبعه لرحلة الغدر بطول الوادي علي الأرغول‏:‏
أصل الحكاية فرشت لطير الحمام شيلان الحرير والفل
عافر معايا وفك الرباط وحل
طلعت أدور علي طيري نهار ما راح
وقلبي مني بلي لما امتلا بالجراح
إلا وهاتف قابلني سأل عن أصل النواح
وشرح لي إن الحمام في البلاد سواح
تسألني علي طيرك‏..‏ دا راح جرجا بلد عيسي
أنا رحت جرجا بلد عيسي لقيت عيسي شاب متغندر
ياما اشتكي لي نهارها من الحمام واتعذر
وقال لي يا راجل إن كان طيرك شعره من ورا أصفر
اصغي لقولي‏..‏ وعلي سوق الخميس بدر
أنا‏..‏ رحت سوق الخميس
يكفيني ويكفيكم شر اللعين إبليس
ما لقيت في جميع المفارق فردة حمام واحدة
وأديني رجعت مهموم ومتكدر
خبطت كفي علي كفي دمي كفي
نزلت دموعي علي خدي ملت كفي
وقلت يا نفسي أنا من عشرة الأندال مستكفي
إلا وهاتف نده لي من ورا‏..‏ خلفي
بتسأل علي الزغاليل‏..‏ دي راحت مدينة الزغلول
أنا رحت مدينة الزغلول
لقيت هناك ألف أرغول بيعزف مع أرغول
صبح قليبي مع ولاد الغرام مشغول
إلا وهاتف قابلني من ورا بيقول‏:‏
تكتم السر إن قلته‏:‏ والله العظيم ماحاأقول
بتسأل علي طير الحمام‏..‏ دا راح مدينة استنبول
جمعة وست أيام بعدها خشيت مدينة استنبول
إلا وقابلني جدع بيتلفت وفي إيده قلم بنور
كتب اسمي في كشف آلاف بتدور وتدور
وقال لي إن كان بدك الحق طيرك راح دمياط متخفي
دمياط كبيرة قوي عليها كل الطيور تورد
دمياط للبدوي مزار ولقا الحلو بالمالح
أنا نصبت للطير الشرك وقمت ماسك فيه
وقلت الطير طيري أنا مربيه
وأنا اللي كاسيه ولا أحد شريكي فيه
ماتفتكر يا طير لما خدتك لحم من غير ريش
وعلمتك الهق والزق والطيران والتعشيش
ولما كبرت وبقي لك في جناحك ريش
تلوف بغيري لما لقيتني خلاص معاييش‏!!‏
رجع يقول لي أنا اللي علي عشرتك باقي
رجعت أقول له أنا اللي من عشرتك ضاقت أخلاقي
وأصل الحكاية فرشت لطير الحمام شيلان الحرير والفل
لقيت سواقي الوداد نزحت وماءها قل‏!!!‏
وقالوا وعادوا في الحمام والحب والصد والهجر ومنها قولة أبوفراس الحمداني بصدد النوح‏:‏
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتي هل تشعرين بحالي
ونقرأ لرامي في قصيدته سري وسرك قوله‏:‏
الصب تفضحه عيونه
وتنم عن وجد شجونه
يهتاجنا نوح الحمام
وكم يحركنا أنينه
إنا تكتمنا الهوي
والحب أقتله دفينه
ويغني عبدالوهاب لشوقي حمامة الأيك‏,‏ وفي منفاه بالأندلس يكتب شوقي مئتنسا بنواح الحمام‏:‏
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نأسي لواديك أم نأسي لوادينا
ويطير الحمام إلي قصائد نزار‏:‏
ذوبت في غرامك الأقلام
من أزرق‏..‏ وأحمر‏..‏ وأخضر
حتي انتهي الكلام
علقت حبي لك في أطواق الحمام
ولم أكن أعرف يا حبيبتي
أن الهوي يطير كالحمام
وما طوق الحمام كما يقول الجاحظ سوي وسام أعطاه لها نوح عليه السلام حين أرسلها مكان الغراب الذي لم يعد‏,‏ وكانت المهمة التعرف فيما إذا كانت الأرض قد لاحت‏,‏ أم لم تزل السفينة تخوض جبال الموج إلي ما لا نهاية‏,‏ فأخفق الغراب وعادت الحمامة بالبشارة تحمل في منقارها حبات عنب وفي رجليها طينا دليل علي اقتراب اليابسة‏,‏ وفي هذا يقول ابن أبي الصلت‏:‏
وأرسلت الحمامة بعد سبع تدل علي المهالك لا تهاب
فعادت بعدما ركضت بشيء من الأعناب والطين اللباب
فلما فتشوا الآيات صاغوا لها طوقا كما عقد السحاب
إذا ماتت تورثه بنيها وإن قتلت فليس له استلاب
ويجعل ابن حزم الأندلسي‏994‏ 1063‏ م كتابه طوق الحمامة عنوانا لأروع مؤلفاته التي تبلغ في الفقه والحديث والأصول والتاريخ والنحل والملل والنسب والأدب والرد علي معارضيه نحو أربعمائة مجلد فيما يقرب من ثمانين ألف ورقة‏,‏ ويعتبر واضع أسس علم المقارنة بين الأديان العلم الذي لم يعرفه الغرب إلا في منتصف القرن التاسع عشر أي بعده بقرون‏,‏ وفيه يبين بأدلة دامغة كيف حرفت الكتب المقدسة قبل القرآن‏,‏ مما انتفع به فيما بعد توماس الإكويني في كتابه خلاصة علوم الدين‏,‏ ويستهل ابن حزم كتابه طوق الحمامة في الألفة والآلاف حديثه بأن الحب ظاهرة إنسانية لم يسلم منها حاكم ولا محكوم‏,‏ وللحب علامات رصدها الإمام الفقيه‏:‏ أولها إدمان النظر والإقبال علي حديث المحبوب يصدقه وإن كذب ويوافقه وإن ظلم ويتبعه كيف سلك‏..‏ ومن مظاهره الإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه وتعمد الدنو منه والاستهانة بكل جليل يتسبب في مفارقته‏..‏ ومن علاماته استدعاء اسم الحبيب وتحوير الكلام ليذكر خلاله‏..‏ ومن دلالاته حب الوحدة والأنس بالانفراد ونحول الجسم دون مرض‏..‏ ومن أعراض المحبين السهر حتي الفجر والبكاء بلا سبب‏..‏ وظاهرة في الحب أن تري المحب يحب أهل محبوبه وقرابته وخاصته حتي يكونوا أقرب لديه من أهله ونفسه‏..‏ والحب يصنع المعجزات‏,‏ فكم من بخيل جاد وجاهل تأدب وفقير تجمل وكبير السن تصابي وجبان تشجع وقطوب تضاحك وغليظ الطبع تحبب‏......‏ ويعد ابن حزم رائدا لعلم النفس فقد نبه منذ ألف عام وأكثر إلي ما رددته مدارس التحليل النفسي أخيرا من أن كل حب يخفي في طياته كراهية في اللاشعور‏,‏ وهو يعلل ذلك بما نقوله في أمثالنا الشعبية مثل كل ما يزيد عن حده ينقلب لضده فيقول معلم الحب‏:‏ الفرح كالغم إذا أفرط قتل‏,‏ والضحك كالبكاء إذا كثر واشتد أسال دمع العين‏.‏
في طوق الحمامة يشير ابن حزم إلي ملمح جميل من ملامح الحضارة الإسلامية في الأندلس‏,‏ فحين فتحها المسلمون أبقوا علي التراث الروماني الذي وجدوه‏,‏ ويتمثل في عدد كبير من التماثيل البديعة‏,‏ وقد أفادوا منها في تزيين البيوت والحدائق والحمامات خاصة‏,‏ وقد رسم لنا أبوتمام صورة شعرية جميلة لتمثال مريم العذراء تحمل المسيح بين يديها‏,‏ وكان التمثال موضوعا في حمام الشطارة في اشبيلية‏:‏
ودمية مرمر تزهي بجيد تناهي في التورد والبياض
لها ولد ولم تعرف خليلا ولا ألمت بأوجاع المخاض
وسافرت مدعوة لأجازة في الريف قبلتها مسرورة مرحبة ملبية مرضية كي أسترد أنفاسي من صخب الهديل وما يتبعه من عذابات التنظيف والغسيل‏..‏ أغور بعيدا عن طوق الحمام وجو المستشفيات الذي أصبح إطارا لحياتي في بيتي الغارق في اليازول والديتول والكلور والجاز‏..‏ وبعيدا عن النادي الذي أصبح مؤخرا مرتعا لأسراب الغربان التي تنقض علي الصغار في مسلسل ذيوع الجوع تخطف من أيديهم الساندوتشات علي مرأي من الأعضاء في وضح النهار لتترك صرخات ودموعا وأكثر من علامة استفهام‏..‏ حطيت شنطتي وجريت علي السماء المفتوحة والخضرة المطروحة والهواء النقي‏..‏ وسط غابات عيدان القصب الخضراء المشرعة بشرايين السكر‏,‏ المرتوية بعذوبة النيل‏,‏ المترعة بشهد الرحيق‏,‏ السارحة للقبة الزرقاء‏,‏ المقسمة بالهندسة الإلهية الوراثية إلي عقلات تطول في الأعالي لتزغرد في الزعزوعة‏,‏ وتتقازم بصلابة في المنتهي بخلاصة زخم الحلاوة القاصعة تحت الضرس وقت المص‏..‏ و‏..‏وسط الفرح لقيتها قدامي‏..‏ أبراج الحمام‏..‏ سد عالي من أقماع السكر‏..‏ أكثر من خمسين برجا في بلدة قطور بالغربية تموج بشاغليها من صنف الحمام‏..‏ الأمريكي والجاوي والشامي والأورفلي والزنكي والريحاني والنجاري والروماني والسولو والعبسي والعمري والهمر والبلجيكي والقطقاطي والكركندي والشقلباظ‏..‏ الخ‏..‏ الخ‏..‏ إذن نهاري مش فايت مع طلعات طير الأبابيل الخرقاء التي لا تقذف بحجارة من سجيل وإنما بفضلاتها الحمقي‏..‏ مئات البلاليص في الرص الهندسي الدائري المائل بأفواهها للأعالي بحشوة القش كما العش كي لا تسقط بيضها المنتظم فقسا كل يوم بيضتين إحداهما تفقس ذكرا والأخري أنثي بعد عشرين يوما في الحضانة‏,‏ ويبلغ متوسط عمر الحمام‏12‏ عاما ينام خلالها كل خل في أحضان خليله يدوران مع الفجر لالتقاط الرزق وتنظيف المصارين‏,‏ ويؤوبان مع المساء يعاودان الأحضان خفيفان هاضمان في وزن الريشة علي أهبة الاستعداد لتصنيع بيض جديد وتخريج النتاج‏..‏ فإذا لم يعد الشريك لبرجه فذلك بسبب قرفصته واضعا ساقيه جوه بطنه بعد حشوه بخلطة البصل بالفريك وسد الخرم بغرزة خلف خلاف راقدا فوق مسطح البقدونس‏,‏ أو مندسا في جوف حلة الأرز المعمر في الفرن‏,‏ أو مطلوبا دمه علاجا وهميا لمرضي فيروس الكبد وطاردا لعفاريت ركبت صبية في حمامها نظرت في المرآة ولم تحسب حساب اللي ما يتسموا‏..‏ وقبل ما يطير حمام برجي الأخير في رحلة الاستشفاء اللامجدية سألت عن الحمام الزاجل‏,‏ فشاور لي أمير أبراج الرغي علي حمامة متحفزة مستأسدة متبخترة متكبرة واثقة الخطي والالتفاف والغندرة‏,‏ رافعة رأسها وصدرها بارز لقدام بمفخرة رغم رقبتها القصيرة‏..‏ منقارها أسود غطيس رفيع باستقامة الغطرسة‏,‏ ضاغط علي الفكين كأنه عازم علي القيام بمهمة عويصة وحده القادر علي تنفيذها‏..‏ العيون خضراء زيتوني بهالة بيضاء مكحلة‏,‏ والريش كما الدبابيس متلاصق وصلب‏,‏ والأجنحة قصيرة عريضة مستقوية والذيل سرح منتظم أطول من الجناح‏,‏ وعضلات السيقان بارزة بلون الورد بادية القوة عارية من الزغب كأنها توا منتوفة بقطعة حلاوة قوامها مشدود بالسكر والليمون‏..‏ وقال لنا قائد الأبراج إن كلمة الزاجل أصلها فارسي ومعناها قائد العسكر أو عميد الجند‏,‏ وقال لنا عن الزاجل إن في منقاره مغناطيس يستشعر مجال مناطق الجذب فيعود إلي مسكنه ولو أزيل العش وطار القش وطمس الأثر وزاغ البصر‏,‏ فالعودة دينه وملته والوطن مركز إشعاع الجلب ينادي عليه من آخر الكون فيلبي حكم الإياب‏,‏ يفرد جناحه يرفرف وعلي كتف صاحبه يوقف يلقط الغلة‏..‏ وقال لنا الصاحب إن الزاجل عرفوه سنة‏24‏ قبل الميلاد عندما حاصرت جيوش مارك أنطونيو قوات بروتس الذي كان علي اتصال بالقائد أكتافيوس بواسطة الحمام الزاجل فأرسل له علي جناح السرعة طالبا النجدة‏...‏ ويعود للزاجل شرف ربط أطراف الإمبراطورية الإسلامية من بعد فتوحاتها‏,‏ وعلي سبيل المثال أقام الفاطميون سلسلة أبراج يبعد الواحد منها عن الآخر خمسين ميلا‏,‏ جميعها مجهزة لاستقبال الحمام واستبداله‏,‏ وأيام المعتصم بلغ ثمن الحمامة من النوع الزاجل ألف دينار‏..‏ والآن في الشهر الماضي فقط بلغ سعر الحمامة في معرض قطر لهواة الحمام في دول الخليج‏35‏ ألف ريال‏..‏ المعرض الذي حصلت به قطر علي عضوية المنظمة العالمية لحماية الطيور‏..‏ هذا بينما نحن في مصر اللي بدعنا الأبراج من أيام الفراعنة‏,‏ والحمامة بحد ذاتها وشكلها ورسمها إحدي حروف الهجاء في اللغة الفرعونية‏,‏ حمامنا مشرد في مناور العمارات وعلي حافة الشبابيك بعدما نضا عنه ثوب الحب والوئام والسلام‏,‏ وألقي بعيدا بغصن الزيتون‏,‏ وارتدي مظهر البجاحة والتلاحة والوقاحة والغتاتة‏,‏ حتي إني عندما أقوم أهشه يستدير برأسه ناحيتي لينظر لي شذرا متمتما بقوله المستحدث يقرفكوا كلكم معقبا برفع ذيله ناحيتي ليوقع في وجهي بختمه اللاصق الذي لا يجدي معه الديتول ولا اليازول ولا الكلور‏..‏
وأجدني مجبرة متجاسرة علي أكثر من سؤال وعلامة استفهام أرفعها لمن بيده العلم والفتوي حول حقيقة ما إذا كان حمام الحما في الحرمين الشريفين المكي والنبوي لا يخلف آثارا‏,‏ وهذا ما لمسته رؤيا العين في الحج والعمرة‏..‏ وما إذا كان من جينات مختلفة عن حمامنا؟‏!!!..‏ وما إذا كان يحق لي من بعد تعرضي الدائم للأذية اللجوء إلي مواد تقضي نهائيا علي زواري غير المرغوب فيهم ظهرا أو مساء؟‏!!..‏فأنا الآن قد أصبحت لا آتي علي ذكر‏......‏ اللهم إلا مواربا مدغما مثل قولي الحمائم والصقور من باب السياسة‏..‏ والعد بحادي بادي شاله وحطه كله علي دي‏..‏ والمجد للطيب صالح في هجرة طيور الشمال‏..‏ وفي زفة عريسنا يا بلح زغلول يا سيد العرسان‏..‏ وفي باب النزهة النيلية حمامة بيضا بفرد جناح‏..‏ ومن باب المداعبة والنبي لأهشه وأنكش له عشه‏..‏ الذكر السافر الوحيد له إذا ما هتفت كنار علي علم باسم فاتن حمامة‏!{‏
[email protected]
المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.