صدّر الرِّوائي الراحل جمال الغيطاني روايته نثار المحو بقول فؤاد حداد: كأن الحياة ذكري، وهو تشبيه الحياة بأنَّها ذكري، سواء أكانت ذكري جميلة أم حزينة، فالذِّكري تظلُّ عالقة في الأذهان لارتباطها بوقتٍ ومكانٍ معينين. فإذا كان فؤاد حداد قد شبَّه الحياة بأكملها بأنَّها ذكري، فإنَّ هذا الأمر هو ما يتمثَّله الغيطاني في سعيه الدَّؤوب ، لتسجيل ما كان؛ سواء أكان جميلاً أم قبيحاً. فكلُّ الحياة أصبحت فيما يتعلق به ذكري بأتراحها وأفراحها. وهكذا عند النَّاس ولكن مَنْ يستطيع أن يهضم تلك الأحداث، ليقدِّمها في شكل فني جميلٍ ، إنَّه الفنَّانُ، صاحب القيم والمعتقدات؛ لذلك فقد استطاع الغيطاني التقاط تلك الذِّكريات، والتي كانت في الوقت نفسه دافعاً لتكوينه الثَّقافي؛ سواء أكانت المتعلقة بحياته مع والده والذي أصرَّ علي حسن تعليمه وتهذيبه أم مع المكان والبيئة التي نشأ فيها مع أسرته وأقرانه في درب الطبلاوي بعد مجيئة مع والده من الصَّعيد. وترعرع ونما وأصبح أديباً مرموقاً فهو من جيل الستينيات. إنَّ رواية نثار المحو هي ذكرياتٌ يخشي عليها الغيطاني من أن تُمحي من الذَّاكرة ، وهي إشارةٌ ودليلٌ علي ما بداخل الرِّواية؛ حيث إنِّها مجموعةٌ من الذِّكريات الحياتية المبعثرة هنا وهناك. يحاول فيها الغيطاني قدر المستطاع الإمساك بها ، وقد تتفلت منه بعضها ، ولكنَّه في الوقت نفسه نراه يأتي بها في موضع آخر ، مستخدماً دائماً طريق الإحالة. لقد ارتبطت نثار المحو بهذا التَّصدير من خلال الاختصار الذي مثَّله ، وهو كأن الحياة ذكري ، بحيث نجد أنَّ هذه الرِّواية بشكلٍ عامٍ هي مجموعةٌ من النِثَار المبعثرة ، والتي تصلح قصصاً قصيرة وسريعة جداً ، لأنَّه ضمَّن كلَّ جزئيةٍ من جزئياتها عبق الكتابة جاعلاً منها جميعاً وبشكلٍّ عامٍ رواية النثار ، وهنا تتجلَّي وظيفة التَّصدير. ثلاثُ كلماتٍ احتوت حياة الإنسان منذ ولادته حتي وفاته ، فحين يقول " الحياة " فهي حياةُ إنسانٍ ، من الفعل حَييَ حياة أي من كان ذا نماء ، ويقال حيَّ يحيا فهو حيٌّ ، كائناً من كان ، في تلك الحياة ، بما فيها وما احتوتها من مآثر وآلام ، وكأنَّ الحياةَ أيقونةٌ للبقاء ، والموت هو النَّقيضُ لها ، فمن الموت تولد الحياة ونقول أحيا الله الأرضَ بعد موتها؛ ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالي يقول" وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَي بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ " ومن أجل ذلك جعل الله الحياة والموت. لا بُدَّ أن يكون هناك موتٌ حتي تكتمل عجلةُ الحياة. فالحياةُ تدلَّ في الوقت نفسه علي وجود آخر ، هذا الوجود هو الموتُ، فكلٌّ من الحياة والموت مخلوقان من مخلوقات الله تبقي إلي أجل معلوم، فالحياةُ هي حياةُ الإنسانِ التي يحياها في دنياه،بينما الموتُ هو حياةٌ أخري يحياها إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها. إذاً ، الكلمات الثَّلاث لخصت معني الوجود والعدم ، من خلال أداة التَّشبيه " كأنَّ " والتي كانت واسطة بين الحياة والذِّكري لتكمل حلقة التَّشبيه. وهنا يبدو سؤال الوجود؛ لأنَّ " الوجود الحقيقي في الذَّاكرة ، من خلالها يمكن أن نري المستقبل ، وأن نستعيد الماضي وفقاً لقوانين خفية ترتب مضمونها وتتحكم فيه ، حتي الآن لا نعرف بالضَّبط القوانين التي تستدعي لحظةً دون الأخري، وهو ما أكده الغيطاني. وإذا كان قد أكد علي هذه الحقيقة ، وهي أنَّ الحياة كلها مرحلةٌ يحياها الإنسان وفي نهايتها يعرف أنَّها أصبحت ذكري له يحيا عليها ، فهي في الوقت نفسه تلحُّ علي وجود النَّقيض وهو الموت أو العدم؛ لذلك فإنَّ قول فؤاد حداد قد ارتبط بوجدان الغيطاني؛ حيث كان علي موعد معه في هذا النِثَار ، ذلك أنَّه قد حاول قدر المستطاع جمع شتات ما تناثر من حياته وما محاه الزَّمان في هذه الرِّواية والتي تعتبر من فن كتابة السِّيرة الذَّاتية. جاء التَّصدير في الرِّواية كما دونه جمال الغيطاني بقول فؤاد حداد " كأنَّ الحياةَ ذكري " والذِّكري بطبيعة الحال مرتبطةٌ بالزَّمن ، وهو ما يبحث عنه الغيطاني ، وقبل أن نبحث عن مضمون العلاقة بين التَّصدير والرِّواية أو بين التَّصدير والمقاطع السَّرديَّة ، جدير بنا أن ننوِّه إلي أنَّ تعريف الزَّمن يختلف باختلاف رؤية كلِّ إنسانٍ ، فعالم الاجتماع ينظر إليه بنظرة تختلف عن عالم الفيزياء ، وهي نظرةٌ تختلف عن نظرة الأديب له.. وهكذا؛ لذلك فمن الأهمية بمكان التَّعرف علي الزَّمن ، والذي هو في الوقت نفسه ذكري ، فضلاً عن معرفة صنوه الآخر وهو المكان وما نتج عن زواجهما من فكرة الزمكانية . وهي التَّعالق بين الزَّمان والمكان؛ ذلك أنَّ رواية نِثَار المحو قد حوت كلا من الزَّمان والمكان من خلال التعالق البين بينهما ، فحينما يتذكر الكاتب حادثة معينة فإنَّه يستحضر الزَّمن الذي صاحب تلك الحادثة ، فلكلِّ زمانٍ مكانٌ ولكلِّ مقامٍ مقالٌ ، فالزَّمن قد توزعت مفاهيمه علي كلِّ الفلسفات. فكرة الزَّمن ما الزَّمن ؟ أليس هو الذي يرتبط بالحياة والتي ستصبح ذكري كما قال فؤاد حداد؟ أم هل الزَّمن هو توالي الليل والنَّهار وما يعقبهما من الفصول الأربعة؟ أم هو التَّاريخ؟. أم أنَّه الأسطورة التي لم تخضع للتَّاريخ. هل هو الأبد والخلود. هل هو الوجود كلُّه أم أنَّ الزَّمن شيءٌ آخر ، وإذا كان شيئاً آخر فهل الزَّمن " نحن " من خلال الحياة التي نعيشها. وماذا لو متنا وانقطع الزَّمن البشري ليدخل في الأبدية المطلقة ، بمعني ينتقل الإنسان من حيز الإنسان إلي اللاوجود والعدم. وحين تساءل جمال الغيطاني عن التَّاريخ منذ أربعة عقود تقريباً فهو في الوقت نفسه قد ربطه بالزَّمان؛ حيث يقول" ما هو التَّاريخ ؟ أهو توالي الليل والنهار ؟ ثم توالي الأيام والليالي كما يقول الطَّبري ؟ ربما السَّخاوي أكثر تحديداً عندما قال إنَّه البحثُ عن وقائع الزَّمان من حيث التَّعيين والتَّوقيت وموضوعه الإنسان والزَّمان ، إنَّ التَّاريخ هو الحوادث والحوادثُ هي التَّغيرات والتَّغيرات لا تحدث إلا بتوالي الزَّمان ، التَّاريخ هو الزَّمان". فالزَّمان هو الحدث وهو التَّاريخ وهو الذَّاكرة ، لأنَّ حياةَ الإنسانِ ما هي إلا تاريخه ، وهذا المقال للغيطاني هو نفسه تاريخٌ للذَّاكرة . فالزَّمان ليس منفصلاً عن الإنسان ، الإنسان بمفرده تاريخ في جوهره ، له بدايةٌ ونهايةٌ ، الميلاد والموت، وما بين ذلك سلسلة متِّصلة الحلقات ، فيها الماضي والحاضر والمستقبل. وهو بذلك يعيش في حالةِ تأملٍ مستمر من خلال تجربته القصصية ، يربط الحياة بأكملها بالتَّاريخ، فحياةَ الإنسانِ تاريخٌ في حد ذاتها ، ومسار الإنسانية كلها يشكِّل التَّاريخ ، المجري العام الذي تصبُّ فيه كلُّ المصائر ، وهذا المسار تجربةٌ واحدةٌ ، واللحظة الآنية الواحدة هي حاضر وماضي ومن قبل كانت مستقبلاً". فإذا كانت حياةُ الإنسانِ تاريخاً فما هي إلا ذكري يعيش علي تذكرها حين يصبح في سنه المتقدم ، وهو الأمر الذي يعلل وجود هذا القول" كأن الحياة ذكري" لفؤاد حداد. فالزَّمن كما قال الصادق قسومة في ذاته فضاء أو امتدادٌ ، أو سيرورة خطية دائمة ، لكنه لا يصير ذا معني ووجود ذهني إلا من خلال وعي الإنسان به أي من خلال ارتباطه بالإنسان وأعماله وتاريخه وفكره أو قل إنَّه ما به ينشأ وعي الإنسان بما هو كائنٌ في العالم ، أي إنَّ فكرة الكون ذاتها لا تقوم إلا من خلال علاقة الإنسان بالزَّمن. إنَّ التَّجربة البشرية لهذه الحياة هي التي تحتفظ بمقوماتِ الحياةِ من خلال الزَّمان والمكان والرَّابط الذي يربطهما وهو الإنسان ، فذاكرة الإنسان هي التي تحتفظ بالماضي من الزَّمان والمكان لتَعْرِضَه في الوقت الحاضر من الزَّمان والمكان ومن ثَمَّ أصبح هناك زمنان ومكانان؛ زمان ومكان الحدث الماضي الذي خزنته الذَّاكرة ، ومكان وزمان الحاضر ، وما تأثير ذلك علي المتلقي بحكم أنَّه يعيش الحدثين بالنِّسبة للزَّمان والمكان. إذا قبلنا أنَّ الزَّمن ينقسم إلي أزمنةٍ مختلفةٍ من خلال تقسيماته والتي منها الزَّمن الفلسفي والزَّمن التَّاريخي والذي نراه عند النَّاقد الفرنسي بول ريكور؛ حيث الفلسفة الوجودية وفكرة الانطولوجيا. من خلال أنا أفكر إذاً أنا موجود في المكان والزَّمان ، فإنَّ الزَّمن النفسي هو ما نعنيه هنا ، والذي يحوي بين طيَّاته ذكريات الإنسان . وهذا النوع كما قال عبدالصمد زايد ما يسمي بالزَّمن النَّفسي. وقد أثبت علم النَّفس الحديث كيفية تخزينه سواء في مستوي الذَّاكرة الواعية أو في مستوي اللاوعي. وبيّن قيمة هذا المخزون في توجيه السُّلوك البشري أو في فهمه وتحليله وتفسير أسباب الاستقامة فيه. وهذا هو بيتُ القصيد؛ ذلك أنَّ الزَّمن النَّفسي عند الغيطاني هو ما كان وما سيكون ، فالذِّكري التي تتناولها الرِّواية هي ذكري الزَّمن الماضي ولن تكون ذكري أو يطلق عليها هذا المسمي إلا إذا كانت في الماضي. وقد حاول جمال الغيطاني في نثار المحو أن يفرِّق بين أزمنةٍ مختلفةٍ لديه في حياته ، والتي نراها بين الفينة والأخري؛ حيث يتوه فيها؛ لأنَّ نفسه موزعةٌ بين الزَّمن الدنيوي المعروف السَّاعة والدَّقيقة واليوم ، وهو ما ألاحظه عليه ، وبين الزَّمن الصُّوفي ، وقد حاول مراراً أن يفرِّق بينهما. وفضلاً عن ذلك ، فإنَّ هناك زماناً ثالثاً من الأهمية بمكان ، وهو الزَّمن المروي علي صفحات الرِّواية ، وهو زمنٌ ثالث عاشه المتلقي الذي يبحث عوالم الرِّواية. وهنا نتساءل كيف نستطيع فكِّ العزلة الانفرادية للزَّمن في نِثَارِ المحو المبعثر؟ وفي الإجابة عن ذلك السُّؤال نري بول ريكور يقول : مع هذا التَّسجيل للزَّمان المعيش في الزَّمان الكوني ، علي جانب التَّاريخ ، يتجاوب حلٌّ علي جانب القصص ، يقابل الالتباسات نفسها في ظاهراتية الزَّمان ، وهو تحديداً التَّنويعات الخيالية التي يحققها السَّرد فيما يتعلق بالموضوعات الكبري". والغيطاني عاش مع ذلك الزَّمن الظَّاهراتي الذي يحيا في الخيال من خلال ما عاشه مع الحلاج وابن عربي وغيرهما من الصُّوفيين الذين تميزوا بآرائهم في الزَّمان وتداعياته ، وقد ارتبط الزَّمن في هذه الرِّواية بعنصر الاستدعاء ، أي استدعاء ما كان راقداً في الذَّاكرة من مواقف وحكايات ترويها اللغة وتمسك بها عند الحضور ، فأصبحت اللغة هي المُنطلق إلي التَّعبير الأدبي. وإذا كان فرانز كافكا الكاتب التِّشيكي يقول عن الكلمة في اللغة " إنَّ الكلمات هي التي تمهد الطَّريق للأفعال وتثير انفجارات الغد. فالتَّعبير يجعل من اللغة طريقاً إلي الرقي والحضارة أو حتي عن طريق الإحالة بمجرد الإشارة ، فحين يشير الغيطاني إلي حادث حدثَ له ويحاول تسجيله فهو يعيد الزَّمن الماضي إلي الحاضر ولكن بأسلوب وبطريقة فنِّيَّة أفضل مما كان " فالإحالة الإشارية أوسع بكثير من التَّعبير الحصري عن حاضر المتكلم أو السَّارد وإن كانت تفترض دائماً هذا الحاضر وتنطلق منه ، ضمناً أو علناً. فهو يشير إلي الماضي والحاضر معاً الماضي من خلال الذِّكري ، والحاضر من خلال الطَّرح علي المتلقي مما يشعر به في اللحظة الآنية وبهذه الطَّريقة توضع العلاقة بين الماضي والحاضر تحت إضاءة جديدة ينكشف لنا الماضي من خلال إقامة مشروع أفق تاريخي هو في الوقت نفسه منفصلٌ عن أفق الحاضر ومأخوذ نحوه ومنصهرٌ به. وهو ما مثلته حياة الغيطاني التي حاول بقدر جهده تدوينها بشكل فني راقٍ. إنَّ العلاقة بين عتبة التَّصدير في الرِّواية والرِّواية نفسها تقتضي البحث عن بعض المقاطع السَّرديَّة المرتبطة بعنصر الذِّكري؛ لأنَّ الحياةَ كلَّها ما هي إلا ذكري للإنسان ، وهنا يحاول الغيطاني إخضاع الزَّمن لمراده وهدفه ، كما كان يفعل مارسيل بروست الرِّوائي الفرنسي من خلال عمله الضَّخم " بحثاً عن الزَّمن الضَّائع" والذي حاول فيه ربط حياته كلَّها برباط الزَّمن من خلال الذَّاكرة ، فكانت الذَّاكرة هي المغناطيس الملتقط للذِّكريات الماضية بحكم أنَّ الحياةَ كلَّها أصبحت ذكري كما قال فؤاد حداد " لقد شكلَّت رواية مارسيل بروست موضوعاً لقراءاتٍ مختلفةٍ المقاصد والمذاهب ومتعددة المواهب والمشارب. وقد آثرت الاستشهاد بهذا الكاتب " مارسيل بروست لأنَّه الوحيد من الكتاب الغربيين الذي تشبه حالته حالة جمال الغيطاني ، فإذا كان بروست مأخوذاً في وقت ما بقوة الزَّمن وقدرته علي إخضاع طرق التَّفكير لتحكّمه ، وبقوةِ الإيحاء علي إنقاذ الأحداث من سيطرته ، وذهب في روايته الضَّخمة إلي أنَّ الماضي بصفائه لا يمكن علي وجه العموم استرجاعه. فإنَّه كان في حالة صعبة تستعصي علي تذكِّر كلَّ ما كان ، وهو ما يبرهن علي أنَّ الغيطاني وفي هذا العمر يحاول الالتقاط من الذَّاكرة ما يستطيع. وحالة بروست هذه تدل علي أنَّ الماضي قد تعدَّل وتغير بالتَّجربة الواقعة بين الحدث وزمن التَّذكر ، وتعرض لكثير من التَّغيير بفعل مرور الزَّمن من خلال بوتقة العقل. ولكن الغيطاني كان يحاول دائماً إخضاع ذاكرته لكلِّ ما تريده أن تتذكره دون الضَّغط عليها لتذكر حدث معين وهو ما استبان من الرِّواية ، حيث لا يمكن أن تحدد البدايةَ والنِّهاية للأحداث. لقد ارتبط التَّصدير عند الغيطاني بالرِّواية من ناحية الزَّمن؛ بحكم أنَّ الزَّمن مرتبطٌ بالذَّاكرة التي تتذكر ما كان منذ زمنٍ بعيدٍ ، يقول الغيطاني في مقطع سردي متذكراً ما كان قريباً من الأحداث ، حين علم بأنَّه أصبح علي المعاش " الخروج إلي النَّهار. الإحالة إلي المعاش.. ربما ، أياً كانت التَّعابير ، ليس ذلك إلا تعبيرٌ عن انقضاء حياة ، بدأ وقت مغاير تكون فيه الاستعادة أكثر من التَّوقع". نلاحظ أنَّه قد بدأ التَّذكر منذ وقتٍ قريبٍ ليستطيع جمع ما يمكن من الحياة التي أصبحت ذكري كما عبَّر من خلال فؤاد حداد في التَّصدير. ويقرُّ الغيطاني بأنَّه يجهل قوانين التَّذكر بقوله" حتي الآن لا أفهم قوانين الذَّاكرة ، لا أعرف ماذا يحرِّك محتوياتها ، لماذا تباغتني هذه الصُّورة دون تلك تطُلُّ علي شخصيات غابت تماما أري اللحظة مثبتةً ، لا أري الحركةً". قوانين الذَّاكرة لا يفهمها الغيطاني إلا بالتَّجربة ولا يفهمها كذلك أي إنسانٍ ، وقد تفهم علي مدي التَّذكر وهل يستطيع الإنسانُ تذكر ما كان يحدث منذ عشر سنوات ، فهو لو استطاع التَّذكر فبالتَّأكيد ستضيع منه بعضُ الملامح. وهنا نلمح مدي الدِّقة في الانسجام النَّفسي بين عتبةِ التَّصدير وما دوَّنه الغيطاني في نثار المحو من خلال تلك المقاطع السَّرديَّة المختلفة التي خيَّم عليها الشَّجَنُ ، فهي إشارةٌ وامتداد للتَّصدير. وكذلك نجد الذَّاكرة تلتقط مشاهد البيوت والدَّكاكين وغيرها من الأشياء التي تتذكرها بقوله" كافة تلك المفردات التي رسا بعضها عندي دون التَّعرف عليها إلا في أزمنةٍ متأخرةٍ ، خاصة المباني القديمة ، كل هذا يدور حولها ، في فلكها ، تلك الوقفة التي تجعلني أتمهَّلُ عند المرور أمامها". يقف عند تلك البيوت ليأخذ منها ما يجعله يتذكر الباقي فهناك شيءٌ يؤدي إلي تذكر شيءٍ آخر ويشير إليه ، وكأنَّه يقومُ بمساعدة الذَّاكرة التي تتذكر ذكريات حياتها ، ويكمل هذا المقطع السَّردي للذَّاكرة بقوله " تلك الوقفة التي تجعلني أتمهل عند المرور أمامها ، وثمة وشائجٌ غامضةٌ تصلني بها ، أمام الرَّغبة في إطالة النَّظر والتملِّي فلم تشبع قط ، حاولت عند مواجهة ما يمكن أن يذكرني بها". يقترب من تذكر أكثر الأشياء من خلال الأشياء البسيطة التي يقف أمامها ، فيحاول من خلال الجزء الوصول إلي الكل. فالذَّاكرة بمفردها حياة أخري يجب أن تدرس من خلال العديد من النَّواحي وخاصة النَّاحية النَّفسية؛ لأنَّ الإنسان إذا ما أراد أن يتذكر موقفاً بعينه أو حادثاً كان قد مرَّ به ، فإنَّ هذا الموقف أو ذلك الحدث ارتبط نفسياً بشيءٍ في نفس الكاتب ، أثّر عليه إمَّا بالسَّلب أو بالإيجاب وهو الأمر الذي تستطيع الدِّراسات النَّفسية أن تجيب عليه. وكثيراً ما يتساءل الغيطاني في نثار المحو عن الزَّمن ، وكأنَّه يريد أن يستفسر عن أشياء صعب عليه فهمها وهو بالفعل كذلك ، فحين يقول "هل يمكن تعيين الحدود في الزَّمان؟ تماماً كما يتم تحديدها في المكان؟ هل يمكن الإشارة إلي نقطة ما في العالم المحسوس ، نقول: تلك لحظةٌ فاصلةٌ بين عامين. أو قرنين أو عصرين؟ أو لحظة بين لحظتين". فهو بذلك يبحث عن المستحيل يبحث عمَّا هو خارج حدود البشر ، ولكنَّه يستطيع ذلك في الصُّوفية من خلال الزَّمن الروحاني الذي يجعل أحد الصُّوفيين يذهب إلي دولة أخري ويعود في فراشة في الليلة نفسها دون أن تبدو عليه علامات السَّفر. وبالتَّالي فهو يحاول ربط الزَّمن الحادث بالزَّمن الصُّوفي المتغلغل في شخصيته، ومشكلة الزَّمن لديه هي مشكلةٌ مستعصيةٌ علي الإدراك." إنَّ التَّصدير الذي صدره الغيطاني في بداية هذه الرِّواية هو أفضل وأكبر عتبة ارتبطت بالرِّواية ارتباطاً كلياً علي الرَّغم من أن التَّصدير ما هو إلا ثلاث كلمات " كأن الحياة ذكري " فالحياةُ أصبحت ذكري الآن وبعد مرور ذلك العمر والعمل في الصَّحافة والعمل علي الجبهة كمراسل حربي وصحفياً محترفاً وأطلق عليه وزملائه من قبل وما زال جيل الستينيات ، ومن ينتمي إلي هذا الجيل يعرف أنه كان متميزاً في أعماله. وحتي الآن وهم يفاخرون بذلك. بين مارسيل بروست وجمال الغيطاني إذا كان مارسيل بروست الرِّوائي الفرنسي قد أحدث انقلاباً جذرياً في كتابة السِّيرة الذَّاتية من خلال روايته " بحثاً عن الزَّمن الضَّائع " والتي ظل يكتب فيها لمدة عشرين عاماً و أمدَّ الكتابة الحديثة بثروةٍ هائلةٍ من التَّقنيات الرِّوائية؛ حيث جعل من حياته نفسها عملاً أدبياً خالصاً وكان كتابه هذا نموذجاً عنها ، وأنَّ عنصر الزَّمن تحديداً أصبح ذكري له وللغيطاني ، فإنَّ الغيطاني أحدث الأثر نفسه في العالم العربي من خلال دفاتر التَّدوين ، والتي اعتبرت فناً أدبياً راقياً للسِّيرة الذَّاتية ، تجلت إبداعاتها من خلال التَّجربة الصُّوفية الرَّائدة ، التي شكَّلت حالةً رائعةً للزَّمان الذي عاشه. لقد اشترك الغيطاني الرِّوائي المصري مع الرِّوائي الفرنسي فكرياً في ثلاثة أشياء وهي : الزَّمن ، والمرأة ، وصوفية العمل. فالزَّمن عند الغيطاني له أيديولوجية في العمل الرِّوائي وله فلسفةٌ ميتافيزيقيةٌ يحجُّ من خلالها مع ابن عربي وابن الفارض ، حيث العشق الزَّماني ، وما كان يدل عليه ، وإذا كان بروست قد اتخذ من ألبرتين حباً صادقاً ظلَّ مدافعاً عنه طوال حياته فإنَّ الغيطاني قد عشق الحمراء وتمثَّلها بكل أطيافها ، فأبدع في وصفها لدرجة أنه قد أعطي لنفسه أن كل من يراهن من النساء يشبهنها في جمالها الذي يخيل إلينا أنَّها من السماء جاءت ، وهو ما عبر عنه في دفتر التَّدوين المعنون ب " رشحات الحمراء". وإذا كان الغيطاني قد احتفي بصوفيته إلي أقصي درجة فإنَّ مارسيل بروست احتفي هو الآخر بصوفية من نوع آخر صوفية اللاهوت من خلال صوفية الذَّاكرة والتي هي الحياة الماضية إذاً ، هناك خيوطٌ رابطةٌ بين الغيطاني وبروست تكمن في تلك العناصر. ولكن هناك شيئاً عجيباً خفي لا يراه أحد وهو سر النُّبوغ عند الاثنين. فما سر النُّبوغ عند كلٍّ منهما؟. إنَّها الذَّاكرة الحديدية ، التي استطاع كلٌّ منهما التقاط الأحداث التي مرَّ بها فالتَّربية عند بروست كانت مدلَّلةً ، بينما الغيطاني كانت الحياة فيما يتعلق به بها صعوبة في التَّربية القاسية من قبل أبيه وأمه ، وشظف العيش الذي مثَّل له ركناً خاصاً في حياته ظلَّ معه مرتبطاً بالوسط الذي خرج منه حتي وإن وصل إلي القمةِ في أعماله الرِّوائية فهو يعيشُ مدافعاً عن أولئك المهمشين والفقراء الذين يسكنون الحارات وبجوار الأضرحة ، وفي الوقت ذاته لا ينسي ذاته ، ذلك أنَّه استطاع تدوين حياته وما مرَّ بها من عثرات في تلك الدَّفاتر ، والتي دونت له ذاكرته الحديدية ، المرتبطة بالزَّمن وتداعياته ، ومن ثَمَّ فقد اتضحت رؤية الغيطاني من خلال تصدير الرِّواية بقول فؤاد حداد " كأنَّ الحياةَ ذكري" .