« أمنيتي المستحيلة.. ان أمنح فرصة أخرى للعيش.. أن أولد من جديد لكن في ظروف مغايرة.. أجئ مزودا بتلك المعارف التي اكتسبتها من وجودي الأول الموشك على النفاد.. اولد وأنا اعلم ان تلك النار تلسع.. وهذا الماء يغرق فيه من لايتقن العوم.. وتلك النظرة تعني الود وتلك تعني التحذير وتلك تنبئ عن ضغينة.. كم من الاوقات لإنفقتها لإدراك البديهيات.. ومازلت أتهجى بعض مفردات الإبجدية». تلك كلمات في لحظات من التأمل والتوهج الروحي لمعاني الحياة وصروفها دوَّنها الكاتب الكبير «جمال الغيطاني» والذي يرقد حالياً في غيبوبة كاملة في مستشفى الجلاء العسكري.. هل كان يدرك المبدع الكبير مصيرنا البشري ونهايتنا المحتومة فتمنى ان يمنح حياة اخرى مزوداً بكل ما ادركه من بديهيات لعله يستطيع أن يعيش كشاب ألف عام أخرى؟ «جمال الغيطاني» المولود عام 1945 صاحب «الزيني بركات» «ووقائع حارة الزعفراني» و«البصائر في المصائر» يعد علامة فارقة في الادب العربي منذ ستينيات القرن الماضي، فالمكان والبشر وتداعيات الماضي بتفاصيله الصغيرة والبسيطة تكاد تدهشك ان يحولها مبدعنا الكبير «جمال الغيطاني» الى دلالات عن الهوية والوطن وسحر الماضي الذي يتمنى ان يعود، يكتب عنه الدكتور «سعيد توفيق» أستاذ الفلسفة بآداب القاهرة قائلاً: عايشت تجربة الغيطاني الإبداعية منذ بداية تجلياتها في تلك السلسلة من الأعمال البديعة الفريدة التي ظهرت تحت اسم «دفاتر التدوين»، فتأملت كل عمل من هذه الأعمال في مقال مخصوص. وقد بدت لي تجربة الغيطاني في تلك الدفاتر تجربة موصولة، يربطها خيط واحد: فهذه الأعمال التي يمكن أن تندرج تحت ما يمكن أن يُسمى «برواية السيرة الذاتية» تسودها روح واحدة تتمثل في السعي الدائم نحو التعرف على روح العالم واكتشاف أسراره، كما يتجلى في أعماق الذات وتتردد أصداؤه فيها. هى تلك الرؤية الفلسفية التي تدرك أن معاني الأشياء أو الظواهر (بما في ذلك الظواهر الطبيعية) ليست مستقلة عن الذات الإنسانية: فالأشياء كما تتبدى لوعينا، إنما هي الأشياء التي نعايشها ونلقاها في الحياة والتجربة الإنسانية الخصبة. «نثار المحو» هو دفتر التدوين الذي يحمل رقم خمسة في دفاتر التدوين التي خطاها الكاتب الكبير «جمال الغيطاني» فنثار تعني الذي مضى ولا يمكن جمعه وتفصيله، وإنما يمكن فحسب تكثيف ما بقى منه في ومضات تبدو وكأنها تدلنا على ذلك الذي انقضى، ولكنه لا يزال يرسل إشعاعه على حاضرنا. وكأننا نريد عندئذ أن نستبقي الذي رحل في نثاره وبقاياه، وفي ذلك يقول «الغيطاني» في لغة شعرية: «... حدة وعيي بانقضاء الأوقات منطلقي لتدوين تلك الدفاتر... تلك الشذيرات المتبقية من اندثار اللحظات، مجرد نثار تبقى من محو أتم لأويقات مررت بها، أو عبرتني، بعضها أنهكني، أمضني، منها المبهج لي، مرفرفي إلى الرقائق العلا. مع دنو التمام يختزل كل شيء، تتكثف الأزمنة في نثيرات تشهب بي، تفوتني ولا تمكث، لو قصصت أمرها على من تبقوا وصبروا على قُرباي لتعجبوا وأخذتهم دهشة، ذلك نثاري، ما تبقى مني عندي». «نثاري أصداء رغبة. خوف، توق، حزن، اشتياق، ظلال غير مدركة لندى تكون على خبايا الروح، أفقي العميق مزدحم بأنات لم تُسمع وآهات لم تصدر وهسيس كواكب ولمعة نجوم قصدتها بالبصر الحسير يومًا ما». هذا النثار حسبما يفسره لنا الدكتور «سعيد توفيق»: يتمثل في استرجاع كل شيء حميمي تداعى يومًا ما على خبرة الذات، وبقى قابعًا هناك في الأعماق، وهذا التدوين مقاطع من تأملات واستبصارات تتخللها على الدوام تساؤلات لا تتوقف، وفي كل ذلك يظل الزمن هو الأصل والمرجع لكل تأمل وتساؤل. «ذلك الذي كنته ولم أعد أكونه، عدة مرات كنته وتباعدنا، انفصلنا عن بعضنا، ماذا يربط كل منهم بذلك الذي أكونه الآن، الآن ما الذي يربطني بذلك الذي سأكونه؟ أي وشائج خفية؟» يصف الدكتور «سعيد توفيق» هذا البوح الابداعي للكاتب الكبير «جمال الغيطاني»: أي نص بديع هذا الذي يصور فيه «الغيطاني» ذلك الذي ينمحي بأن يصير إلى الماضي، ولكنه مع ذلك يظل حاضرًا في ذلك الذي أكونه الآن. ذلك عمل الذاكرة التي تصل لحظات الزمان: لحظات الماضي البعيد المتفرقات، ولكن الذاكرة ما زالت تبقيها حية في الحاضر. ويزداد الموقف عمقًا عندما نسأل عن صلة هذا الماضي (الممتد في الحاضر) بالمستقبل الذي سيكون عليه المرء. إنه سؤال الزمان الذي يفعل أفاعيله بنا، ولا نعرف أين تكمن الصلة بين لحظاته الثلاث: الماضي الذي فات وانعدم، والحاضر الذي سيمضي ويصير إلى العدم، والمستقبل الذي ما زال معدومًا لا وجود له بعد. تُرى هل يكون العدم هو ما يربط كل لحظات الزمن؟! عبارة: «ذلك الذي كنته» تعني أنني لم أعد ذلك الذي كنته... لقد تجاوزته، ومع ذلك، فإن ما مضى يبقى حاضرًا في «الآن»، أعني في اللحظة الحاضرة. تقصر أو تطول اللحظات التي يستدعيها الغيطاني. قد تستغرق أحيانًا صفحاتٍ طوالاً، وقد لا تستغرق سوى سطرين أو حتى سطر واحد! ولكنها تظل دائمًا مفعمة بالدلالات الموحية: يصور الغيطاني روح العصر الذي كان، بدءا من وصفه للتفاصيل الصغيرة التي ميزت مرحلة التعليم الأوَّلي التي عشناها في الصبا في مرحلة الخمسينيات والستينيات، بدءا من الطعام الذي كان يُقدم لنا في المدارس، والأساتذة الذين كانوا يدرسون لنا. كان هؤلاء الأساتذة لا يكتفون بتعليم طلابهم، وإنما كانوا يبثون في نفوسهم الروح الوطنية: كالأستاذ رضوان الذي يَذكُر الغيطاني أنه كان مثالاً حيًا على الوطنية، وخاصةً حينما كان يشدو أمام طلابه بالأغنية التي تشدو بها أم كلثوم: مصر التي في خاطري، وفي فمي أحبها من كل روحي ودمي كان هذا الأستاذ يؤكد لطلابه قولاً وفعلاً أن هذه الأغنية تعلمنا من التاريخ أكثر مما تعلمه كتب التاريخ التي قررتها الوزارة. كان هذا الأستاذ (وأقرانه فيما مضى) مثالاً حيًا على الوطنية والصدق والإخلاص، وهو ما كان يتبدى بوضوح حينما يتغني بهذه الأبيات بكثير من الصدق والشجن. يصور الغيطاني روح الوطن- كما تجلى في عصر مضى- من خلال تفاصيل أخرى عديدة تتجلى في المدرسة التي تعلم فيها، والحارة التي سكن فيها، والأشخاص الذين عرفهم في صباه. بل يصور الغيطاني روح العصر متجليًا في أم كلثوم، وفي الاحتفالات الدينية، وفي مسارات العربات الخضراء التي يجرها بغلان، والتي كانت تُسمى «سوارس» (نسبة إلى اسم صاحبها اليوناني)، فضلاً عن مسار الترامويات التي ترتاد أحياءً بعينها، والتي يشاهدها شباب اليوم في أفلام السينما. حتى في صنوف الطعام يتجلى شيء من روح العصر: فحتى «طبق الفول» الذي يصفه لنا الغيطاني بكل تفاصيله وملحقاته، والذي كان أبوه يجلبه معه بعد صلاة الفجر من عند «أبو حجر»، هذا الطبق كما يصفه لنا الغيطاني تحت عنوان «أبو حجر» يجسد لنا شيئًا من روح مصر فيما مضى. وهذا هو «المسكوت عنه» في النص.. هو الموحى به من بعيد. وحتى لاتتسرب الذكريات والاماكن وعيون من التقى بهم عبر حياته الثرية والمغايرة كتب «جمال الغيطاني» يومياته في جريدة الاخبار بشكل اسبوعي وكأنه لايريد ان تفلت من بين يديه الاحداث التي عاشها او سنوات الزمن التي انقضت وهي يوميات أشبه بلوحة ابداعية مكثفة تتداعى فيها شواهد الماضي دون تغيب تصاريف الحاضر وتأملها وإبداء الرأي فيها، يكتب في يومياته بتاريخ الثلاثاء 2 يناير 2007 م: البناء فلسفة مصرية قديمة، انطلق من رفض العدم، من مغامرة الانسان الروحية وتعلقه بالحياة الي الدرجة التي يخيل لها امتدادا ابديا، اكتشف المصريون القدماء وجود الخالق، المحرك، المدبر، ادركوا ان هذا الوجود لم يأت من فراغ ولا يمضي الي فراغ، ادركوا ان الحياة الانسانية محدودة، لكن الوجود الانساني غير محدود، لذلك حاولوا مقاومة العدم بالبناء، بالعمارة، وهذا حديث سأعود إليه مرارا، الهم الرئيسي للمصري ان يبني، يبني بيتا، يبني مقبرة، اذا كان قائدا أو صاحب امكانية يبني صرحا، يبني رمزا، يبني للزمن الذي لن يسعي فيه، احيانا يكون البناء شاهقا، جميلا، واحيانا يكون قبيحا بلا خطة، لكنه بناء علي اية حال، ولكل عصر مقتضاه. في تصوري ومعي آلاف ممن قرأوا للمبدع الكبير «جمال الغيطاني» انه عاش وكتب أوراقاً تكفي من عاش ألف عام من الابداع وصناعة الجمال فعالمه الساحر المفعم بالتفاصيل الصغيرة شكلت رحلته وجعلته يكون عبر سنوات منمنمات في حب الوطن والبشر، فهو يختم احدى يومياته بحكمة للصوفي الكبير «ابن عطاء الله السكندري»: من اشرقت بدايته اشرقت نهايته فلازلت ايها المبدع الكبير مشرق البدايات امد الله في عمرك موفور الصحة.