قد يكون من الملائم، قبل التطرق إلى تدوين الغيطاني الأخير بعنوان «حكايات هائمة»، أن أنوِّه أولًا إلى تجربة الغيطاني الأدبية التي أسماها «دفاتر التدوين»، وهي التجربة التي عايشتها معه- من خلال قراءة نقدية خاصة- منذ بدئها في عام 1996: فعايشت معه تجربة الوجود الأنثوي المرتبط بمكان ما وبمعمار ما في تدوينه «خُلْسات الكرى»؛ وتجربة السفر (بالقطار) في حنايا الوجود في تدوينه « دنا فتدلى»؛ وتجربة وجود العدم أو حضوره المقيم في تدوينه « رَشَحات الحمراء»؛ والنفاذ إلى اللامرئي من خلال المرئي عبر نوافذ الروح في تدوينه «نوافذ النوافذ»؛ وومضات الزمن التي تشع وتستبقي المعدوم والمنقضي في تدوينه «نثار المحو»؛ وأصداء الوجود التي ترن في «كتاب الرن» (وكلمة «الرن»- بالمناسبة- تعني «الاسم» في اللغة المصرية القديمة، والدلالة المقصودة هنا هي الاسم الذي يستحضر وجودًا ما، ويرتبط بعالم ما). ولقد جمعت قراءاتي لهذه الدفاتر في كتاب بعنوان «عالم الغيطاني: قراءات في دفاتر التدوين». ولكن بعد صدور كتابي هذا، فاجأنا الغيطاني بدفتر سابع بعنوان «من دفتر الإقامة». والسؤال الذي انشغل به الغيطاني في هذا الدفتر هو: «كيف أكون هنا وهناك في آن؟» فمازال هذا السؤال ينتمي إلى سؤال الذاكرة التي تستدعي المكان مكتنفًا بالزمان وأحداثه التي تبقى معنا، وإن فارقناه. ومن الواضح أن حرف «من» في عنوان هذا الدفتر يوحي بأن الدفاتر لا تزال موصولة، وكما توقعت أو تنبأت من قبل أنها لن تنتهي.. كنت أعرف هذه الحقيقة، ولذلك فإنني لم أُفاجأ بصدور تدوينه الأخير بعنوان «حكايات هائمة»، وإنما الذي أدهشني هو توالي إصدارات هذه التدوينات عبر سنوات قليلة، بعد كل ما أشبعنا به الغيطاني من كتابات عن تجارب فريدة ثرية. تساءلت: من أين يأتي هذا الفيض؟! من أي مخزون هذا الذي لا ينضب معينه؟! أم أن أسلوب الغيطاني في الكتابة هو الذي يتيح ويفتح باستمرار أفقًا وعالمًا في الكتابة قابلاً للتجدد باستمرار: كتابة الذات.. رؤية الذات للعالم. نعم، فقد تعلمت أنا شخصيًا ذلك من الغيطاني، وفتح لي هذا الأسلوب- بجانب ما تعلمته عنه من الدرس الفلسفي النظري- بابًا للكتابة عن تجربتي الخاصة التي أفصحت عنها في كتابيَّ «نشيج على خليج: حكايات وافد على بلاد النفط» و «الخاطرات: التأملات الأولى في ظاهرات الحياة والوجود». لا أريد أن ينصرف الحديث عن الغيطاني إلى حديث عن نفسي. أريد أن أتوقف عند تدونه الأخير. ولكن قبل ذلك أريد أن أفصح عما قاله لي الغيطاني نفسه ليجيب عن سؤالي السابق؛ إذا قال لي: لا تنس يا صديقي أن تجربتي في الحياة تجربة عريضة فيها متسع لكل شيء! نعم هو محق في ذلك، ولكن لا ينبغي أن ننسى أيضًا أن بعضًا من الناس تكون لهم تجربة واسعة في الحياة، دون أن يكونوا قادرين على استقطارها في مشروع أدبي مفتوح باستمرار. حقًا إن مشروع الغيطاني قد اكتملت ملامحه، ولكن أسلوبه الخاص في الحكي الذي يتجاوز الأنواع الأدبية التقليدية المتعارف عليها، هو ما يظل مفتوحًا باستمرار. قلت من قبل إن نهج الغيطاني في سائر تدويناته يسلك سبيله- دون وعي منه- وفقًا لمنهج «التأمل الانعكاسي» Reflection في الفينومينولوجيا أو الفلسفة الظاهراتية التي ارتضيتها أنا أيضًا منهجًا في التفكير والبحث والكتابة. فالتأمل الانعكاسي يعني ببساطة تأملاً لمعنى شيء كما يظهر للوعي، من خلال استدعائه بطريقة قصدية ليبق أمام الوعي الذي يريد أن يفهم معنى خبرته ويسبر حقيقة موضوعها، وهو منهج يختلف اختلافًا عميقًا عن طريقة الاستبطان Introspection التي يصف فيها المرء ما يجول بخاطره إزاء حادثة ما أو واقعة من الوقائع الجزئية. فهذا المنهج- بخلاف ذلك- لا يُعنى بالواقعة الجزئية بما هي واقعة جزئية تخص شخصًا ما، وإنما يعنى «بمعنى» واقعة ما تحدث في خبرة الشخص، ولكنها تحدث أيضًا في خبرات الآخرين.. هذا المنهج في البحث والتأمل هو لب الفلسفة الفينومينولوجية التي يمارسها الغيطاني دون أن يعرف حقيقتها مسبقًا، وحينما أطلعته على هذا الأمر، وجدته يفتش عن ذلك في الكتابات الفلسفية التي تتعلق بالدراسات الفينومينولوجية في مجال الفن لدى فلاسفة عظام من أمثال: هوسرل وهَيدجر وسارتر وغيرهم، وكأنه يريد أن يتعرف على أصوله الفلسفية البعيدة التي ينبع منها... يريد أن يتعرف على الصلة الحميمة بين نهج الفن ومنهج الفينومينولوجيا التي أفصح عنها هوسرل في مضمار كتاباته عن التفاصيل الأخرى لهذا المنهج التي بلغت أربعين ألف صفحة. منهج التأمل الانعكاس الذي هو عماد الفينومينولجيا على مستوى الدرس النظري، والذي نجده ماثلاً في كتابات الغيطاني على مستوى الدرس الأدبي الإبداعي، هو ما دعاني في مواضع كثيرة من الدرس الفلسفي أن أحيل الطلبة الذين أدرس لهم الفلسفة إلى أن أستعين أحيانًا بفقرات من كتابات الغيطاني، لعلها تجسد لهم في عمليًا في الأعيان ما عرفوه نظريًا في الأذهان. هذا النهج في الكتابة شائع في تدوينات الغيطاني التي تحمل عنوانا رئيسيا هو: «دفاتر التدوين». ونحن نلاحظ- في الوقت ذاته- أن الغيطاني لم يضع هذا التدوين الأخير «حكايات هائمة» تحت هذا العنوان الرئيس، وكأنه أراد أن يميزه عما قبله، فلا يعده دفترًا ثامنًا . فما الذي يميز هذا التدوين عن غيره؟. أول ما يميز هذا التدوين أنه تدوين جامع: فيه شيء عن تجليات الوجود الأنثوي، وشيء عن السفر بالروح وحدها عبر الوجود، وشيء من رشحات الوجود الأنثوي دون اقتصار على مرجعية واحدة لامرأة تشبه الحمراء، وفيه شيء عن «الزمكانية» (أو الوجود الذي يقع في زمان ومكان ما)، لا من خلال النوافذ الفعلية الواقعية التي تطل منها الروح على العالم، وإنما من خلال نوافذ الروح نفسها التي تُطلعنا على العالم اللانهائي دون واسطة من النوافذ الفعلية التي نطِّل منها على العالم الخارجي المؤطَّر بمكان معلوم يكتنفنا؛ وفيه شيء من الافتتان بسطوة «الاسم» في «كتاب الرِّن»؛ ولكن الاسم في هذا التدوين الأخير يبقى في إطار «ما يضيق عنه نطاق النطق» على حد تعبير الإمام الغزالي الذي يُعد من كبار أئمة الصوفية في تاريخ الفكر الإسلامي. ولكن ما يميز هذا التدوين عن غيره هو أن هذا الطابع الصوفي حاضر فيه بكثافة. كيف يكون هذا الطابع حاضر بكثافة في تدوين يربو على خمسمائة صفحة؟! تدوين الغيطاني يجيبنا عن هذا السؤال؛ إذ نجد أن تأملاته مكثفة مقتضبة، وكأنها إشارات وتلميحات صوفية تكتفي ببلوغ الفهم والمعنى المُرَاد دون تعيين. ولكن هذا الكلام يظل كلامًا يتعلق بالتنظير دون أن يغوص في نصوص الغيطاني نفسها. لا نستطيع في هذا المقام أن نفعل ذلك، ولكن بوسعنا أن نشير إلى ما يمكن أن يُعد مدخلًا لفهم عمق تلك النصوص. بوسعنا أن نشير إلى أسلوب جديد من أساليب الكتابة عند الغيطاني؛ إذ نجد أن أسلوب الحكي هنا فيه الكثير من أسلوب الحكي في «ألف ليلة وليلة»؛ حيث نجد أن الخيال والخيالي حاضران بقوة في هذا الحكي. ويكفي أن نطالع في تقديمه هذا التدوين قوله: «هذه حكايات هائمة في الذاكرة، بعضها ربما تكون له أصول في الواقع، إلا أنه يصعب تحديدها، وبعضها توهم محض، المصادر المذكورة لا أصول لها، ربما فُقدت إلى الأبد، وربما لا توجد إلا في مخيلتي.» ولذلك يتكرر عنوان «حكايات سديمية» أو «سديم» في فصول التدوين. والسديم هو ما كان يسميه بعض قدماء فلاسفة اليونان «الأبيرون»، وهو اللامتعين باعتباره الأصل الذي منه نشأ كل شيء مادي متعين. هذا اللامتعين اتخذ عند الغيطاني طابعًا صوفيًا باعتباره ذلك الذي لا يمكن تحديد كنهه- رغم أنه يكون حاضرًا ومتجليًا في كل شيء- هو موضوع حكايات الغيطاني الهائمة، والتي لا نستطيع أن نمسك بها أو نحيط. وهناك سمة أخرى تميز أسلوب الحكي عند الغيطاني في هذا التدوين، هو اللجوء إلى الشذرات للتعبير البليغ المقتضب الذي يُلمِّح ولا يصرح أبدًا، وتلك لغة الصوفية في الكتابة وفي الأناشيد أيضًا. ولذلك نجد الغيطاني يلجأ في هذا التدوين إلى نصوص لبعض كبار المتصوفة. هذه اللغة سائدة في سائر التدوين على نحو يضارع لغة المتصوفة أنفسهم، بحيث لا يمكن للقارئ أن يميز بين نصوص الغيطاني ونصوص الصوفية المقتبسة إلا من خلال الإشارة إلى صاحبها التي يضعها الغيطاني أسفل النص. ولا يخلو نص من نصوص الغيطاني الكثيفة المقتضبة من أسئلة الوجود. بل إن كلمة «الوجود» نفسها حاضرة كعنوان لبعض نصوصه، مثل نصه بعنوان «كتاب الوجود»، ونص آخر بعنوان «وجود» يقع في سطرين على النحو التالي: «سأل سيد الأرضين: هل كان الوجود سيوجد لو أن الإنسان لم يوجد؟ تطلع تحوتي، رأس الحكمة محدقًا، طال صمته، لعلها المرة الأولى التي لم يجب». فهل هذا التدوين جامع لنصوص في الفلسفة أم في الأدب؟ لا نستطيع المفاضلة أو الاختيار؛ لأننا نجد أنفسنا إزاء نص أدبي ممتزجًا بطابع فلسفي صوفي. والمدهش في هذا التدوين أنه يسأل أسئلة الوجود الفلسفية دون أي تنظير، وإنما يكشف عن هذه الأسئلة كما تتجلى في أكبر الأشياء وفي أصغرها، بل في الأشياء المألوفة التي اعتدنا أن نراها في حياتنا اليومية، ويكفي هنا أن نشير إلى نصوصه العديدة في هذا التدوين عن «الكتب» و»الشجر» و»اليمام» والطير والبحر وأسماك السالمون، وغير ذلك من الأشياء المألوفة في الحياة التي لا تسترعي انتباه الناس، ولا يتصورون فيها دلالات عميقة على الوجود نفسه. هذا هو الإبداع الحق الذي يكون وليد الدهشة؛ ذلك أن دهشة المبدع لا تكون إزاء اللامألوف كما نتوهم عادةً، بل هي دهشة إزاء المألوف، أما الدهشة إزاء اللامألوف فهي دهشة عموم الناس حينما يأتي شيء ما على خلاف ما أَلِفوه واعتادوا عليه؛ ولذلك فإنهم يستغربونه. سمة أخرى طاغية في أسلوب الحكي عند الغيطاني في هذا التدوين، هي المعرفة التي تتكشف لنا من خلال الخبرة المعيشة دون أي تصورات مسبقة عن العالم: فنحن هنا لا نجد أنفسنا أمام السارد العارف، وإنما أمام السارد المتسائل الذي نكتشف معه معالم الطريق كلما سرنا فيه. يقول الغيطاني في نص من سطر واحد بعنوان «نصيحة»: «قال تحوتي: لا ترسم لي الطريق، لا تحدده مسبقًا، اسلك أولاً، وستتضح معالمه. سيوجد..» هذا هو بالضبط معنى الطريق عند هيدجر الذي أفصح عنه في كتابه «على الطريق نحو اللغة»: فالطريق عنده يشبه «المدقات» التي يصنعها وقع أقدامنا في دروب الغابة أو متاهاتها، والتي من خلالها يرتسم الطريق من خلال خبرة فيها طابع المعاناة. هذا الطريق هو طريق الفكر الذي يسير فيها الفلاسفة والشعراء والأدباء. وكل هذا هو ما يجعلني على اقتناع بأن كل أدب عظيم ينبع من روح التفلسف.