صور.. تفاصيل زيارة رئيس الأركان إلى تركيا لبحث التعاون العسكري    جامعة بنها تنظم المهرجان الأول لتحالف جامعات إقليم القاهرة الكبري للفنون الشعبية    جامعة القاهرة تبدأ استعداداتها لاستقبال مكتب تنسيق القبول بالجامعات والمعاهد    مؤشرات البورصة المصرية تتراجع أكثر من 1% خلال أولى جلسات الأسبوع    الدفاع الهندية: الضربات الباكستانية كانت عشوائية واستهدفت مراكز دينية ومدنيين    وزير الخارجية يجري اتصالين هاتفيين مع وزيرى خارجية الهند وباكستان    ريمونتادا في الشوط الأول.. برشلونة يقلب الطاولة على ريال مدريد    الرياضية: النصر يقترب من الموافقة على رحيل لابورت    الوجه الآخر.. مانشستر يونايتد وتوتنهام يواصلان السقوط في الدوري الإنجليزي    مصدر مقرب من اللاعب ل في الجول: عمر فايد يرغب باستمرار مشواره الاحترافي    "توصيات لجنة التخطيط".. تفاصيل زيارة بيوليس للزمالك ومنصبه المحتمل وحضور مباراة بيراميدز    جنى يسري تتألق وتحرز برونزية بطولة العالم للتايكوندو للناشئين تحت 14 سنة    تفاصيل اتهام موظف بالكهرباء لفنان شهير بإصابته في حادث كرداسة - مستند    طرح 3 شواطئ بالإسكندرية للإيجار في مزاد علني| التفاصيل والمواعيد    بدء ماراثون الامتحانات..موعد اختبارات الترم الثاني 2025 لصفوف النقل    الليلة.. انطلاق حفل افتتاح مهرجان المسرح العالمي    ترقية في العمل ومكافأة.. توقعات برج الثور في النصف الثاني من مايو 2025    حين رفض صنع الله إبراهيم جائزة ملتقى الرواية.. جدل لا ينتهى حول موقف المثقف من جوائز الدولة    الصور الأولى من فيلم هيبتا: المناظرة الأخيرة    تسوس وتصبغ الأسنان- ما الفرق بينهما؟    القاصد يشهد حفل ختام الأنشطة الطلابية بجامعة المنوفية الأهلية ويكرم المتميزين    "ليسيه الحرية" يشهد حفل افتتاح الدورة الرابعة من مهرجان المسرح العالمي    نائبة التنسيقية: قانون تنظيم الفتوى يضع حدًا لفوضى الفتاوى    مياه البحر الأحمر: العمل على مدار الساعة لسرعة الانتهاء من إصلاح خط الكريمات    وزير الصحة يؤكد دعم الدولة المصرية لمهنة التمريض: ذراع أساسي للمنظومة الطبية    ضمن الموجة 26 بقنا.. إزالة 8 حالات تعدٍ على الأراضي الزراعية بمركز الوقف    السكرتير العام المساعد لبني سويف يتابع سير منظومة العمل بملف التصالح بالمركز التكنولوجي في الواسطى    انطلاق قافلة دعوية مشتركة بين الأزهر الشريف والأوقاف    خلف الزناتي: تنظيم دورات تدريبية للمعلمين العرب في مصر    التصريح بدفن شاب لقى مصرعه غرقا في مياه نهر النيل بأطفيح    هشام أصلان يرصد تجربة صنع الله إبراهيم ومحطات من مشروعه الأدبي    ضبط طالب تعدى على آخر بسلاح أبيض بسبب مشادة كلامية في الزاوية الحمراء    وزير الخارجية الإسرائيلي: حرب غزة مستمرة للأبد إذا بقيت المساعدات بأيدي الفصائل الفلسطينية    محافظ الأقصر يتفقد أعمال فتح أكبر شارع بمنطقة حوض 18 بحى جنوب    محافظ الشرقية يشهد حفل أداء القسم لأطباء الأسنان دفعة 2023    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي، أم يجوزُ لي تأجيلُه؟.. الأزهر للفتوى يوضح    وفاة سيدة أثناء ولادة قيصرية بعيادة خاصة فى سوهاج    نجم نيوكاسل ينافس محمد صلاح بقائمة "ملوك الأسيست" في الدوري الإنجليزي    مدرب منتخب غانا قبل مباراة مصر: جاهزون لمواجهة التاريخ    تأجيل محاكمة 41 متهم ب "لجان العمليات النوعية بالنزهة" استهدفوا محكمة مصر الجديدة    جدول امتحانات الصف السادس الابتدائي في القليوبية 2025    وزير الخارجية يؤكد على موقف مصر الداعي لضرورة إصلاح مجلس الأمن    القاهرة الإخبارية: الاحتلال الإسرائيلى يواصل قصف الأحياء السكنية فى غزة    ارتفاع أسعار المطاعم والفنادق بنسبة 14.2% على أساس سنوي خلال إبريل الماضي.. و4.1% على أساس شهري    ارتفاع كميات القمح المحلي الموردة للشون والصوامع بأسيوط إلى 89 ألف طن    مرشح حزب سلطة الشعب بكوريا الجنوبية يسجل ترشحه للانتخابات الرئاسية    محافظ الدقهلية يحيل مدير مستشفى التأمين الصحي بجديلة ونائبه للتحقيق    ماذا يحدث للشرايين والقلب في ارتفاع الحرارة وطرق الوقاية    استئناف المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين في جنيف    عاجل- البترول تعلن نتائج تحليل شكاوى البنزين: 5 عينات غير مطابقة وصرف تعويضات للمتضررين    1500 فلسطيني فقدوا البصر و4000 مهددون بفقدانه جراء حرب غزة    ضبط 103 مخالفات تموينية في حملات مكثفة لضبط الأسواق بالفيوم    كندا وجرينلاند ضمن قائمة أهدافه.. سر ولع ترامب بتغيير خريطة العالم    النسوية الإسلامية (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا): مكانة الأسرة.. فى الإسلام والمجتمع! "125"    ما حكم من نسي الفاتحة أثناء الصلاة وقرأها بعد السورة؟.. أمين الفتوى يجيب    أمين الفتوى يحذر من الحلف بالطلاق: اتقوا الله في النساء    هل للعصر سنة؟.. داعية يفاجئ الجميع    الدوري الفرنسي.. مارسيليا وموناكو يتأهلان إلى دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجليات الحياة والموت
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 05 - 2015

يمكن دراسة هذه الرواية بأكثر من طريقة وفقا لما تعنيه بالنسبة لمؤلفها أو للقراء المحتملين الذين لم يكتفوا بقراءة النص في ظل غياب أي رؤية تفسيرية الأمر الذي يبقي مع ذلك ممكنا. ويندرج هذا النص ضمن مجموعة أعمال يحاول مبدعوها المختلفون جدا فيما بينهم أن يبتكروا فيها أشكالا متطورة من الكتابة. نتذكر بالتأكيد الحائز علي جائزة نوبل نجيب محفوظ وأيضا صنع الله إبراهيم، المقرب جدا من جمال الغيطاني، كذلك إلياس خوري، إميل حبيبي أو إدوارد الخراط، تمثل نصوص هؤلاء الكتاب تغيرا في الشكل وفي المضمون. وهو ما نجده علي سبيل المثال في أسلوب الغيطاني المميز جدا فيما يخص استخدام الاستعارات المتعددة والتنويع الكبير في التشبيهات: كل عنصر يعود الي سلسلة شبه لا نهائية من عناصر أخري عن طريق الانتقالات المتتابعة للمعني(...).
يمكننا أيضا، وهذا ملمح بوسع قراء فضوليين محتملين التوقف عنده، دراسة توظيف الألوان في هذا العمل الذي كتبه صانع قديم للسجاد تعلم فن الصبر خلال ست سنوات هي مدة عمله في هذه الصناعة. الإشارات الي فن العمارة، المتكررة جدا في "متون الأهرامات" يمكن أيضا الكشف عنها لأنها هي أيضا عنصر مهم ومحجوب بشكل كامل في عملية الكتابة.
انطلقنا من إشكالية ترتبط بالنقل الاجتماعي المعاصر. ما هو الشكل الذي اختاره الكاتب لينقل أو ليسجل أفكاره التي يريد أن ينشرها؟ كيف تحقق التماسك في حكايته وهل تم ذلك ضمن الشكل الروائي كما تم تعريفه في الغرب؟ ولطرح مثل هذا السؤال لابد من الانطلاق من فكرة أننا لا نعرف مقدما، حتي لو قيل لنا ذلك النوع الذي يسبك فيه النص، إذن من الارتياب في التوضيحات التي يقدمها الكاتب، أن نرتاب حتي في ارتيابه هو. فبعد كل شيء يبقي لنا الحق في التساؤل. هل هذه الرواية رواية أم سيرة متخيلة أم هي ببساطة سيرة ذاتية؟ ربما لن يصنفها كل القراء في فئة واحدة بعينها، وربما يعتبرها البعض مزيجا من هذا كله كما حدث مع "نجمة" كاتب ياسين التي كانت في الوقت نفسه رواية، سيرة ذاتية، ملحمة دولة ورسالة هجاء سياسية.
يقودنا هذا السؤال الشكلي إلي مستوي ثان من الأسئلة تتعلق بالمضامين المتتابعة للنص فكان لزاما اختبارها. إننا في الواقع داخل سياق تاريخ الأشكال الأدبية وتنويعاتها. الغيطاني روائي سيضع حكاية في قوالب وصياغات. سيبدع إذن شخوصا ومتواليات أحداث ستشكل سردية النص. هكذا سنجد تحققا ظاهرتيا للنص نتج أولا من خلال متطلبات اللغة وهو يمثل أول أنظمة التشكيل، ثم عبر النوع الذي تم اختياره والملائم للوسط الاجتماعي الذي يتطور داخله.
رواية تعني بالبحث عن الأب مثل رواية الغيطاني هي علي النقيض من رواية تسعي الي تدمير نفس هذا الأب، أن تقتله مرة ثانية كما نجد ذلك عند عبدالحق سرحان في رواية "مسعودة" بعد أكثر من محاولة خجولة لادريس شرابي. يمنح الكاتب/ الابن إذن في نوع من الكتابة التنفيسية الفرصة للثأر من الأم بعد وفاتها. يمكن أن تتوفر لدينا نصوص تستدعي كامو، اللامبالاة لوفاة الأم كما في تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم، أو علي العكس، التبلد الكامل للحس تجاه موت الأب. كل الألعاب البنيوية ممكنة. ويكمن هنا شروط انتاج الملفوظات التي تدفع النص بقوة نحو الأعالي كما أن من الممكن لتنوع الاستجابات أن تدفعه بقوة الي الأسفل. وقد كان يتعين بعد ذلك التساؤل عن التماسك الداخلي لهذا المنتج.
نحن بصدد رواية سيرة ذاتية وليست رواية لسيرة متخيلة. هي ليست سيرة متخيلة حتي لو كانت الشخصية الأساسية للحكاية مشتركة مع المؤلف علي الأقل في الاسم، في الواقع، نحن لا نبدع تخيلا لأحداث تقدم كوقائع حقيقية. يتعلق الأمر بما يعرف في الانجليزية باعتباره تخيلا مبنيا علي وقائع fact-fiction. ليس ثمة وقائع هنا بل استيهامات، توليدات لمتخيل يتعذر تحقيقه في العالم المادي. يتم إذن تغليب اللاوعي في سرد الذات لكن بأهمية أكبر مما يحدث في السيرة المتخلية. هكذا، يمكننا الحديث عن نوع فرعي من رواية السيرة الذاتية التي تتخذ من شخصية حقيقية ومن تاريخها موضوعات في رحلة متخيلة تماما مستعينة بتقنيات سردية روائية بشكل أساسي وتقنيات أخري غير روائية بشكل ثانوي. تمنح الأولوية هنا الي العنصر الذاتي وذلك بعد اسقاط الوقائع التي يمكن التحقق منها والتي تمثل كل ما هو سيرة ذاتية. تطغي الحياة النفسية للكاتب علي حياته الحقيقية أو التاريخية. ولو كنا منتبهين للشكل العام، فسنجد أنفسنا بإزاء رواية تستوعب كل شيء، من الأشعار المندرجة في النص حتي مقاطع من النصوص الصوفية. إننا بإزاء السلالة البروستية (نسبة الي الفرنسي مارسيل بروست) فيما يخص الكتابة الأصيلة حتي لو كان تماهي الشخصية مع المؤلف أكثر وضوحا عند الغيطاني. لو كانت التفاصيل فقط هي التي تهمنا سنكون خارج الشكل الروائي.
وهكذا لم تكن الشخصية المركزية بأي وجه من الوجوه فاعلا. لم تكن "شخصية روائية" بالمعني الغربي لهذا التعبير. لم تكن هي التي تصنع الحياة، توقفاتها، حالاتها. هي بالعكس قد صنعها القدر أو لا وعي المؤلف. هي تحت رحمة، كما في كل رحلة زمنية، أحداث صدفوية تجعلها تقفز بشكل عنيف من عصر لتدخل في عصر آخر. لا تتحكم لا في فضائها ولا في زمانها(...).
في الحقيقة ربما لا يكون هذا النص رواية بالنسبة لمؤلفه الذي ربما استخدمه كعلاج ذاتي. كان إنتاجه بالنسبة إليه بمثابة كتابة وجودية أكثر من كونها بحثا عن أب استخدم في نهاية الأمر كوسيلة من أجل تحقيق غاية مختلفة تماما. ستتمثل تلك الغاية بالنسبة له في تجنب ميل للانتحار لحظة احباط.
(...)
والكاتب، حتي بالتمييز بينه وبين السارد، شخص ثالث: شخصية من خيال أو "كائن من ورق" مكلف بالكلام، يبتعد هو نفسه عن شخصيات جمال المختلفة التي يكتفي برؤيتها، هذا الكاتب هو من حرك السارد والشخوص. وقد فعل ذلك بشكل معقد بما اننا في حضرة حكاية تتعدد حبكتها الداخلية حيث كل شخصية من شخصيات جمال يكون بوسعها الإدلاء برأيها حول نفس المشهد، حكاية ذات حبكة داخلية لأن القاريء والسارد لا يعلمان كل شيء عن الشخصية. يضاف الي ذلك أن القصة تتم حكايتها مرة بواسطة السارد، ومرة أخري بضمير المتكلم، عبر شخصية أو أخري من الشخصيات الذين، زد علي ذلك، لا يشكلون إلا واحدا وهو السبب وراء التردد بين الحديث بضمير المتكلم والحديث بضمير المخاطب. لن يكون بوسعنا إذن تصنيف هذه الرواية وفقا لفئات السرد التي يختفي فيها السارد من القصة، أو الي سرد يكون فيه السارد حاضرا وذلك كما وضعها جينيت. هل يمكننا القول أننا ازاء شكل آخر ما بعد حداثي أكثر من العودة الي الحكاية؟
في عمله، يبدو جمال الغيطاني حرا، متخلصا بوجه خاص من أي أعراف أدبية تخص الطبقات الوسطي. ينجزه من دون محاكاة لعمل آخر. جاد أو هزلي ولا حتي محاكاة ساخرة. قام بإعادة تكييف نماذج سردية قديمة ضمن مشروع شخصي للتصالح مع رموز سابقة سواء كانت نخبوية بشكل صريح أو شعبية في الغالب. لكن مثل تلك الرواية بزوبعتها المتعلقة بالهوية وفنها الخاص بالتقطيع الزمني لا يمكن أن توجه لأشخاص معتادين علي مشاهدة مسلسلات التليفزيون المصري. لأجل هذا حظيت باهتمامنا. يمكننا أيضا الاشارة الي أنه لا معني من وراء عقد أهمية مفرطة للآداب الفرنكفونية في العالم العربي وأن نبالغ، علي الأقل في
فرنسا، في تقدير الآداب المغربية مقارنة ببقية الآداب العربية. يتعين دون شك اتخاذ تدابير نرغم بها أنفسنا لرؤية ما ظل حتي الآن خفيا مع امكانية توجيه النصح للطلبة المغاربة من الشباب كي لا يختاروا موضوعات مغاربية (للدراسة).
حاز نجيب محفوظ جائزة نوبل للآداب عام 1988 جمال الغيطاني يمكن، بسبب هذه الرواية التي تعد قبل كل شيء عملا كبيرا، إن لم يكن أثرا، أن يكون مرشحا مصريا آخر لهذا الاعتراف العالمي. ألهذا تعد هذه الرواية عملا مؤسسا؟ لابد أن نشرع أولا في التساؤل عن معني هذا. العمل المؤسس ليس فقط إبداعا يخلخل القناعات. لابد أن يكون أيضا، كما قال كوستاريادس، "نافذة علي الفوضي"، علي الجنون الذي ربما يسكن الفرد والجماعة التي ينتمي إليها علي السواء. لابد أن يمثل سبرا لليم. لكن لابد أن يفعل ذلك أيضا عبر إبداع عالم آخر حيث تعمل أشكال متماسكة يسمح النظام فيها برؤية ما هو غائب في العالم الذي يعتبر تبعا للمعتاد عالما متماسكا، يعني هذا تحويل الرؤية العادية للكون إلي رؤية فوضوية. يتعين أن يكون الفن هو ما يشوش الرؤية أو السمع ليؤسس علاقات أخري أكثر عمقا مع العالم. لو كنا مقتنعين بعقلانية العالم المعاصر أو علي العكس، لو كنا نعتقد في قيمة كل شيء، فليس ثمة أي ضرورة لإنتاج الأعمال الفنية ولا للسعي وراء إبداع أعمال رائعة.
وبما أن هذه الضرورة تظل حاضرة بالنسبة لجمال الغيطاني فإن ذلك يسمح لنا بالقول بأننا إزاء واحد من كبراء كتاب اللغة العربية الأحياء.
قراءات لمفاهيم الأب والغربة والموت
تشرح شخصية جمال في الرواية تألمها لفقدان الأب الذي توفي في القاهرة عام 1980 حين كان متواجدا بالخارج. ويشير الكاتب في حوار منشور في جريدة الأهرام في 31 أغسطس عام 2005 إلي أن تلك الواقعة تنتمي لسيرته الذاتية: "كتبت هذا العمل كمحاولة للتآمر علي الموت إثر حالة من حزن عضال امتدت في الفترة من 1980 حتي 1986"(...) يعني سؤال البداية إذن في كيفية السيطرة علي معاناة تتعلق بموت الأب. بالكتابة تمثلت الإجابة. كتابة استمرت طوال فترة القلق تلك. تطلب ذلك من المؤلف ستة أعوام من العمل. سنكون هنا أمام نص جديد أنتجته الكآبة. تنطلق هذه الحكاية، علي الأقل في أصلها، من تلك المعاناة، علي أية حال كبداية، لأن صنعة الموت تلك سريعا ماتغطي تاريخ مصر كلها. سيكون هذا العمل بالتأكيد وسيلة أفضل لمعرفة هذا الأب وإعلامه بعد وفاته بالحب الذي لم يكن ممكنا التعبير عنه. سيكتب المؤلف إذن سيناريو آخر لكي يعيد صنع التاريخ، لكي لا يكتفي فقط بالذي جري، إن يكون بمثابة طريقة فعلية للتخفيف من معانة نفسية حقيقية. سيتم الاستعانة بوسائل متخيلة من أجل الحصول علي تأثيرات واقعية.
(...)
علي كل حال، ذكر الكاتب في الندوة التي خصصت له (لمناقشة الكتاب) في فبراير 2005 في القاهرة سببا آخر ممكنا للإحباط الدافع لإبداع الرواية: "صدمت ليس فقط بموت أبي المفاجيء لكن أيضا بنهاية عصر في مصر. عصر كان يستند إلي قيمة وأهمية المعرفة البشرية. لقد غير عصر الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ في عهد السادات نحو 1975 كل هذا، وأصبح تقييم الإنسان مرتبطا بالمال الذي يمتلكه وليس بمعارفه التي اكتسبها، لهذه الأسباب كتبت الرواية". وفاة، تخص الأب يمكنها إذن أن تخفي موتا آخر يتعلق بعصر ينتهي(...) ثمة وعي يتغير، حقيقي أو متخيل، للعصر. ظن جمال انه سيشهد ثورة معيارية. وربما لم يكن تزامن فقدان القيم القديمة مع موت الأب إلا صدفة، أن يحل زمن الرأسماليين محل زمن العلماء(...) تعين علي جمال نسيان أحلام الشباب الماوية (الثورية) بشكل نهائي. ربما كان هذا الموت أيضا وبوجه خاص هو سبب هذا الكتاب، لكنه موت يتعلق بالذات، الأحلام التي فقدت، هوية تتهدم ويتعين إحلالها بأخري عبر عناصر أخري. "تجربتي في الصوفية أنقذتني من الانتحار في تلك الفترة". نظن أننا نواجه مسألة تتعلق بموت الآخرين في حين أننا نكون في مواجهة مشكلة تتعلق بموتنا الخاص.
رؤية مزدوجة للموت هي التي سيتم التعبير عنها في هذه الرواية، تأخذ في البداية علي الأقل شكل البورتريه الثري جدا للأب، طريقة لبعث الحياة في هذا الأب الراحل. طريقة لعقد علاقة تتجاوز الموت. لكن هذا ليس إلا حجة لأن العلاقة مع هذا الأب سريعا ما تنتهي(...) نري إذن أن موت الأب لم يكن هو التجربة الوحيدة للموت.
(...)
إننا في حضرة سلسلة من حكايات الرؤي تعد امتدادا لنصوص السهروردي. نحن في إطار تلقين روحي. روح ترتحل.. تلتقي بشخصيات أخري وهكذا تؤسس معرفة "حقيقية" عن ذاتها عبر تفسير تجارب الرؤي المتتابعة. ستعبر الروح إذن من مكان إلي آخر، في فضاء لا ينتمي إلينا، بل يقفز من الحاضر إلي عصور أخري في زمن لاينتمي هو أيضا إلي زماننا. وكل تجربة، التي تعد من مزاياها ألا تكون قد اختبرت بعد، تنتج معرفة. إذن ثمة تجارب ممكنة خارج التجارب التي تمنحها الحياة(...) تتواجد الروح بشكل متتابع في مواجهة مرايا، متعددة، كل منها يمثل فرصة لتعلم شيء ما من جديد. يبقي أن نعرف ما إذا كانت هذه المعرفة تأتي بالفعل من الخارج أم أنها ليست إلا انعكاسا يأتي من الداخل ثم يعود اليه في شكل وعي تكميلي يضاف الي الوعي السابق (...).
يمكننا أن نضيف حكايات الرؤي هذه إلي ما كان يمثل المادة الأولية للروائيين في الغرب، معرفة التجارب "المادية" للحياة، محن التعلم، أو أولئك الذين يهتمون بالتحليل النفسي، الأحلام الزلات أو الأفعال الخائبة، الذين يكشفون عن نشاط خارج السيطرة للعقل الواعي. لدينا هنا مادة أولية أخري. أو علي الأقل يمكن اعتبارها أخري بسبب نقص في التنظير للاوعي. ليس الوعي المسبق أو اللاوعي هو من يولد الاستيهامات، وحتي التصورات التخيلية الخادعة. لكنه الوعي الذي يتلقي حكايات الرؤي والذي يعطيها معني عبر تنظيمها في إطار التحليل الإنساني المستخدم في الغرب.
تخرج الروح من ذاتها لكنها تحتفظ بوحدتها. ستذهب الي ما هو خارج عن المألوف بالابتعاد عن هويتها، وهو ما يسمي الغربة أو النفي.
تخرج الروح من ذاتها لكنها تحتفظ بوحدتها، ستذهب إلي ما هو خارج عن المألوف بالابتعاد عن هويتها، وهو ما يسمي الغربة أو النفي.
سيكون المنفي الوسيلة التي ستنتج سلسلة معتبرة من الحكايات المعتمدة علي الرؤي. لكن النفي سيستخدم أيضا كأداة لا غني عنها حتي يصبح الموضوع تعددا في المنطوقات(...) سيصبح الموضوع إذن علي مدار ارتحاله موضوعا متجاوزا. للفرد. سيصبح أيضا موضوعا. لا واعي يكتسب معرفته بذاته من خلال الآخرين - سيكتشف هكذا ما أسماه كوربان عالم المثال، ليس صورا بل تجارب تعتمد علي الرؤي التي تتحقق في الملكوت أو عالم الأرواح.
"ماذا تعني رواية عربية؟، عن كتاب التجليات لجمال الغيطاني" 2007
Qu,est-ce qu,un roman arabe
A propos dy livre des
Illuminations,2007
بحث ألقي في إطار "الدورة الدولية للقاءات والموسيقي الصوفية"
مايو 2008
مراكش - المغرب
ترجمة: أيمن عبدالهادي،ونشرت الترجمة في وجهات نظر مارس2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.