لجان ترشيح المتقدمين لمنصب العميد بكليات ومعاهد جامعة القاهرة تنهي أعمالها    أسبوع الحسم، آخر مستجدات قانون الإيجار القديم    مدير الإغاثة الطبية بغزة: 17 ألف طفل يعانون من سوء تغذية شديد    تشكيل ليفربول المتوقع أمام ميلان    تجديد حبس سائق بتهمة سرقة 6 ملايين جنيه من مالك شركة يعمل بها بالعمرانية    الأرصاد تحذر من ذروة موجة حارة تضرب القاهرة    مطار مرسى علم يستقبل 184 رحلة من 15 دولة أوروبية الأسبوع الجاري    «موعد أذان المغرب».. مواقيت الصلاة اليوم السبت 26 يوليو 2025 في القاهرة والمحافظات    كيم جونج أون لجيشه: يجب الإستعداد ل«حرب حقيقية في أي وقت»    الكونجرس الأمريكي: 75% من سكان غزة يواجهون مجاعة عقب الحصار الذي فرضه نتنياهو    قائمة الجامعات الأهلية المعتمدة في تنسيق 2025.. دليل شامل للطلاب الجدد    تنسيق 2025.. موعد المرحلة الأولى لطلاب الثانوية العامة وأسماء الكليات المتاحة لكل شعبة (تصريحات خاصة)    أسعار الخضروات اليوم السبت 26 يوليو في سوق العبور للجملة    حالة المرور اليوم، سيولة مرورية نسبية وأحجام محدودة في محاور القاهرة الكبرى    تعرف شخصية ليلى زاهر في مسلسل وادي وبنت وشايب    تعرف على موعد عرض أولى حلقات مسلسل « قهوة 2» ل أحمد فهمي    توفيق الحكيم، كره المرأة بسبب هدى شعراوي وعبد الناصر كان يعتبره "الأب الروحي"    «لو ابنك بلع مياه من حمام السباحة؟».. خطوات فورية تحميه من التسمم والأمراض    «خبراء يحذرون»: لا تغلي «الشاي مع الحليب» لهذا السبب    «لماذا ينصح بتناول لحم الديك الرومي؟»... فوائد مذهلة لهذه الفئات    الدفاع الألمانية تستعين بأسراب «صراصير» للتجسس والإستطلاع    رابطة الأندية توجه الدعوة لأبو ريدة لحضور قرعة الدوري    أجندة البورصة بنهاية يوليو.. عمومية ل"دايس" لسداد 135 مليون جنيه لناجى توما    دعاء الفجر.. اللهم إنا نسألك فى فجر هذا اليوم أن تيسر لنا أمورنا وتشرح صدورنا    "الحشيش حرام" الأوقاف والإفتاء تحسمان الجدل بعد موجة لغط على السوشيال ميديا    أسفار الحج (9).. زمزم والنيل    سعر الذهب اليوم السبت 26 يوليو 2025.. الجنيه الذهب ب37040 جنيها    الأهلى يزاحم الهلال على ضم نونيز من ليفربول    خدمة جوجل فوتو تضيف أدوات لتحويل الصور القديمة إلى مقاطع فيديو متحركة    أبو حلاوة يا تين.. عم محمود أقدم بائع تين شوكى فى مصر عمره 65 سنة.. فيديو    3 مكاسب الأهلي من معسكر تونس    بالأسماء.. مصرع طفلة وإصابة 23 شخصًا في انقلاب ميكروباص بطريق "قفط – القصير"    بعد أزمات فينيسيوس جونيور، هل يتحقق حلم رئيس ريال مدريد بالتعاقد مع هالاند؟    «سبوتيفاي وأنغامي» يكشفان عن صاحب المركز الأول.. عمرو دياب أم تامر حسني؟    2 مليار جنيه دعم للطيران وعوائد بالدولار.. مصر تستثمر في السياحة    رحيل نجم بيراميدز بسبب صفقة إيفرتون دا سيلفا (تفاصيل)    موعد مباراة ليفربول وميلان الودية اليوم والقنوات الناقلة    «هيسجل إمتى بعيدًا عن ضربات الجزاء؟».. تعليق مثير من الغندور بشأن زيزو مع الأهلي    إعلام فلسطيني: 4 شهداء في قصف إسرائيلي استهدف شقة سكنية غرب غزة    إيطاليا: الاعتراف بدولة فلسطين ليس ممكنا إلا باعترافها بإسرائيل    برج الحوت.. حظك اليوم السبت 26 يوليو: رسائل غير مباشرة    بالصور.. تشييع جثمان والد «أطفال دلجا الستة» في ليلة حزينة عنوانها: «لقاء الأحبة»    «مش عارف ليه بيعمل كده؟».. تامر حسني يهاجم فنانا بسبب صدارة يوتيوب .. والجمهور: قصده عمرو دياب    هآرتس: ميليشيات المستوطنين تقطع المياه عن 32 قرية فلسطينية    "مستقبل وطن دولة مش حزب".. أمين الحزب يوضح التصريحات المثيرة للجدل    رد ساخر من كريم فؤاد على إصابته بالرباط الصليبي    بعد «أزمة الحشيش».. 4 تصريحات ل سعاد صالح أثارت الجدل منها «رؤية المخطوبة»    «الداخلية» تنفي «فيديو الإخوان» بشأن احتجاز ضابط.. وتؤكد: «مفبرك» والوثائق لا تمت بصلة للواقع    الحماية المدنية بالقليوبية تسيطر على حريق كابينة كهرباء بشبرا| صور    فلسطين.. شهيدة وعدة إصابات في قصف إسرائيلي على منزل وسط غزة    بيان من المستشار القانوني لنقابة الموسيقيين للرد على الناقد طارق الشناوي بعد أزمة راغب علامة    مستشفى الناس تطلق خدمة القسطرة القلبية الطارئة بالتعاون مع وزارة الصحة    حماس: لم نُبلغ بوجود أي إشكال بشأن مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة ونستغرب تصريحات ترامب    وزير الأوقاف: الحشيش حرام كحرمة الخمر سواء بسواء والادعاء بحِلِّه خطأ فادح    سعر الذهب اليوم السبت 26 يوليو محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير (تفاصيل)    قفزة في أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 26 يوليو 2025    رفعت فياض يكتب: نصيحتي لكل الناجحين في الثانوية العامة.. لا تلتحق بأي كلية استخسارًا للمجموع أو على غير رغبتك    جامعة دمنهور الأهلية تعلن فتح باب التسجيل لإبداء الرغبة المبدئية للعام الجديد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجليات الحياة والموت
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 05 - 2015

يمكن دراسة هذه الرواية بأكثر من طريقة وفقا لما تعنيه بالنسبة لمؤلفها أو للقراء المحتملين الذين لم يكتفوا بقراءة النص في ظل غياب أي رؤية تفسيرية الأمر الذي يبقي مع ذلك ممكنا. ويندرج هذا النص ضمن مجموعة أعمال يحاول مبدعوها المختلفون جدا فيما بينهم أن يبتكروا فيها أشكالا متطورة من الكتابة. نتذكر بالتأكيد الحائز علي جائزة نوبل نجيب محفوظ وأيضا صنع الله إبراهيم، المقرب جدا من جمال الغيطاني، كذلك إلياس خوري، إميل حبيبي أو إدوارد الخراط، تمثل نصوص هؤلاء الكتاب تغيرا في الشكل وفي المضمون. وهو ما نجده علي سبيل المثال في أسلوب الغيطاني المميز جدا فيما يخص استخدام الاستعارات المتعددة والتنويع الكبير في التشبيهات: كل عنصر يعود الي سلسلة شبه لا نهائية من عناصر أخري عن طريق الانتقالات المتتابعة للمعني(...).
يمكننا أيضا، وهذا ملمح بوسع قراء فضوليين محتملين التوقف عنده، دراسة توظيف الألوان في هذا العمل الذي كتبه صانع قديم للسجاد تعلم فن الصبر خلال ست سنوات هي مدة عمله في هذه الصناعة. الإشارات الي فن العمارة، المتكررة جدا في "متون الأهرامات" يمكن أيضا الكشف عنها لأنها هي أيضا عنصر مهم ومحجوب بشكل كامل في عملية الكتابة.
انطلقنا من إشكالية ترتبط بالنقل الاجتماعي المعاصر. ما هو الشكل الذي اختاره الكاتب لينقل أو ليسجل أفكاره التي يريد أن ينشرها؟ كيف تحقق التماسك في حكايته وهل تم ذلك ضمن الشكل الروائي كما تم تعريفه في الغرب؟ ولطرح مثل هذا السؤال لابد من الانطلاق من فكرة أننا لا نعرف مقدما، حتي لو قيل لنا ذلك النوع الذي يسبك فيه النص، إذن من الارتياب في التوضيحات التي يقدمها الكاتب، أن نرتاب حتي في ارتيابه هو. فبعد كل شيء يبقي لنا الحق في التساؤل. هل هذه الرواية رواية أم سيرة متخيلة أم هي ببساطة سيرة ذاتية؟ ربما لن يصنفها كل القراء في فئة واحدة بعينها، وربما يعتبرها البعض مزيجا من هذا كله كما حدث مع "نجمة" كاتب ياسين التي كانت في الوقت نفسه رواية، سيرة ذاتية، ملحمة دولة ورسالة هجاء سياسية.
يقودنا هذا السؤال الشكلي إلي مستوي ثان من الأسئلة تتعلق بالمضامين المتتابعة للنص فكان لزاما اختبارها. إننا في الواقع داخل سياق تاريخ الأشكال الأدبية وتنويعاتها. الغيطاني روائي سيضع حكاية في قوالب وصياغات. سيبدع إذن شخوصا ومتواليات أحداث ستشكل سردية النص. هكذا سنجد تحققا ظاهرتيا للنص نتج أولا من خلال متطلبات اللغة وهو يمثل أول أنظمة التشكيل، ثم عبر النوع الذي تم اختياره والملائم للوسط الاجتماعي الذي يتطور داخله.
رواية تعني بالبحث عن الأب مثل رواية الغيطاني هي علي النقيض من رواية تسعي الي تدمير نفس هذا الأب، أن تقتله مرة ثانية كما نجد ذلك عند عبدالحق سرحان في رواية "مسعودة" بعد أكثر من محاولة خجولة لادريس شرابي. يمنح الكاتب/ الابن إذن في نوع من الكتابة التنفيسية الفرصة للثأر من الأم بعد وفاتها. يمكن أن تتوفر لدينا نصوص تستدعي كامو، اللامبالاة لوفاة الأم كما في تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم، أو علي العكس، التبلد الكامل للحس تجاه موت الأب. كل الألعاب البنيوية ممكنة. ويكمن هنا شروط انتاج الملفوظات التي تدفع النص بقوة نحو الأعالي كما أن من الممكن لتنوع الاستجابات أن تدفعه بقوة الي الأسفل. وقد كان يتعين بعد ذلك التساؤل عن التماسك الداخلي لهذا المنتج.
نحن بصدد رواية سيرة ذاتية وليست رواية لسيرة متخيلة. هي ليست سيرة متخيلة حتي لو كانت الشخصية الأساسية للحكاية مشتركة مع المؤلف علي الأقل في الاسم، في الواقع، نحن لا نبدع تخيلا لأحداث تقدم كوقائع حقيقية. يتعلق الأمر بما يعرف في الانجليزية باعتباره تخيلا مبنيا علي وقائع fact-fiction. ليس ثمة وقائع هنا بل استيهامات، توليدات لمتخيل يتعذر تحقيقه في العالم المادي. يتم إذن تغليب اللاوعي في سرد الذات لكن بأهمية أكبر مما يحدث في السيرة المتخلية. هكذا، يمكننا الحديث عن نوع فرعي من رواية السيرة الذاتية التي تتخذ من شخصية حقيقية ومن تاريخها موضوعات في رحلة متخيلة تماما مستعينة بتقنيات سردية روائية بشكل أساسي وتقنيات أخري غير روائية بشكل ثانوي. تمنح الأولوية هنا الي العنصر الذاتي وذلك بعد اسقاط الوقائع التي يمكن التحقق منها والتي تمثل كل ما هو سيرة ذاتية. تطغي الحياة النفسية للكاتب علي حياته الحقيقية أو التاريخية. ولو كنا منتبهين للشكل العام، فسنجد أنفسنا بإزاء رواية تستوعب كل شيء، من الأشعار المندرجة في النص حتي مقاطع من النصوص الصوفية. إننا بإزاء السلالة البروستية (نسبة الي الفرنسي مارسيل بروست) فيما يخص الكتابة الأصيلة حتي لو كان تماهي الشخصية مع المؤلف أكثر وضوحا عند الغيطاني. لو كانت التفاصيل فقط هي التي تهمنا سنكون خارج الشكل الروائي.
وهكذا لم تكن الشخصية المركزية بأي وجه من الوجوه فاعلا. لم تكن "شخصية روائية" بالمعني الغربي لهذا التعبير. لم تكن هي التي تصنع الحياة، توقفاتها، حالاتها. هي بالعكس قد صنعها القدر أو لا وعي المؤلف. هي تحت رحمة، كما في كل رحلة زمنية، أحداث صدفوية تجعلها تقفز بشكل عنيف من عصر لتدخل في عصر آخر. لا تتحكم لا في فضائها ولا في زمانها(...).
في الحقيقة ربما لا يكون هذا النص رواية بالنسبة لمؤلفه الذي ربما استخدمه كعلاج ذاتي. كان إنتاجه بالنسبة إليه بمثابة كتابة وجودية أكثر من كونها بحثا عن أب استخدم في نهاية الأمر كوسيلة من أجل تحقيق غاية مختلفة تماما. ستتمثل تلك الغاية بالنسبة له في تجنب ميل للانتحار لحظة احباط.
(...)
والكاتب، حتي بالتمييز بينه وبين السارد، شخص ثالث: شخصية من خيال أو "كائن من ورق" مكلف بالكلام، يبتعد هو نفسه عن شخصيات جمال المختلفة التي يكتفي برؤيتها، هذا الكاتب هو من حرك السارد والشخوص. وقد فعل ذلك بشكل معقد بما اننا في حضرة حكاية تتعدد حبكتها الداخلية حيث كل شخصية من شخصيات جمال يكون بوسعها الإدلاء برأيها حول نفس المشهد، حكاية ذات حبكة داخلية لأن القاريء والسارد لا يعلمان كل شيء عن الشخصية. يضاف الي ذلك أن القصة تتم حكايتها مرة بواسطة السارد، ومرة أخري بضمير المتكلم، عبر شخصية أو أخري من الشخصيات الذين، زد علي ذلك، لا يشكلون إلا واحدا وهو السبب وراء التردد بين الحديث بضمير المتكلم والحديث بضمير المخاطب. لن يكون بوسعنا إذن تصنيف هذه الرواية وفقا لفئات السرد التي يختفي فيها السارد من القصة، أو الي سرد يكون فيه السارد حاضرا وذلك كما وضعها جينيت. هل يمكننا القول أننا ازاء شكل آخر ما بعد حداثي أكثر من العودة الي الحكاية؟
في عمله، يبدو جمال الغيطاني حرا، متخلصا بوجه خاص من أي أعراف أدبية تخص الطبقات الوسطي. ينجزه من دون محاكاة لعمل آخر. جاد أو هزلي ولا حتي محاكاة ساخرة. قام بإعادة تكييف نماذج سردية قديمة ضمن مشروع شخصي للتصالح مع رموز سابقة سواء كانت نخبوية بشكل صريح أو شعبية في الغالب. لكن مثل تلك الرواية بزوبعتها المتعلقة بالهوية وفنها الخاص بالتقطيع الزمني لا يمكن أن توجه لأشخاص معتادين علي مشاهدة مسلسلات التليفزيون المصري. لأجل هذا حظيت باهتمامنا. يمكننا أيضا الاشارة الي أنه لا معني من وراء عقد أهمية مفرطة للآداب الفرنكفونية في العالم العربي وأن نبالغ، علي الأقل في
فرنسا، في تقدير الآداب المغربية مقارنة ببقية الآداب العربية. يتعين دون شك اتخاذ تدابير نرغم بها أنفسنا لرؤية ما ظل حتي الآن خفيا مع امكانية توجيه النصح للطلبة المغاربة من الشباب كي لا يختاروا موضوعات مغاربية (للدراسة).
حاز نجيب محفوظ جائزة نوبل للآداب عام 1988 جمال الغيطاني يمكن، بسبب هذه الرواية التي تعد قبل كل شيء عملا كبيرا، إن لم يكن أثرا، أن يكون مرشحا مصريا آخر لهذا الاعتراف العالمي. ألهذا تعد هذه الرواية عملا مؤسسا؟ لابد أن نشرع أولا في التساؤل عن معني هذا. العمل المؤسس ليس فقط إبداعا يخلخل القناعات. لابد أن يكون أيضا، كما قال كوستاريادس، "نافذة علي الفوضي"، علي الجنون الذي ربما يسكن الفرد والجماعة التي ينتمي إليها علي السواء. لابد أن يمثل سبرا لليم. لكن لابد أن يفعل ذلك أيضا عبر إبداع عالم آخر حيث تعمل أشكال متماسكة يسمح النظام فيها برؤية ما هو غائب في العالم الذي يعتبر تبعا للمعتاد عالما متماسكا، يعني هذا تحويل الرؤية العادية للكون إلي رؤية فوضوية. يتعين أن يكون الفن هو ما يشوش الرؤية أو السمع ليؤسس علاقات أخري أكثر عمقا مع العالم. لو كنا مقتنعين بعقلانية العالم المعاصر أو علي العكس، لو كنا نعتقد في قيمة كل شيء، فليس ثمة أي ضرورة لإنتاج الأعمال الفنية ولا للسعي وراء إبداع أعمال رائعة.
وبما أن هذه الضرورة تظل حاضرة بالنسبة لجمال الغيطاني فإن ذلك يسمح لنا بالقول بأننا إزاء واحد من كبراء كتاب اللغة العربية الأحياء.
قراءات لمفاهيم الأب والغربة والموت
تشرح شخصية جمال في الرواية تألمها لفقدان الأب الذي توفي في القاهرة عام 1980 حين كان متواجدا بالخارج. ويشير الكاتب في حوار منشور في جريدة الأهرام في 31 أغسطس عام 2005 إلي أن تلك الواقعة تنتمي لسيرته الذاتية: "كتبت هذا العمل كمحاولة للتآمر علي الموت إثر حالة من حزن عضال امتدت في الفترة من 1980 حتي 1986"(...) يعني سؤال البداية إذن في كيفية السيطرة علي معاناة تتعلق بموت الأب. بالكتابة تمثلت الإجابة. كتابة استمرت طوال فترة القلق تلك. تطلب ذلك من المؤلف ستة أعوام من العمل. سنكون هنا أمام نص جديد أنتجته الكآبة. تنطلق هذه الحكاية، علي الأقل في أصلها، من تلك المعاناة، علي أية حال كبداية، لأن صنعة الموت تلك سريعا ماتغطي تاريخ مصر كلها. سيكون هذا العمل بالتأكيد وسيلة أفضل لمعرفة هذا الأب وإعلامه بعد وفاته بالحب الذي لم يكن ممكنا التعبير عنه. سيكتب المؤلف إذن سيناريو آخر لكي يعيد صنع التاريخ، لكي لا يكتفي فقط بالذي جري، إن يكون بمثابة طريقة فعلية للتخفيف من معانة نفسية حقيقية. سيتم الاستعانة بوسائل متخيلة من أجل الحصول علي تأثيرات واقعية.
(...)
علي كل حال، ذكر الكاتب في الندوة التي خصصت له (لمناقشة الكتاب) في فبراير 2005 في القاهرة سببا آخر ممكنا للإحباط الدافع لإبداع الرواية: "صدمت ليس فقط بموت أبي المفاجيء لكن أيضا بنهاية عصر في مصر. عصر كان يستند إلي قيمة وأهمية المعرفة البشرية. لقد غير عصر الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ في عهد السادات نحو 1975 كل هذا، وأصبح تقييم الإنسان مرتبطا بالمال الذي يمتلكه وليس بمعارفه التي اكتسبها، لهذه الأسباب كتبت الرواية". وفاة، تخص الأب يمكنها إذن أن تخفي موتا آخر يتعلق بعصر ينتهي(...) ثمة وعي يتغير، حقيقي أو متخيل، للعصر. ظن جمال انه سيشهد ثورة معيارية. وربما لم يكن تزامن فقدان القيم القديمة مع موت الأب إلا صدفة، أن يحل زمن الرأسماليين محل زمن العلماء(...) تعين علي جمال نسيان أحلام الشباب الماوية (الثورية) بشكل نهائي. ربما كان هذا الموت أيضا وبوجه خاص هو سبب هذا الكتاب، لكنه موت يتعلق بالذات، الأحلام التي فقدت، هوية تتهدم ويتعين إحلالها بأخري عبر عناصر أخري. "تجربتي في الصوفية أنقذتني من الانتحار في تلك الفترة". نظن أننا نواجه مسألة تتعلق بموت الآخرين في حين أننا نكون في مواجهة مشكلة تتعلق بموتنا الخاص.
رؤية مزدوجة للموت هي التي سيتم التعبير عنها في هذه الرواية، تأخذ في البداية علي الأقل شكل البورتريه الثري جدا للأب، طريقة لبعث الحياة في هذا الأب الراحل. طريقة لعقد علاقة تتجاوز الموت. لكن هذا ليس إلا حجة لأن العلاقة مع هذا الأب سريعا ما تنتهي(...) نري إذن أن موت الأب لم يكن هو التجربة الوحيدة للموت.
(...)
إننا في حضرة سلسلة من حكايات الرؤي تعد امتدادا لنصوص السهروردي. نحن في إطار تلقين روحي. روح ترتحل.. تلتقي بشخصيات أخري وهكذا تؤسس معرفة "حقيقية" عن ذاتها عبر تفسير تجارب الرؤي المتتابعة. ستعبر الروح إذن من مكان إلي آخر، في فضاء لا ينتمي إلينا، بل يقفز من الحاضر إلي عصور أخري في زمن لاينتمي هو أيضا إلي زماننا. وكل تجربة، التي تعد من مزاياها ألا تكون قد اختبرت بعد، تنتج معرفة. إذن ثمة تجارب ممكنة خارج التجارب التي تمنحها الحياة(...) تتواجد الروح بشكل متتابع في مواجهة مرايا، متعددة، كل منها يمثل فرصة لتعلم شيء ما من جديد. يبقي أن نعرف ما إذا كانت هذه المعرفة تأتي بالفعل من الخارج أم أنها ليست إلا انعكاسا يأتي من الداخل ثم يعود اليه في شكل وعي تكميلي يضاف الي الوعي السابق (...).
يمكننا أن نضيف حكايات الرؤي هذه إلي ما كان يمثل المادة الأولية للروائيين في الغرب، معرفة التجارب "المادية" للحياة، محن التعلم، أو أولئك الذين يهتمون بالتحليل النفسي، الأحلام الزلات أو الأفعال الخائبة، الذين يكشفون عن نشاط خارج السيطرة للعقل الواعي. لدينا هنا مادة أولية أخري. أو علي الأقل يمكن اعتبارها أخري بسبب نقص في التنظير للاوعي. ليس الوعي المسبق أو اللاوعي هو من يولد الاستيهامات، وحتي التصورات التخيلية الخادعة. لكنه الوعي الذي يتلقي حكايات الرؤي والذي يعطيها معني عبر تنظيمها في إطار التحليل الإنساني المستخدم في الغرب.
تخرج الروح من ذاتها لكنها تحتفظ بوحدتها. ستذهب الي ما هو خارج عن المألوف بالابتعاد عن هويتها، وهو ما يسمي الغربة أو النفي.
تخرج الروح من ذاتها لكنها تحتفظ بوحدتها، ستذهب إلي ما هو خارج عن المألوف بالابتعاد عن هويتها، وهو ما يسمي الغربة أو النفي.
سيكون المنفي الوسيلة التي ستنتج سلسلة معتبرة من الحكايات المعتمدة علي الرؤي. لكن النفي سيستخدم أيضا كأداة لا غني عنها حتي يصبح الموضوع تعددا في المنطوقات(...) سيصبح الموضوع إذن علي مدار ارتحاله موضوعا متجاوزا. للفرد. سيصبح أيضا موضوعا. لا واعي يكتسب معرفته بذاته من خلال الآخرين - سيكتشف هكذا ما أسماه كوربان عالم المثال، ليس صورا بل تجارب تعتمد علي الرؤي التي تتحقق في الملكوت أو عالم الأرواح.
"ماذا تعني رواية عربية؟، عن كتاب التجليات لجمال الغيطاني" 2007
Qu,est-ce qu,un roman arabe
A propos dy livre des
Illuminations,2007
بحث ألقي في إطار "الدورة الدولية للقاءات والموسيقي الصوفية"
مايو 2008
مراكش - المغرب
ترجمة: أيمن عبدالهادي،ونشرت الترجمة في وجهات نظر مارس2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.