سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات الصباحية السبت 4 مايو 2024    المالية: الانتهاء من إعداد وثيقة السياسات الضريبية المقترحة لمصر    إزالة فورية لحالتي تعد بالبناء المخالف في التل الكبير بالإسماعيلية    بلينكن: حماس عقبة بين سكان غزة ووقف إطلاق النار واجتياح رفح أضراره تتجاوز حدود المقبول    الحوثيون يعلنون بدء المرحلة الرابعة من التصعيد ضد إسرائيل    لاعبو فريق هولندي يتبرعون برواتبهم لإنقاذ النادي    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام وولفرهامبتون    نظراً لارتفاع الأمواج.. الأرصاد توجه تحذير للمواطنين    إصابة 15 شخصًا في حادث سيارة ربع نقل بالمنيا    بعدما راسل "ناسا"، جزائري يهدي عروسه نجمة في السماء يثير ضجة كبيرة (فيديو)    حدث ليلا.. خسارة إسرائيل وهدنة مرتقبة بغزة والعالم يندفع نحو «حرب عالمية ثالثة»    أسعار اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه اليوم السبت 4 مايو    اليوم، تطبيق أسعار سيارات ميتسوبيشي الجديدة في مصر    تفاصيل التحقيقات مع 5 متهمين بواقعة قتل «طفل شبرا الخيمة»    الداخلية توجه رسالة للأجانب المقيمين في مصر.. ما هي؟    إسكان النواب: إخلاء سبيل المحبوس على ذمة مخالفة البناء حال تقديم طلب التصالح    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    إغماء ريم أحمد فى عزاء والدتها بمسجد الحامدية الشاذلية    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    صحيفة: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة الجونة    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    لو بتحبي رجل من برج الدلو.. اعرفي أفضل طريقة للتعامل معه    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    استقرار سعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقنية.. ثورة تحرر في »الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس«
نشر في أخبار الأدب يوم 15 - 02 - 2013

تتكاتف كثير من تقنيات الكتابة الروائية الفنية والفكرية في رؤية ومخيلة »طارق إمام« لتشيد نصاً روائياً كأنه كاتدرائية، معبداً فنيا له أساطيره وطقوسه،أبخرته وأسراره وسحره، له كهنته ونصوصه ولاهوته، أشخاصه الذين يميزهم حضور شبحي غائم، يجتمعون ليسردون سيرة غرائبية لشخصية الشاعر »قسطنطين كفافيس«2، سيرة تكمن خلف المعلن، وتطل برأسها لتشهر وجودا اشكالياً.
يقدم الروائي في آخر أعماله »الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس« معماراً سردياً: نفسياً،وفكرياً من شأنه امتلاكه مقومات الإبداع العميق،الإبداع الذي يطرح التساؤل والدهشة علي المستوي الفني والفكري، يطرح التوجس والغرابة والخوف، يطرح الخروج من التابوه إلي عوالم التحرر الفني والفكري.ويبدو أن علاقة الفرد »النموذج« بالمكان أو »بالمدينة« لم يزل هاجس »إمام« ،ففي روايته »هدوء القتلةس 4 لعب علي علاقة جدلية بين مدينة »القاهرة« وقاتل شاعر، كيف يتفاعلا؟ كيف تنطبع وجوه المدينة علي الوجوه النفسية والمادية لشخصية النص؟
في نص الحياة الثانية.. تظهر علامات استفهام أخري شكلت علاقة »كفافيس« ببلاد متعددة تنقل بينها، مثل تركيا واليونان وإنجلترا وغيرها من الأماكن.كل منها كان له تأثير ما في ثقافة كفافيس، ولغته ،ومظهره، وتكوينه النفسي والجسدي, يتضمن النص محاور متعددة: علاقة المبدع بالكتابة، بالنص الشعري والروائي، فلسفة الشعر، كيف تولد النصوص، حيواتها، علاقتها بمبدعيها، اللغة ومستوياتها، ووعي الفنان بالتحولات التي تطرأ علي الأساليب.
مشاهد متشظية
يتبدي واضحاً بالنص الكتابة عن فعل الكتابة والإبداع، ذلك لأن النص يتكون من أربعة نصوص متداخلة، يتضمن أحدها »الإطار« الثلاثة الآخرين.يعبث »إمام« بالحبكة الكلاسية التقليدية للحكاية، ليسردها مشاهد متشظية،تتضمن نظامها في فوضاها،في بنائها المتعدد والمتداخل،في طريقة صوغ أساليب النص ولغته.يقدم »طارق إمام« الحياة ذ من خلال هذا النموذج البشري ذ وهي في حالة اختلاطها،في حالة تلقي هذا المزيج بروح الشعر، انصهار معاني الحياة وطبائعها معاً بحيث لا يمكن الفصل بينها، الموت والحياة، الإحباط والتحقق، التسامي والغرائزية، الشذوذ والسواء، الحب والكراهية، الشعر والرواية، كل تلك المعاني وما قد تبدو ثنائيات لا يمكن الفصل بينهما أو اختيار جانب واحد منها. الحياة التي تختلط فيها المعاني والمتناقضات، لكن قُدر للإنسان أن يحياها هكذا، تكوين يشمل تجاوراته وفوضاه.
تبدأ الرواية من خلال محاولة »ألكسندر سنجوبوليس« كتابة مسودة رواية عن كفافيس في الخفاء، ألكسندر صديق الشاعر أو خادمه أو مساعده أو عشيقه، ويذكر الروائي »السارد الضمني« »أن ألكسندر ربما لم يوجد من الأساسس 6 ومنذ البداية تبدأ رحلة التفكيك التي أشرت إليها.النص يحكي قصة مرض كفافيس وفقدانه لصوته بعد استئصال حنجرته لإصابته بالسرطان، وتبدأ رحلة السرد ما بين أحداث الحاضر التي يعاني فيها الشاعر النهاية واقتراب الموت، وانتقاءات من ذكريات ماضيه، تنقله بين الإسكندرية وانجلترا وغيرها من البلدان، علاقاته بمجموعة من الشخوص المعاصرين له، الذين عاشوا معه في الحقيقة في تلك الفترة، أو شخوص متخيلة يُخلِّقها الروائي لتجلية جوانب من الحياة الثانية لكفافيس، الحياة غير المعلنة، والتي نسج الروائي خيوطها من خلال استبطانه لشعره، ومن خلال جدل دائم مع المصادر المتعددة التي قرأها حوله ، جدل يقوم علي الشك والتفكيك لكثير من المعلومات الواردة في المصادر، نظراً لتعدد التواريخ لنفس الأحداث، وبعض الإشارات التي ترد في بعض المصادر وتختفي في الأخري، ونظراً إلي طبيعة كفافيس الشاذة التي خلقت مأزقاً آخر استنفر الروائي لنسج خيوط حياة ثانية غير معلن تفاصيلها في المصادر، حياة من الحتمي أن كفافيس ضرب عليها سياجاً من السرية النسبية، تعتيم خاص بعلاقاته مع بعض الرجال والنساء.كل هذه الخيوط تجمعت مع علاقة الشاعر بمدينة الإسكندرية بوجوهها المتعددة لتحكي عن رؤية تمتد من الخاص إلي العام، رؤية لذاته وللإنسان وللعالم والوجود من خلال المكان المتعدد الوجوه،والحضارات،ومظاهر الطبيعة.
يكتب ألكسندر الرواية عن كفافيس في الخفاء، ويقرأها الشاعر دون أن يعلم صديقه،بل يشارك الشاعر ألكسندر في تأليفها، بأن يترك له بعض الأوراق والخطابات ليوجهه إلي منحني سردي خاص، هناك أيضاً مذكرات ألكسندر أو قصاصاته التي توظف من أجل تنمية جوانب من حيوات كفافيس، كما أن هناك تعدد أصوات لشخوص حول الشاعر، كل صوت منهم يلقي الضوء علي وجه من وجوه كفافيس وأقنعته المتعددة، فيبدو العمل متعدد الطوابق والمستويات متداخل المعمار،يتشكل كاتدرائية كما ذكرت في المقدمة مشيدة للأسرار، وبث نوع من السحر والغموض.
التقنية .. أداة تحرر
حين تتبلور رؤية طارق إمام لمعالجة التاريخ إبداعاً روائياً علي هذا النحو الجدلي التفكيكي فهو إذن يصوب نحو المقدس والمعهود والمتواتر والمنقول والثابت وما لا حصر له من معاني الاستقرار والركود ليضربها في مقتل، يثور علي القيد ويمارس المجاوزة في الفن.تتجلي الرؤية ذاتها ومن ثم التقنية وهي أداة تحرر النص، وخروجه علي شبكة من الفطر الضارب فوق أقانيم السرد التقليدية، التي تعني بالمحافظة علي الكائن المستقر والترسيخ له وعدم مساءلته.
يسقط الروائي ما بعد الحداثي بذكاء بالغ سلطة الرواية التاريخية التعليمية التي كتبها جورجي زيدان، أو رواية النضج التاريخي التي أسس لها محمد فريد أبو حديد، أو رواية الاستدعاء وإسقاط قضايا الحاضر علي التاريخ وما مضي من حوادث، مثل ما أبدع نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وسلوي بكر ورضوي عاشور وغيرهم.ص9.
تمارس الكتابة الروائية الجديدة إزاحة هذه الرؤي التقليدية في كتابة التاريخ إلي الهامش، لتبدأ رحلة المساءلة، فتتنوع الأعمال الروائية المعاصرة مابين التحرر في الرؤية لكن في إطار الطرق الكلاسيكية في تكنيك السرد، مثل ما صنعه »يوسف زيدان« في فريدته »عزازيلس 10 لتصبح مادة السرد بأفكارها هي الحامل الرئيسي للمواجهة، ومن خلالها يتحرر المبدع ويواجه القيود.فتأتي الكتابة الجديدة للتاريخ وهي تنشد الحرية، حرية الإبداع والمبدع،تبرز حرية الفن في صورها العميقة من خلال التقنية والأفكار التي تعرض من خلالها، فالتقنية هي الحامل الحقيقي لجوهر العمل وطقسه الفكري والرؤيوي، هي الحامل الحقيقي لحيرة المبدع واندياحات عالمه ورؤاه للأشياء والمعاني والقيم من حوله، هي المُعبَّر الأصيل عن الشخصية الإشكالية البينية،الأداة الاساسية لتفكيك العالم واعادة بنائه فنيا.
تمثل رؤية »إمام« للتاريخ وكتابته علي هذا النحو التفكيكي والمتصل أداة ثورة وتحرر، كما تمثل آليات بناء سردية الرواية وطوابقها ودهاليزها وكهوفها وقبابها ثورة نحو تراكب البناء، ويتماثل هذا التعدد في الأصوات السردية والتراكب المعماري، مع تعدد الصراعات والطوابق النفسية لدي شخصية العمل،فالتقنية أداة تجاوز، وتمثيل للسياق العام للشخصية وغرابتها، وتحرر من قيد الأسطر التاريخية التي يتصور البعض أنها تقدم الحقائق الناصعة.
تعد أيضاً تقنية الأصوات المتعددة بالعمل: من سارد ضمني عليم، إلي حكي ألكسندر المحدود برؤاه والمتضمن لتدخلات كفافيس، ومذكراته، إلي أصوات سردية أخري متعددة، درجة من درجات الديمقراطية، حكي للسيرة بحقائقها ومتخيلها من وجوه متعددة، كما تعد الطبيعة الذهنية لعرض السردية وأفكارها، وتقويض منطق هذه الذهنية بمنطق آخر أكثر جرأة وأكثر هدما لمتحفيات الحياة ثورة وأداة تحرر، الأسلوب وبناءه ذاته بمفرداته وطريقة صياغاتها، وطبيعة العلاقات المجازية في تكوين الجمل ثورة هدم وأداة تحرر.
يبدو هدم التنميط والنمذجة في بناء الشخوص، وتشكيلهم في حالات هلامية، متشظية ثورة وأداة تحرر تتناسب مع هذه الرؤية للتاريخ.حرية الإبداع إذن لا تستقي من الخطابية والادعاءات والشعارات،الهتافات الفجة، الجهر بالتزام أيديولوجية ما ومحاربة ما دونها، تتبدي الحرية أسلوب أداء، وآليات سرد، وتكنيك اختيار تقنية، نأيا عن الوقوع في غواية سرد التفاصيل والحقائق المتهافتة للتاريخ أوللواقع، دون وضعها في أطر فنية تبرز فحواها وتدلل عليها.
الغرابة والرواية
يحشد »إمام« لنصه الروائي كل العناصر الفنية والفكرية التي تصنع نصاً يقع في منطقة الغرائبية.تتشكل المنظومة السردية طوال العمل وهي تدفع وتخلَّق نوعاً من الشغف القلق، الذي يصيب قلب وعقل متلقيه بنوع منن التشوق المشوب بالوحشة والخوف من هذا العالم المكتظ بكافة العناصر التي تدفع بالتوجس والريبة والقلق ص11. تبرز عناصر فنية في السرد تتمثل في: طريقة رسم مدينة الإسكندرية، والتعددية التي تشكلها، وتلك الأحلام السريالية والكوابيس المخيفة، وطريقة رسم وتشكيل شخوص النص، الطقوس التي تمارسها كل شخصية وتكوينها النفسي والفكري، والأشباح التي تتحرك بالعمل، وتنصهر في تكوين شخصيته الرئيسية.وتبقي »هيليني« خيطاً رئيسياً منذ أول فقرات النص حتي آخره، استحضار الموتي وتحريك حيواتهم من خلال شخوص آخرين، في طريقة من الهيمنة الغرائبية غير المباشرة من قبل »كفافيس« علي المحيطين به.يصف »ألكسندر« رحلة »كفافيس« وهي يصاحب شبح »هيليني« إلي المقابر قائلاً: ».. أري الطفلة ملتصقة به تغادر البيت معه، كأنهما اتفقا أخيراً علي نزهة مقبضة تقربهما. يغوص بها بين الشواهد، يراها في الظهيرة، خارج الضوء الاصطناعي لهواء البيت، هشة ومطفأة، يصعب تمييز ملامحها وهي تبدو أقرب لظل قاتم، تلهو، تخطف بصرها بالونات بعيدة في سماء الأرواح، أثداء لونه مصبوغة، تستفز شوقها المقموع، يهيأ له أنها تفغر فمها بمجرد أن تراها، يري لثتها الزرقاء الخالية من الأسنان، ولعاباً رمادياً يسيل من شدقيها. يحملها ويريحها فوق مقبرتها. تستكين فجأة، كأنها استعادت حياتها المفقودة، تظل تكبر في مكانها، وهو يكتب، هنا هواء قصائد، تشيخ، كأن العمر ينقضي وهو يكتبها« ص12.
يرسم الروائي شخصية نصه الشاعر والمفكر والمتمرد وكأنه يستمد حيواته، وقصائده، والنبض في جسده، وتمدد سنوات عمره، من صور ماضيه، ماضيه الذي كوَّن في ذات الشاعر أزمات نفسية موروثة، وجهت حياته وأثرت بها إلي الحد الذي جعله يدفع الحياة الواقعية الحاضرة للهامش، ويصنع ويهيئ متناً حياتياً يعيد فيه كفافيس ذكريات أسرته مع أمه غرائبية الأطوار، وأخته التي تسبب موتها وهي طفلة في طريقة تنشئة خاصة به، كأنه بديل عن هذه الأنثي التي تمنتها أمه وانتظرتها طويلاً بعد عدد من الأولاد الذكور.كما تمثل »فتنة« في النص نوعاً من المواجهة الحدية الصارخة في حياة »كفافيسس: الشخصية الغربية بتعاليها وسيادتها، في مقابل النموذج الشرقي بشعوره بنوع من الانسحاق أمام الأوروبي رغم شذوذه، الشعور بتفوقه: لغته وثقافته وتحضره، في مقابل تواضع ثقافة فتنة وشاعريتها ،كما تجسد فتنة أيضا الأنوثة والسواء ،في مقابل الرجولة والشذوذ، إعجاب وعشق ،في مقابل استخفاف ونفور.
غواية المكان
غواية المكان بتناقضاته المتمثل في نوع من العراقة وجمال الطبيعة ورغبة التحديث وسعي وراءه في مقابل عادات وتقاليد وأوضاع نتيجة تراكمات من عصور التخلف يقول »كفافيس« ».. كل ذلك أتذكره وأنا أستحضر تلك السكندرية التي عذبتها، كأنني أنتقم عبرها من المدنية نفسها« ص25. تقترن »فتنة« في النص دائماً بشريط قضبان الترام كالأسكندرية مدينة وحضارات، بخيطين متوازيين لا يلتقيان، ربما يتمثل هذان الخيطان في علاقتها برجل مثلي، أو قد يشيران إلي حضارتين وطبيعتين، أو قد يبعثان إلي صراع داخلي بذاتها، برغبتها في القبض علي جوهر الشعر وتعاليه عليها، وحياتها التي تنتقم فيها من ذاتها بالتهتك والانحدار والسقوط، كما يستدعي مشهد موت فتنة علي قضبان المترو أو محاولة انتحارها مشهد »أناكارنينا« »لتولستوي« مع الفارق في السياق السردي. وتظهر بعض الشخصيات في النص وهي لا تمتلك جاذبية الحضور أو حتميته فتقع في منطقة ضبابية فيما أري تتبدي »كريستينا« ظلاً وردياً شفافاً وباهتاً يقع عليها عبء رعاية »كفافيس« مع ألكسندر، تعشق قصائده، تتصف بعينين كسولتين، لكنهما متسعتين علي »كفافيس« وشعره، ربما شعرت أثناء القراءة أني أنتظر من حياة شخصية كريستينا التي حركها »إمام« بالنص أكثر مما وفره لها من ضرورة وجود وتفاصيل، وقد يكون الروائي قد تعمد أن يجسد هذه الشخصيات الباهتة الوجود والملامح ليقول هكذا توجد الحياة.
يرسم الروائي لنصه كثير من الشخصيات الغريبة التي تسهم في تشكيل حياة »كفافيس« يتحدث علي سبيل المثال عن »ثيوفيليس« آخر الفلاسفة السكندريين كما يراه »كفافيسس وهو الشخص الذي يصفه »ألكسندر« أنه المتورط في جرائم لا تصدق، قتل، سرقة، إخفاء أطفال ذكور، اغتصاب رجال دين. اللافت للنظر أن كل هذه التعددات التكوينية داخل الشخصيات وداخل طبيعة الوجود تلوَّح بعدمية باردة، وتدفع بمزيد من الخوف في النفس البشرية التي تعاني هذه الحياة. لكن قد يتبادر إلي ذهن المتلقي تساؤل بديهي هل يحتمل العالم من حولنا كل هذه النماذج البشرية الغريبة؟ هل يحتمل هذا الوجود الشبحي والكابوسي، أيحتمل كل هذه البرودة والالتباس في علاقة الفرد: مع مكوناته، مع ذاته، مع الآخرين، مع الزمان والمكان، مع المدينة؟ هل للشذوذ الجنسي كل هذا الثقل في المجتمع؟في ظني أن طبيعة شخصية »كفافيس« والمحيطين به وجميعهم في الغالب نماذج لديها صدوعاتها المختلفة، هي ما فرضت هذا العالم ذي الطقس الغرائبي.
تقدم جميع هذه الشخوص:سكفافيسس »ألكسندر، فورستر، ديمتري، كيرستينا، كلوديا، توتو، فتنة، ثيوفيليس، مجتمع العاهرات، باراسولا، جماعة الحياة الجديدة...، إشارات ودلالات واضحة عن المجتمع الكوزموبولتاني الذي كان يتفاعل بمدينة الإسكندرية، تتجمع فيه الأديان كافة، والانتماءات العرقية والعقدية، يتعايش فيه السلم مع الحرب، العلم مع الجهل، الإيمان مع الإلحاد، السواء مع الشذوذ، يشكل الجميع الحياة في صورتها السمحة التي تنبغي، »إيثاكا« كفافيس ، الوجود الذي يستوعب ألوانه وأطيافه في مدينة صغيرة تنام وتصحو علي شاطئ البحر الأزرق الداكن.
معمار ما بعد حداثي
تتشعب الأصوات السردية في رواية النص فيبدأ الحكي من خلال سارد فوقي عليم يقص الأحداث من خلال سرد ينثر روح الشعر وجوهره، يستدفء في مفتتح الفصول بمقطوعات من شعر كفافيس تعد برزخا لعالم الرواية المنغمسة برحيق الشعر في وصفه: للشخوص، أو الأماكن، أو طريقة تلقي العالم، يقول السارد الضمني وهو يصف ألكسندر: ».. كي يفتشوا عن ملامحه بين فوضاها« ،وعن الإسكندرية لحظة وصولهما إلي الميناء: »حيث لا يزال البحر حقيقياً أكثر من المدينة ومن المسافرينس »والهابطون من السفن ليسوا أمام أنفسهم ذواتاً بعد، ظلالاً لأجساد لم تغادر السفن بشكل كامل« ص 23. يبدأ هذا السارد يشكل عالمه الروائي بلغة ووجدان شعري يتلقي العالم من خلال سؤال العلاقات البعيدة، البينية، علاقات تنفذ إلي لب الوجود وتنثره مجازاً يغلف ماديته.
يتخير الروائي هذا السرد الشعري اتساقاً مع العالم الذي سيدور حوله النص، عالم كفافيس، ولذا سيشعر القارئ الذي اطلع علي شعر كفافيس أن هناك تناصاً مع روح إبداع كفافيس الشعري، ثم ما يلبث أن يخفت بدرجة طفيفة هذا السرد الشعري حين ينتقل الصوت السردي لألكسندر صديق كفافيس، ويتناسب حينها مع أعداده وكتابته لنص روائي عن كفافيس، يتحول السرد إلي روح الحكي: الذي يتضمن التحليل النفسي، شذرات من الماضي تنثر لتشكيل أبعاد تاريخية وثقافية للشخصيات، يتحول التعامل مع الزمان والمكان إلي طبيعة التقنيات الروائية التي تتقافز بين لحظة الحاضر أو ماضي الشخوص والأحداث أو انتظار الموت في لحظة ستأتي، يستعين الكاتب أيضاً بقصاصات يلقيها كفافيس عمداً لألكسندر، خطابات، تعليقات، مقطوعات شعرية ليوجه ألكسندر وروايته، ويلهو عامداً بكل من هم حوله، لكن يظل السرد الخاص بالرواية رغم تحوله النسبي إلي لغة أكثر تخففاً من المجازات والتكوينات الأسلوبية التي تميل إلي الغموض الشفيف، إلا أنها تظل بها مسحة من الشاعرية التي تتسق مع الجو العام لشخوص العمل.
يتحول السرد إلي منطق اللهو مع العالم، والسخرية منه، والشعور بالعدمية حين يحكي الروائي عن تلصص كفافيس علي الرواية التي تكتب عنه، بل ومشاركته ضمناً في دفع إشارات حقيقية أو متخيلة إلي ألكسندر.
لغة السرد
تعلو لغة السرد وتزداد عمقاً في الأفكار، بل وتعرض الأفكار من زوايا غريبة وغير متداولة وهي تعبر عن تلقي »كفافيس« للعالم وقيمه ومعانيه، وللآخرين من حوله يكتب »كفافيس« عن الإسكندرية وتعلقه بها ويعلق علي طبيعة أهلها يقول: »فأنا في النهاية لا أعيش معهم« فقط أعبرهم في المشاهد الضرورية التي يوجدون فيها« ربما نختلف في رؤيتها قليلاً.. هناك فارق بين أن تكون إبناً لمدينة أو ابناً لساكنيها.. وربما أكون ابناً لمدينة أخري سالفة غير أنها كامنة هنا.. المكان الذي يندثر هو تحديداً ما يشد المرء كي لا يغادره.. إنه عذاب شخصي.. لن أستطيع أن أترك هذه المدينة.. لأن ما اندثر هنا سيكون مندثراً أينما حللت..« ص 24.
تبقي هذه الرواية قادرة علي صنع عالم خاص بها، لها فرداتها وخصوصيتها الفنية والفكرية.فحين تصل إلي نهاية النص ستشعر كأنك كنت بإزاء حياتين أو حيوات، مشاهد متنوعة تتحرك في أزمة متنوعة وأماكن متعددة، بأشخاص وأحداث غريبة، مشاهد تقف في مقابلات حدية، صريحة واضحة، أو غائمة حلمية معتمة، في النهاية تشعر أنك بإزاء حادثة مروعة، تصادم بين الحيوات وأشكال الوجود، كل هذه الكيانات والصروح التي أقيمت وتنفست وعانت لا تلبث أن تتهاوي، وكأن المحصلة صفر، لا شئ.
وربما تتساءل في أعماقك أكان هناك نص، عمل روائي بدا مشيدا كالكتدرائية؟أم أن كل هذه القباب والأسقف في النهاية قد انفتحت علي سماوات واسعة، لتنطلق منها فراشات الفن والأفكار، الثابت الوحيد أن هناك لغة شديدة التركيب والأناقة تخيرها الروائي لنصه، لغة ذهنية تتراوح مستوياتها بحسب طبيعة مستويات السرد، فاللغة عند طارق إمام ليست وسيط محايد، بل هي وسيط شديد الانغماس، صانع فاعل للوصول إلي عدمية مروعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.