بتأمل الأممية الدينية من جهة والقومية (الوطنية أو العروبية) من جهة يظهر لي أن الأولي قد غذت الثانية باستمرار رغم الخلاف المعلن بينهما.يفترض هذا المقال أن فكرة الأمة لم تكن الفكرة الأساس لتأسيس النظرتين ولكن بالأحري فكرة الامبراطورية. في الأممية الدينية ثمة لحظة امبراطورية كانت "الأمة" فيها قوية، منتصرة، وباطشة أيضا، مارست الاستعمار تجاه الأمم الأخري. يفخر الإسلامي بزمان الوصل في الأندلس رغم أن إمبراطوريته فتحت البلاد استعمارا، وللتغطية علي استعمارية اللحظة الامبراطورية أخلاقيا يسمي الغزو "فتحا" ويكون الغرض من الغزو/الفتح "هداية" الأغيار/الكفار/الشعوب الأخري. بالنسبة للقومي العروبي بالذات ثمة لحظة امبراطورية لم توجد بعد، لحظة امبراطورية محتملة في المستقبل. أما القومية الوطنية فإنها تقف في منتصف الطريق بين الاثنتين: ففي ماضي القومية الوطنية لحظة امبراطورية حقيقية (استعمارية أيضا) في وسط تاريخ طويل من التعرض للاستعمار، وفي مستقبلها لحظة امبراطورية محتملة، لهذا يفخر القومي المصري مثلا بأن دولته امتدت حتي الرافدين شرقا وبرقة غربا وشمال السودان جنوبا، رغم أن هذا الامتداد حدث بالعدوان، وتجده يعاير الشعوب الأخري بالأسبقية وبالتنوير (رغم أن التنوير لا يلائم التعالي علي أي نحو). وإذا كانت اللحظة الامبراطورية الإسلامية تحققت بوجود "الأمة" فإن اللحظة الامبراطورية العروبية المتخيلة واللحظة الامبراطورية المصرية مشروطتان بوجود "الأمة" أيضا. فما هو مفهوم الأمة؟ يرتبط مفهوم الأمة بمفهوم الهوية. ثمة جماعة من البشر اجتمعوا في لحظة ما بالتشارك في هوية مميزة. هذه الجماعة لم يقلل اتصالها بالجماعات الأخري من النقاء المتخيل. النقاء الهوياتي سمح علي الدوام لهذه الجماعة بأن تكون مميزة عن الجماعات الأخري، ليس هذا فحسب، بل إن هذا النقاء منح هذه الأمة "تفوقا" و"جدارة" ومن ثم "استحقاقا" تاريخيا. الجماعة الإسلامية مُنحت التفوق والجدارة والاستحقاق بأمر إلهي "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، فيما منحت الجماعة العربية تفوقها وجدارتها واستحقاقها بالعرق واللغة (وتلك حظيت بتفوق علي نظيراتها باعتبارها لغة الله أو كلام الله علي أقل تقدير) فيما مُنحت الجماعة المصرية تلك الهبات بإنتاج الحضارة (رغم أنها توقفت عن هذا الانتاج منذ ألف عام علي الأقل). المهم أن استعادة المركز الطبيعي لهذه الجماعات مرهون باستعادة الأساس الهوياتي لكل منها. استعادة الامبراطورية الإسلامية مرهون باستعادة الالتزام بكلام الله، واستعادة الامبراطورية العروبية (التي لم توجد) بالتوحد كجماعة نقية وبالحرص علي اللغة بالطبع، واستعادة الامبراطورية المصرية باستعادة الدور الريادي الحضاري (استعادة وجه مصر استعادة روح مصر إلخ هذه المسميات التي لا تعني شيئا إلا بوجودها بإزاء آخر، إذ لا معني للروح الأمة المصرية إلا بإزاء روح غير مصرية، كما أنه لا معني للأمة الإسلامية إلا في مواجهة أمة غير إسلامية). لهذا فإن النظرات الهوياتية الثلاث تؤسس لنفسها مركزا في الماضي، أو نقطة ابتداء، والدليل علي مركزية مفهوم الامبراطورية أكثر من مفهوم الأمة نفسها أن الأممية الإسلامية تؤسس أسطورتها علي الدولة أكثر منها علي الدعوة رغم أنها بالطبع تشرعن الدولة علي الدعوة. الفارق بين الدولة والدعوة أن الأولي تلحق علي الثانية وترتبط بالخلافة الراشدة وما تلاها من دولتين (أموية وعباسية)، وهي اللحظة الأسطورية المرهونة باستعادتها استعادة الهبات الإلهية، أما الدعوة فهي فترة ما قبل الدولة التوسعية الاستعمارية إن جاز القول. وعليه فإن الأممية الإسلامية تؤسس مركزها علي تلك اللحظة فيما وجدت العروبية مركزا لتأسيس نفسها علي أسطورة أكتوبر بالذات (باعتبارها لحظة انتصار وباعتبارها لحظة تضامن عروبي) في الوقت الذي تؤسس فيه القومية الوطنية مركزها علي لحظتين (اللحظة الفرعونية بمجدها العمراني والتوسعي الاستعماري واللحظة الستينية بزمن فنها الجميل)، الفكرة الأخيرة صحيحة ولكنها ناقصة، يمكن استكمالها بالنظر للتعالي الوطني الذي يكرر باستمرار قصصه القديمة سواء عن توسع الدولة المصرية القديمة شرقا وغربا أو عن قوة ناصر التي جعلته يتعامل مع أقرانه العرب بزعامة شيخ قبيلة فيهدد بنتف لحي الملوك العرب أو التي جعلته يواجه الغرب ندا لند، إضافة طبعا لتهديده بإلقاء اليهود في البحر. وللحفاظ علي هذا المركز (الهوياتي الامبراطوري) علي الدوام يحتاج الأممي إلي حدود وأعداء. الإسلامي يدافع عن الدين (حدود) ضد أعداء الدين (كل الذين لا ينتمون سياسيا إليه بالجملة). العروبي يدافع عن الأرض/التراب (حدود) ضد المتربصين (أعداء الأمة المرموز لهم بالاستعمار بالجملة). القومي الوطني يدافع عن الكرامة والعزة (حدود) ضد الذين لديهم عقد نقص عديدة تجاهه والذين يحسدونه طوال الوقت (الأقل حضارة بالذات). اللافت للنظر أن العروبي المصري والقومي المصري يتشاركان قواسم عديدة من الحدود والأعداء، الفارق أن العروبي المصري يقلل من التعبير عن التفوق الحضاري قدر الإمكان أملا في الوحدة مع أخيه العربي فيما لا يفوت القومي المصري أية فرصة للتعبير عن هذا التفوق. ولاستمرار كل هذا فإن للدم كمفهوم مركزية كبيرة، خصوصا بالنسبة لهؤلاء الذين يتقاسمون التفكير في جماعتهم المتخيلة ك "عرق". قال عمر بن الخطاب ذات مرة "تعلموا النسب ولا تكونوا كنبط السواد (العراقيين الآراميين) إذا سُئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا". هذه عبارة تدلل علي مركزية الدم في الخطاب السياسي الإسلامي رغم أن الأممية الإسلامية تفترض تجاوزها. والملاحظ أن الإسلام وإن كان قد اتخذ موقفا من هذه النظرة العرقية "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فإن التاريخ الإسلامي يدلل علي أن التشدد الإسلامي تجاه العرقية لم يفلح كثيرا بدليل أن كل الذين خلفوا الرسول بداية من أبي بكر وانتهاء بآخر خليفة عباسي كانوا من قريش! إضافة إلي ذلك فإن الإسلاميين دشنوا تراتبية عرقية تضع علي قمة هرمها الأشراف (الذين يرجع نسبهم لآل البيت، رغم مرور أربعة عشر قرنا). أما القومية فلا حاجة لإعادة رصد صلتها بالعرق! المهم هنا ليس فحسب في دلالة الدم في اتصالها بالعرق ولكن في خضوع الدم للاستعمال السياسي علي الدوام، بالطبع يظل قميص عثمان الرمزية الكبري لهذه الاستعمالية، لكن القومي أيضا يتشارك الإسلامي في استعمال أي قميص ملطخ بالدم لاستمرار الصراع ضد العدو دفاعا عن الحدود(استخدام اللفظ الديني "شهيد" من كل الأطراف مهم في هذه المسألة). أي أن تغذية الحرب علي الدوام هي شرط وجود هذه الجماعة، لأن الجماعة لا يمكنها التفكير في نفسها كذات إلا في وجود آخر، لا يمكنها التفكير في نفسها كذات إلا في حرب وجود مع الآخر (كقاتل ومقتول). والحقيقة أن زرع إسرائيل في المنطقة منذ سبعين عاما وفر ذريعة كبيرة لتوالي إنتاج كل هذه الأساطير، فهي كجماعة استعمارية منحت الأممية الإسلامية قبلة الحياة باعتبارها أي اسرائيل مؤسسة علي الدين، فيما منحت شرعية للقومية العربية لأنها برهنت علي صحة الافتراضات التي قامت عليها (المؤامرة علي العروبة كمثال)، فيما أحيت الوطنية المصرية خصوصا وقد ظلت الأخيرة في المواجهة المباشرة عسكريا مع إسرائيل منذ تأسيسها. ورغم معاهدة السلام مع مصر، ورغم توقف العرب عن التهديد المتبادل مع إسرائيل، فإن الأطراف كلها كما لو كانت قد اتفقت علي أن وجودها أصبح مرهونا بوجود الآخر، ومن ثم استمرت الأطراف كلها (بما فيها إسرائيل) في إعادة إنتاج الأساطير القديمة، ولا يبدو في الأفق أن ثمة أملا في التوقف عن إنتاج هذه الأساطير لصالح المستقبل. ثمة عبارة تقول إن الهدف من الحرب هو إنهاء الحرب. هذه عبارة لا تناسب أيا من الجماعات السابق ذكرها بأي حال من الأحوال. بالنسبة لي أحلم بزمن ما بعد الحرب.. الحرب التي تخاض من أجل إنهاء كل الحروب. قال شارلي شابلن ذات مرة "أنا أشعر بأني مواطن في كل العالم. وأشعر أنه عندما يحين الحين سوف تزول الحواجز بين الشعوب والأمم، وينتقل الناس من مكان إلي مكان في أي بقعة في العالم، وسوف يصبحون جزءا من أي قطر فيه، وقد كان هذا علي الدوام شعوري بالمواطنة".