حقق بول أوستر و ج. م. كوتزي حلماً محتملاً لكثير من قرائهما حين نشرا مراسلاتهما علي مدي ثلاث سنوات في كتاب بعنوان هنا والآن.. رسائل 2008 2011" الذي صدرت طبعته العربية مؤخراً عن دار الكتب خان، بترجمة للشاعر والروائي أحمد شافعي. في "هنا والآن" ينتقل كوتزي وأوستر من الاقتصاد إلي الرياضة والأدب والنقد والسينما، ويتابع القارئ تطور النقاش بينهما مقارناً بينهما ومتعرفاً علي جوانب من حياتيهما. تكشف الرسائل بوضوح عن انتماء كل منهما إلي مزاج مغاير تماماً للآخر رغم حرصهما علي تعميق صداقتهما والإلحاح علي المشترك بينهما: كوتزي ابن الرصانة والجدية وأوستر الأكثر انفتاحاً علي البوب آرت والثقافة الشعبية. يمكن للقارئ أيضا الإحساس ببعض توجس من جانب أوستر أمام جدية كوتزي التي لم تنجح الحميمية المفترضة للخطابات في التمويه عليها؛ أكثر من مرة يجد أوستر نفسه مضطراً لشرح نكتة ما أو نفي إعجابه الشديد بمخرج أو شخص لا يتحمس له كوتزي كثيراً. غير أن شخصية أوستر المنفتحة مقارنةً بصديقه، وحكاياته ذات اللمسة الإنسانية المؤثرة إضافة لتنوع جوانب شخصيته، هي ما حمت المراسلات من أن تكون مضجرة. ربما تكون بداية المراسلات عام 2008، أي في ذروة الأزمة المالية العالمية، هو ما دفع الاثنين للنقاش حول الاقتصاد العالمي رغم أن معرفتهما بخباياه غير عميقة وإن كانا قد نجحا في تغليفها بغلاف ثقافي وفكري. يكتب أوستر في رسالة إلي كوتزي بتاريخ 10 يناير: "سعادتي لا توصف بانتهائنا من المناقشة في الاقتصاد، فهو موضوع لست مؤهلاً للحديث فيه"!! وهي جملة عابرة لكنها تثير تساؤل: وما الداعي أصلاً لمناقشة موضوع ثقيل هكذا علي قلب أحد المتراسلين؟ أما الرياضة، فالنقاشات حولها ممتعة ومتنوعة، وكل كاتب منهما لديه ما يضيفه من أفكار وتأملات حولها. فأوستر يتكلم عن المكون السردي في الرياضة واقترابها من روايات الإثارة والروايات البوليسية ورؤيته لها كنوع من الفن الآدائي. وكوتزي يحتج علي النظر إليها كمسألة جمالية فقط، ويتكلم عن الاحتياج إلي الأبطال، "ذلك الاحتياج الذي تشبعه الرياضة." غير أن أمتع ما في الكتاب هو الأجزاء التي تتناول الكتابة وأسئلتها وما يحيط بها من نقد وتلقٍ وقلق، وفي هذا الصدد ثمة تفصيلة لافتة جدا، تكشف الاختلافات بين الكاتبين الكبيرين في الخيال ونقطة الانطلاق للكتابة، حين يسأل أوستر: "لو أنك تقرأ ما يلي ز يا ما كان، عجوز تعيش مع ابنتها عند حافة غابة مظلمة، فما الصور التي تؤلفها في نفسك إن كنت تؤلف صورا؟" ويجيب عن سؤاله بأنه يتخيل "امرأة قصيرة ممتلئة حول خصرها مريلة، وفتاة مراهقة نحيلة ذات شعر أبيض طويل وبشرة بيضاء، ودخاناً يتصاعد من مدخنة الكوخ. هل يمقت العقل الفراغ؟ هل هناك حاجة إلي تكوين الغامض عديم الشكل، وتجسيد الحدث، أم يمكن أن ترضي نفسك بالكلمات علي الصفحة، في ذاتها وبذاتها، ولو أن الأمر كذلك، ما الذي يحدث لك حينما تقرأ هذه الكلمات؟" أما إجابة كوتزي الدالة: "يبدو، عند المقارنة معك، أنني ذو خيال بصري شديد الفقر. في عملية القراءة الطبيعية، لا أعتقد أنني "أري" أي شيء علي الإطلاق. ولا يحدث، إلا إثر طلبك تقريرا، أن أرجع فأجمع عجوزا في عين عقلي وابنة وكوخا وغابة، ولكنها جميعا صور أولية. ما يبدو حقا أنه لدي، كبديل عن الخيال البصري، هو ما أسميه في إبهام بالهالة النغمية. وعندما يرجع عقلي إلي كتاب معين أعرفه، يبدو أنني أسترجع هالة معينة، وبالطبع لا سبيل إلي وصفها بكلمات ما لم أعد فعليا كتابة الكتاب." "هنا والآن" كتاب كاشف، بين ثناياه، لما وراء الكتابة عند أوستر وكوتزي، والترجمة تتسم بالرشاقة والحفاظ علي الطابع الحميمي للمراسلات.