وكيل الرياضة بالدقهلية تعقد اجتماعا موسعا مع مديري الإدارات الداخلية والفرعية    «المركزي»: البنوك إجازة يومي الأحد والاثنين بمناسبة عيد العمال وشم النسيم    فى مواجهة التحديات    موعد صرف معاشات مايو 2024 بالزيادة الجديدة.. والاستعلام عن معاش تكافل وكرامة بالرقم القومي    السردية الفلسطينية!!    السفارة الروسية: الدبابات الأمريكية والغربية تتحول «كومة خردة» على أيدي مقاتلينا    رحيل كلوب.. الإدارة الجديدة.. والبحث عن تحدٍ مختلف    أنشيلوتي: ماضينا أمام البايرن جيد وقيمة ريال مدريد معروفة لدى الجميع    بسبب أولمبياد باريس.. مصر تشارك بمنتخب الناشئين في بطولة إفريقيا للسباحة للكبار    أمن المنافذ يضبط 19 قضية متنوعة و1948 مخالفة مرورية    حفل زفاف أسطورى    عبقرية شعب.. لماذا أصبح شم النسيم اليوم التالى لعيد القيامة؟    تعرف على أفضل الأدعية والأعمال المستحبة خلال شهر شوال    جامعة قناة السويس تُطلق قافلة طبية لحي الجناين بمحافظة السويس    أحلى فطائر تقدميها لأطفالك.. البريوش الطري محشي بالشكولاتة    الهند.. مخاوف من انهيار جليدي جراء هطول أمطار غزيرة    العرض العالمي الأول ل فيلم 1420 في مسابقة مهرجان أفلام السعودية    إيرادات الأحد.. فيلم شقو يتصدر شباك التذاكر ب807 آلاف جنيه.. وفاصل من اللحظات اللذيذة ثانيا    وكيل تعليم بني سويف يناقش الاستعداد لعقد امتحانات النقل والشهادة الإعدادية    الشيخ خالد الجندي: هذه أكبر نعمة يقابلها العبد من رحمة الله    مصري بالكويت يعيد حقيبة بها مليون ونصف جنيه لصاحبها: «أمانة في رقبتي»    حجازي: نسعى للتوسع في «الرسمية الدولية» والتعليم الفني    ردود أفعال واسعة بعد فوزه بالبوكر العربية.. باسم خندقجي: حين تكسر الكتابة قيود الأسر    فرقة ثقافة المحمودية تقدم عرض بنت القمر بمسرح النادي الاجتماعي    بالتعاون مع المدارس.. ملتقى لتوظيف الخريجين ب تربية بنها في القليوبية (صور)    رئيس «هيئة ضمان جودة التعليم»: ثقافة الجودة ليست موجودة ونحتاج آلية لتحديث المناهج    انطلاق القافلة «السَّابعة» لبيت الزكاة والصدقات لإغاثة غزة تحت رعاية شيخ الأزهر    الاقتصاد العالمى.. و«شيخوخة» ألمانيا واليابان    إصابة شخص في تصادم سيارتين بطريق الفيوم    الإصابة قد تظهر بعد سنوات.. طبيب يكشف علاقة كورونا بالقاتل الثاني على مستوى العالم (فيديو)    بعد انفجار عبوة بطفل.. حكومة غزة: نحو 10% من القذائف والقنابل التي ألقتها إسرائيل على القطاع لم تنفجر    تأجيل نظر قضية محاكمة 35 متهما بقضية حادث انقلاب قطار طوخ بالقليوبية    زكاة القمح.. اعرف حكمها ومقدار النصاب فيها    تأجيل محاكمة مضيفة طيران تونسية قتلت ابنتها بالتجمع    لتطوير المترو.. «الوزير» يبحث إنشاء مصنعين في برج العرب    تردد قنوات الاطفال 2024.. "توم وجيري وكراميش وطيور الجنة وميكي"    وزيرة الصحة يبحث مع نظيرته القطرية الجهود المشتركة لدعم الأشقاء الفلسطنيين    تنظيم ندوة عن أحكام قانون العمل ب مطاحن الأصدقاء في أبنوب    النشرة الدينية .. أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة .. "خريجي الأزهر" و"مؤسسة أبو العينين" تكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين    صحتك تهمنا .. حملة توعية ب جامعة عين شمس    إيران: وفد كوري شمالي يزور طهران لحضور معرض تجاري    وزير المالية: نتطلع لقيام بنك ستاندرد تشارترد بجذب المزيد من الاستثمارات إلى مصر    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    وزير التجارة : خطة لزيادة صادرات قطاع الرخام والجرانيت إلى مليار دولار سنوياً    شروط التقديم في رياض الأطفال بالمدارس المصرية اليابانية والأوراق المطلوبة (السن شرط أساسي)    الصين فى طريقها لاستضافة السوبر السعودى    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    إصابة عامل بطلق ناري في قنا.. وتكثيف أمني لكشف ملابسات الواقعة    515 دار نشر تشارك في معرض الدوحة الدولى للكتاب 33    فانتازي يلا كورة.. دي بروين على رأس 5 لاعبين ارتفعت أسعارهم    رئيس جهاز حدائق العاصمة يتفقد وحدات "سكن لكل المصريين" ومشروعات المرافق    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    مصطفى مدبولي: مصر قدمت أكثر من 85% من المساعدات لقطاع غزة    اتحاد الكرة: قررنا دفع الشرط الجزائي لفيتوريا.. والشيبي طلبه مرفوض    تراجع أسعار الذهب عالميا وسط تبدد أمال خفض الفائدة    شبانة: لهذه الأسباب.. الزمالك يحتاج للتتويج بالكونفدرالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قاص القرية
»زبيدة والوحش«.. عطية الابن لأبيه الشيخ سعيد الكفراوي: أعيش الموت كل يوم
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 01 - 2016

في إحدي ليالي شهر يناير عام 1939، دوت بقرية حجازي في محافظة الغربية؛ صرخة ميلاد، أتي معها واحد من علامات فن القصة القصيرة بمصر فيما بعد، الذي نهل من تلك القرية، ثم سعي منها حتي التقي بجيل من الكتاب والشعراء أواخر الستينيات.. عاش "سعيد الكفراوي" مع تلك الكوكبة التي أعطت ولم تأخذ شيئاً؛ إلا مجد الكتابة الصالحة، رحل منهم من رحل، وبقي من بقي، يحملون كل المعاني الجميلة التي انشغلوا بها ولا تنفصل تجاربهم عن تلك المتغيرات التي جرت عبر 60 عاماً.
جاء الكفراوي إلي المدينة، عاش فيها ولكن قلبه ظل معلقا بقرية قديمة تنطوي تجربتها علي عمقها الخاص، بخلاف ذلك العالم الذي يتهدده المحو، فأمضي عمره مشغولا بجدليات القرية والمدينة والمكان والزمان والصبي والكهولة والحياة والموت، استمد أحداث نصوصه من واقع عاشه، ومن بشر كان منهم، وبإخلاص وصبر أفني عمره في كتابة القصة القصيرة، فكانت المحصلة 12 مجموعة قصصية هي: بيت للعابرين، شفق ورجل عجوز وصبي، حكايات عن ناس طيبين، مدينة الموت الجميل، مجري العيون، أيام الأنتيكا، يا قلب مين يشتريك، كشك الموسيقي، البغدادية، دوائر من حنين، سدرة المنتهي، ستر العورة، وله قيد النشر "قمر في حجر الغلام".. ترجمت أعماله إلي عدد من اللغات كالإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، التركية، السويدية والدنماركية، فصدر عن "الجامعة الأمريكية للنشر" مجموعة "تلة الغجر" بالإنجليزية، وعن دار "أكت سود" مجموعة "كشك الموسيقي" بالفرنسية.
في نهاية العام الفائت، صدر للقاص سعيد الكفراوي عن الدار المصرية اللبنانية؛ كتاب "زبيدة والوحش"، الذي يضم 6 مجموعات هي: سدرة المنتهي، ستر العورة، مجري العيون، بيت للعابرين، مدينة الموت الجميل، ودوائر من حنين، برؤية بصرية لابنه الفنان "عمرو الكفراوي"، وهو ما اعتبره الكفراوي الأب "عطية الابن لأبيه الشيخ"، واعتبرناه نحن تتويجا لمشوار مبدع؛ أكمل منذ أيام عامه ال77، فذهبنا إليه لنحاوره حول تجربته القصصية.
بدأ حوارنا مع صاحب "مدينة الموت الجميل"؛ بقصة من الباب الضيق لشخصه، وبصمته علي الرافد الذي اختاره، ومفرداته، وانتهي بمشهد عام يحتاج لرؤية متفحصة ودقيقة لإدراكه وفهم تلابيبه؛ لكنه يجبرك علي الصمت طويلا بعد لحظات من محاولة وصفه.
إذا شرعت في كتابة قصة سعيد الكفراوي. من أين ستبدأ؟
من هناك؛ عند أول حافة للدنيا، من الميلاد الأول، من الطين والمكان الذي فتحت عيني عليه، من عند الناس الذين عرفتهم وعشت بينهم، والمنزل الذي يقبع في قرية قديمة كانت تقام بها الأفراح، فأسمع دق الطبول وموسيقي فرقة مؤجرة، فهناك رأيت تحت نور الكلوبات "عالمة" تغني وترقص شديدة البهاء والبياض، فظلت في ذاكرتي طوال السنوات، وفي الساحة نفسها كان المآل للكبار، يجلسون علي المصاطب ودكك مقهي قديم بائس، يحكون عن عوالم غريبة وأساطير، وأنا مفتح العين بالدهشة.
وفي الجوار كان دكان الإسكافي، كتبت عنه في قصة "سنوات الفصول الأربعة"، حيث كان يجالس جماعة لها إيقاع خاص في الحكي، أغراب وأولاد بلد، وكان بينهم من يحكي ألف ليلة وليلة، أذكره؛ ذلك الغريب، بتلفيعته حول رقبته وطاقيته الصوف ولمعة عينيه الخاطفة، فاستعيد نبرة صوته يحكي من الليالي.. فضاء أقام بداخلي إيقاعه، وأمضيت حتي آخر العمر أكتب به ما كتبته من قصص، فكانت بداية تتواصل مع بدايات أخري كثيرة لاحقة شكلت الوعي والتجربة.
لماذا القصة القصيرة؟
الحقيقة أنا لا اعرف، لم أجرب شكلا آخر للكتابة يجذبني إلي أرضه، رحل من كتبت معهم إلي زمن الرواية وتركوني هنا؛ محمد المخزنجي وأنا نمارس كتابة هذا الشكل بصبر غير اليائسين، فذات مرة نويت أن أكتب رواية؛ لم تكتب، لا أذكر أن أحدا دخل إلي محراب الكتابة بتلك النية البائسة، فالكتابة أرزاق كما يقول عمنا كبير المقام إبراهيم فتحي، والقصة في النهاية هي الجنس الأدبي شديد الخصوصية الذي ساعدني عبر بنائه ولغته وإيقاعه علي التعبير عن التجربة الإنسانية التي عشتها. تجربتي جعلتني طوال الوقت من المؤمنين أن كاتب القصص الجيد يختار موضوعاته مما يعرفه عن أحوال الناس، وأن عليه إن كان صاحب موهبة حقيقية أن يحول ذلك العادي من حياتهم والمألوف من طبائعهم إلي فن حقيقي، هل تذكرين قصة "الأمهري" ذلك الرجل الذي بيع طفلا في أسواق الإسكندرية، حيث غيروا دينه بعد أن جاء من بعيد ولكنه لم ينس أبدا تلك الترانيم المسيحية التي كان يسمعها، وظل يردد حتي مات أن تغيير دين الآدمي شيء صعب جداً، أنا أعشق هذه القصة لأنها في نهاية الأمر حاسمة ومصيرية، وتشبه في معناها وشكلها ما كتبه المعلم أنطوان تشيكوف.
كما أنني من المؤمنين بأن قصة جيدة تساوي رواية جيدة، بل وفي بعض الأحوال، تكون القصة - في رأيي - أكثر تواصلاً مع الإنسان، لأنها علي نحو مبدع وبإيقاع شديد الندرة تكون أكثر إنسانية، فليرحم الله أستاذي إدوار الخراط الذي قال يوما: "القصة تسعي إلي المعرفة وتجابه أحوال الحياة والموت".
فضاء الكتابة فيما تكتبه؛ غالباً فضاء قروي، المكان والزمان أكاد أطلق عليهما نفس الوصف. لماذا اخترت المشهد القروي/الريفي لتجسد فيه الكثير من عوالمك؟ ولماذا لم ترغب في التعبير عن عوالم أخري؟
تستمد التجربة توغلها من هذا العالم؛ حيث الميلاد وربما الموت، وإن كان لهذه التجربة عمقها الخاص فبفضل تأمل قضايا هذا العالم وأحواله، ثقافة الكاتب كما تعرفين استمدها من تلك الانشغالات التي تعني الإنسان، وتهم الكاتب أيضاً، فالهوية هي التي تكوّن الضمير، والانتماء يتفاعل مع حياة الإنسان، بالذات الحياة في ماضيه حيث عاش فترات التكوين الأولي.
أنا أمضيت حياتي وبصدق منتميا لانشغالات لم تفارقني حتي اليوم؛ جماعة أخلصتُ لها وقضيت عمري كله وفيا لها، ومكان ما تزال أشباحه حتي اليوم تقلق مضاجعي، ومصير إنساني اقترب من نهايته حيث الرقدة الأخيرة في مقبرة علي حافة أبدية هذا العالم.. سنوات طويلة من العمر انشغل فيها الإنسان بجدليات هذا الفضاء الريفي، الذي يبدو للبعض محدودا إلا أنه عميق مثل بئر، وكلما أوغلت فيه اكتشفت كم أنت تعيش علي الشطآن البعيدة له.
بتجرد؛ وبعيدا عن تجربتك الشخصية، هل أنت مع التنوع في أشكال الكتابة حسب حالة الكاتب وما يعتقده ويتراءي له أم أنت مع التخصص؟
أعتقد أنه مع الكتابة الجيدة لا يحدث مثل هذا الشيء، فأحدهم قال ذات مرة ان الشاعر تنطوي تجربته علي الإصغاء لأنين الوجود، وأن الشاعر الموهوب هو الذي ينزل إلي طبقات الموت ثم يعود ليحكي عن سفره محولا الجحيم إلي غناء، هذا شعر لا يعرف التخصص، وينبذه.
ما أقصده هو أن أي كاتب يمارس فعل الكتابة لأنه في الأول والآخر يحاول القبض علي إيقاع يضبط به الأحداث، وكما تعرفين لا توجد قواعد ثابتة للكتابة، فالبعض يمارس كل أشكال التعبير والبعض الآخر يعيش ليكتب عن تراكم تجاربه، ويمارس إبداعه من خلال شكل واحد عرف به وأمضي عمره خادما في محرابه، في النهاية لا شيء يحكم الكتابة إلا النتيجة، تلك النتيجة التي تسفر عن النجاح أو الفشل، التخصص يكون في مهن العلم ذات النتائج الحاسمة، أما الأدب فيقوم علي الاحتمالات وإجاباته مفتوحة علي تلك الاحتمالات.
ثمة عناصر شكلت وعيك وساهمت في تكوين إخلاصك للكتابة وظلت ملازمة لك طوال تجربتك الأدبية، حدثنا عن تلك العناصر.
لابد أن أعترف بأن أي كاتب يمارس الكتابة هو ذات خاضعة لشروط وتاريخ عاش بهما، يتمثلان في مشاغل واهتمامات حاضرة في وعي الكاتب، تمثل بالضرورة مكونات معارفه، فأنا وأي كاتب في مصر؛ عشنا وقرأنا تاريخ هذا البلد، وبحكم العمر عشت الظلال الأخيرة للحقبة الملكية، وتعلمت وعشت زمن حركة يوليو 52، وزمن هزيمة 67 ونتائجها المروعة، ثم الانفتاح الاقتصادي ومرحلة الفساد المرعب حتي ثورة 25 يناير التاريخية، ما أدركته طوال عمري أنني انتمي لشعب من المحرومين، يعيشون نقائضهم في التعليم وهمّ الحياة، ومجابهة المظالم، وسطوة السلطان، وقرأت تاريخه فوجدته شعبا عاش عبر زمنه ذل تلك المظالم، وتواتر الأمم علي حكمه من كل الملل والنحل، هؤلاء الذين كانت حرفتهم الحرب والنزال والفتوح، فيما هو لا يجيد إلا فعل صناعة الحضارة وبناء المساجد والأضرحة، وصناعة التحف وزراعة الأرض.
كانت معرفتي بهذا التاريخ هي العناصرالأولي التي شكلت وعيي وما أري، وما أحكم به من موازين، كانت الحياة في القرية بكل طقوسها عاملا أساسيا وعنصرا مهما في تكوين رؤيتي للدنيا، والمعيار الأساسي للقيم: الظلم والعدل، الاستبداد والحرية، العادة والأسطورة، وأسئلة المصير: الموت والحياة، وكذلك المكان والزمان، الكهولة والطفولة، ثم ما أدركته منذ الطفولة الأولي من قراءة وحسن الإصغاء لأصوات الآخرين.. كثير من المعاني عرفتها من الحياة، وانطوت عليها تجربة الكاتب؛ تلك التجربة التي يبحث عن ثقافة تماثلها، سواء في النظر إلي الحياة أو في كتابة قصة من القصص.
زمن المحلة الكبري؛ الزمن الأول للخطوة الأولي وتكوين الجماعة، ثم الرحيل إلي القاهرة. ما هي تأثيرات تلك الفترة عليك؟ وما هي ملامح زمنها الماضي؟
ينبع من الماضي صوت الشعر، فتتردد في القلب المعاني؛ "يا من تعود من الجبال كان عليك أن تهبط البلد/ قل لي كم أقحوانة أزهرت تحت نوافذ منزلي؟/ بين المحلة وكفر حجازي نهر من الماء الجاري والأحلام/ والزمن موغل في ذاته إلا أنه حي في الذاكرة/ تجمعهم الظروف والسكك وعشق الكلام"، والزمن أول الستينيات حيث الصوت القومي يهدر في جنبات الوطن الكبير بالتحرر ومحاربة الاستعمار والقضاء علي الإقطاع والبتر الكامل لزمن ماض كانت محاسنه أكثر من مساوئه، فترة التكوين الأول والبحث عن ملاذ في الكتابة ومحاولة النفاذ إلي عالم خاص والتشبث بالخروج من ظروف عيش محاصرة إلي زمن آخر، اجتمعنا حول القصة، حيث تأتينا أصداؤها من القاهرة عبر أصوات جديدة منفردة، والشعر؛ حيث كان الإمام محمد عفيفي مطر يجاورنا بكفر الشيخ ويتهيأ لدوره الفاعل في الشعر المصري، كما زارنا ذلك الحين يحيي الطاهر عبدالله وخليل كلفت وجميل عطية إبراهيم، وقبلهم الراحل الكبير إدوار الخراط الذي أمضي معنا أياما لا تنسي، هؤلاء الزائرين كانوا صوتا هيأنا للرحيل باستثناء الصديق "جار النبي الحلو" الذي أحسن المكان ضيافته وكذلك البشر فآثر المكوث هناك.
كنا في ذلك الوقت نعيش بعض الأسئلة منها القديم والحديث، وكانت مشاغلنا كيف تكتب كتابة مختلفة تسعي للجديد وتدافع عن أحوال الحياة؟ كنا نتحاور ونختلف، وتتم عملية النقد بيننا بسن القلم الدامي سعياً لتحقيق الأجود والأجمل في الفن الذي نكتبه ونراقب ما يحدث من متغيرات الدنيا في الخارج والداخل ونجدد ثقافتنا كل يوم، أذكر أنني كتبت في ذلك الوقت قصة اسمها "الرحلة" ناقشها د.جابر عصفور الشاب حينئذ ووقع عليها الخلاف، وأذكر تلك الأيام عندما دخل محمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو قاعة الندوة، مازلت أتذكر الدهشة علي وجهيهما والفرحة بأول اكتشاف، ومن يومها لم نفترق، فتحية لتلك الرفقة، تحية لهم في آخر العمر، الباقي منهم ومن رحل؛ لنصر أبو زيد ومحمد صالح ورمضان جميل، لمحمد المنسي قنديل ومحمد المخزنجي وجابر عصفور وفريد أبو سعدة وجار النبي الحلو، رفقة الزمن الطيب وسنوات التكوين التي لا تنسي، وأنا أودعهم بما قاله كازنتزاكيس "أجمع أدواتي: النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل، خيم الظلام وقد انتهي عمل النهار، أعود كالخلد إلي بيتي؛ الأرض، ليس لأنني تعبت وعجزت عن العمل؛ فأنا لم أتعب، لكن الشمس قد غربت".
الحدث في قصصك يقوم علي ما شهدته في الواقع أم علي المسموع، أم علي ما تشغله مخيلة الكاتب؟
ينبني الحدث من كل تلك المشاهد، كلها تشكل ملكة الكاتب وتساعده علي تكوين الرؤية عنده، فقد كان بورخيس يكتب بثقافته لذا أطلقوا عليه "رجل أدب"، وما ذكرتيه بالإضافة إلي ذاكرة الكاتب يمثل مصيره الذي يماهي الأدب ويتقاطع معه، فالواقع فضاء للحدث نكتب به ما تجود الذاكرة، والذاكرة كما أفاضت يوما أستاذتي د.سيزا قاسم - متعها الله بطول العمر - "توأم الخيال".
كيف تصف مشروع السرد الخاص بك؟
هو من يأخذ بيدي لأكتب القصص، أستعين بكل موروثي من الحكي لأنشيء كونا صغيرا من الدهشة، حين أعثر علي الجملة الأولي التي عادة ما تكون حاسمة في تشكيل النص؛ عندها يستقيم البناء وتشتعل الكتابة ويعرف العمل حدوده.
الطفل أبو الرجل، وارتباطك بالطفولة وزمنها شاهدان علي أن أغلب القصص يجتاحها الأطفال. هل هو الحنين للذي مضي أم للماضي وأهله ، أم لتلك الحقب البعيدة من العمر؟
انشغلت بالطفولة وزمنها، كما انشغلت بالزمن والموت والمصير، وكانت الكتابة عن الطفولة محاولة لفهم الغامض والمحير، والتعبير عن الظلم، والشغف بالقبض علي المدهش، يقول كامي "أي طفل لا يكون شيئا بذاته"، هل هي نبرة نتعب للحصول علي نغمتها للتعبير عن أحوالنا؟ هل الطفل باب أدخل منه لذلك النص الصعب الذي يستهويني، النص المهموم بالمصير الإنساني، وسؤال الأبدية، لقد كنت أنصتُ لهم وأنا طفل، انغرس في عباءة واحد من أصدقاء أبي وأسمعهم يحكون الحكايات ويقصون القصص، وكان يغلبني النوم علي صوت ركض الجياد، وأصوات النداهات وترانيم الموتي، وأهل السكك الذين يجوبون الآفاق.
هل تذكرين قصة "الجمل يا عبد المولي الجمل"؟؛ حيث يطارد في الحلم جمل الدار الطفل في المنام، فيما تصرخ الجدة "الجمل شيخ يسعي لندره"، وهو في أسر المخاوف في الصحو ينتصر علي مخاوفه ويقبض علي حزام الجمل ويبركه!، الجميل أن كثيرين هم الأطفال الذين يحملون مصائرهم في قصص كتبتها عن الحياة في مصر، كما في القصة الطويلة "قمر معلق فوق الماء"، عندما يواجه ذلك الطفل المدينة ويعشق إحدي البنات فينكسر قلبه، ويسمع صوت أمه قادما من بعيد.. يختلط عليّ الأمر كلما عشت أزمنة هؤلاء، والقصة آخر الأمر شكل يعبر عن لحظة من زمن يبدو كأنه كل الأزمنة.
هل تحبذ تصنيفك كاتبا للريف؟
لا أنا لا أحب أي تصنيف للكاتب، لأنني من المؤمنين بأن كل كاتب يكتب ما كتبه الآخرون ولكن بشكل آخر، فلا جديد في الكتابة وإنما الجديد هو الكاتب نفسه، وأعتقد أنني أنجزت بعض الكتابة الجيدة من القصص الجيدة عن المدينة وأهلها كقصة "لابورصا نوفا" عن ريفي ضائع في مدينة لا تعرف الرحمة، لقد كتبت هذه أواخر الستينيات، حينما كانت هزيمة يونيو 1967 تمثل الكارثة بين الجيل الذي انتمي إليه، وكان بطل القصة يجوس في شوارع القاهرة في الليل عندما لمح صورة العذراء مريم في محل أنتيكات فصرخ بصوت غطي المدينة "كرياليسون.. كيرياليسون.. يا رب ارحم.. يا رب ارحم" وكانت صرخة وسط ليل أسود وهزيمة مروعة!.
لماذا صوت الموت دائما يتردد في الكثير من القصص؟ وأي موت تعني؟ وبأي فهم تري هذا الموت الفاجع؟
أعتقد أن الموت في عقائد المصريين ليس نهاية للحياة، ليس هو العدم والفناء في الأبدية، لماذا أقام هؤلاء تلك الأبنية البهيجة من أهرام وأضرحة ومقامات ليأوي إليها الراحلون، أظن أن الأمر يتعلق بفهم المصريين للخلود، والموت في عرف المصري يتحول في الدنيا إلي مجاز آخر يتقاطع مع الحياة، وأنا كما تعرفين رجل أعيش الآن بقدم في الدنيا وأخري في الآخرة، طال الزمن وباخت الأيام، وقد رحل من كنت أحسن الحديث معهم، هؤلاء الذين آثروا أن يرحلوا كاملين جسدا وروحاً دون ضراعة أو لوعة العليل الحزينة، فهذا ما سطره بورخيس شعرا في وداع جده، ومن يستطيع أن ينسي قصة "شرف الدم" عن الذي رأي جسوم أهله بعد موتهم حينما كانوا يقيمون مقبرة جديدة، فعرف أمه وأخته وأقربائه وكان وحده هو الذي رأي أهله بعد الموت.
هناك صوت يعمر الروح بصدي من أبدية تتهيأ للانقضاض!، وصدقيني أنا واحد ممن يعيشون موتهم كل يوم، لكني أعتقد أنني أهرب من مطاردته في أحيان كثيرة بالكتابة عنه والجدل معه، وبذلك الشوق الدائم لمن ماتوا موتا عجباً.
لماذا تختفي العلاقات الدالة علي زمن الأحداث في غالبية قصصك؟ وما مفهومك للزمن فيما تكتبه؟
من الذين كتبوا عن قصصي - طيب الذكر - أستاذي د.شكري عياد، وكانت دراسة ألهمتني الكثير من الصواب، قبض فيها علي كثير من جدليات ما كتبت عنه، وضمنها الكثير من المعارف وانشغالات تنظر إلي دور الكاتب ومعني الكتابة الجيدة، والموت والتآكل وأسباب العيش، ومن ضمن ما ذكره ما اكتشفه في قصصي من معني الزمن، فيقول عن مجموعة "سدرة المنتهي" : "الزمن عند الكفراوي كتلة واحدة لا يتميز فيها الماضي عن الحاضر أو المستقبل، والقصة تتحول إلي تمثال حين يتحول الزمن إلي زمن بئر، فتتقطر فيه تجارب البشرية التي لا تختلف في جوهرها بين إنسان عاش منذ آلاف السنين وإنسان يولد اليوم أو يموت في قرية مصرية، فالولادة والموت أيضا لا فرق بينهما في الزمن البئر، والزمن البئر هو مفهوم الفنان للخلود والروح والحضارة وتاريخ الإنسان". يحيرني حقا ما أكتبه وأسعي إليه، وتدهشني العلاقة بين الجد والغلام وكأنها علاقة بين زمنين!.
"زبيدة والوحش". كيف تولدت فكرتها؟
القصة كُتبت في الثمانينيات ونشرت في مجلة "الكرمل" أيام عز مجدها؛ حين كان يرأسها الشاعر الراحل محمود درويش، وهي قصة عن الخصوبة والموت، وعن الوطن، أما الكتاب الذي أنجزه "عمرو" ليقدمه عطية لأبيه الشيخ فكانت العطية فوق التصور؛ إنجازا وإبداعا وقيمة تسبق القصص بمسافات!، وجاء الكتاب في مجمله خير تعبير عن ضمير الكاتب وبعض أحلامه وشواغله، فشكرا لدار النشر المصرية اللبنانية التي أنتجت هذه التحفة.
ما هو الوقت الأكثر تفضيلا لديك؛ عندما تكون كاتبا أم قارئا؟
هناك مرض نفسي اسمه "الخوف من الكتابة"، وأنا مريض بهذا المرض، وتستطيعين باطمئنان أن تقولي أنني لم أملك طوال حياتي زمنا للكتابة، إنها تأتي صدفة وعلي غير موعد، وفي كثير من الأحيان أفر منها مثل المهزوم في ميدان، أما القراءة فلها كل الزمن، تلتهم الوقت بلا رحمة، وهي آخر الأمر عوضاً عن الخسران وأيام اليأس، ومسافة الحنين لزمن قد ولي، ومهما كانت الكتابة حاضرة لا تستطيع انتزاعي من التواصل مع كتاب جيد أقرأه.
هل سعيت لترجمة أعمالك أم المبادرة جاءت من الخارج؟
أنا مع من كتبت معهم لم نسع إلي شيء، كل ما في الأمر أن مستعربا طيبا هو الأستاذ دينيس جونسون ديفيز - أمد الله في عمره - تعرف علينا علي طولات المقاهي، وأحب ما نكتب فبادر بترجمته، وبالمثل عرفنا الآخرون فكانت الترجمة التي شرفونا بها، أما المؤسسات فلا واحدة منها تبنت ما نكتب أو حتي ساعدت المترجم الكريم بشراء عدد من النسخ، ورغم أهمية مشروع ديفيز، إلا أنه ولا مؤسسة أشادت به، رغم أن هو من ساهم في وصول أستاذنا نجيب محفوظ إلي العالمية.
ما البصمة التي يريد أن يتركها سعيد الكفراوي؟
في لحظة يسترجع الإنسان عمره ويعثر علي نفسه ويواجه السؤال، أما أنا فتغيب عني الإجابة عندما استعرض ما كان؛ عمر مضي، وزمن ضاع، ومصر في قبضة الشروط الخانقة، وسلطة الستين عاماً التي تمثل أكبر محنة مر بها الوطن، لا بصمة هناك، ولا شئ يعلو علي حرية الوطن، والبحث دائم عن حقوق المواطنة وأفق من الحرية ينفتح علي الاحتمالات، وأنا بين الماضي والحاضر أنتظر خاتمة رحيمة تأتي بعد ما عشته من تفجر موت الأصدقاء الطيبين الذين أذكرهم كل يوم وأرسل لهم نداء مفتوحاً يصلهم بعد أن تركوا هذه الوحشة وهذا الفراغ.
هل قرأت مؤخرا كتابات تعبر - من وجهة نظرك - عن 25 يناير؟
في المحصلة النهائية لم أقرأ في كل ما صدر ما يعبر حقيقة عن الوعي الحر بثورة 25 يناير؛ تلك الثورة التي حلمنا من خلالها بتحقيق الحرية والعدل وكرامة الإنسان، قرأت حكايات إبراهيم عبد المجيد وأحببتها، ولكن جاءت الريح بغير ما تشتهي السفن، حيث تاهت الأحلام والأمنيات، وكلما تذكرت ليالي الميدان المفتوحة علي الأمل اشتدت فداحة الحزن، وشعرت بقيمة ما فقدناه وبقسوة النهاية التي كانت مفتتحا للكثير من الخسارات.
كيف تري المشهد الثقافي حاليا؟
عندما أنظر لواقع الثقافة العربية أتذكر مسرحية "انظر خلفك في غضب" لكاتب المسرح البريطاني "جون أوزبرن"، مشهد عام يتسم بقلة القيمة ويعيش مشاكل الفشل السياسي الذي تتعاطاه المنطقة، لتتأمل المعارك الصغيرة للمثقفين، والمشاريع الثقافية التي لا تكتمل بنياتها، لتتأمل وسط دعاوي التنوير والخروج من سطوة الماضي زمن الفتاوي التي تتمسح بالدين، وتكفير المخالفين، وتهميش الإبداع الجيد؛ بل ومصادرته في بعض الأحيان، وغياب حريات التعبير، واقتصار دور الثقافة الرسمية في فرض رؤيتها المعبرة عن سلطة الحكم.
أجد حصارا من قبل كتب الخرافات، وتهديدا بسلاح الدين ضد حلم المثقف بابتعاث دولة مدنية تقوم علي الفصل بين السلطات، مع احترامها للدستور وحرية التعبير وحرية الإبداع، فعندما نتأمل ما يجري في حقل الإعلام - مثلا -، نجد أفرادا من مقدمي البرامج يسودون وجه وطن: الصبي والبلطجي وربيب الأمن، يصرخون طوال الليل، وينطقون بالقضايا التي تجسد الكراهية والفرقة بين الأوطان، ويتاجرون بالفضائح مثل تجار النخاسة، فأنا أكرههم جميعا.
قصة »جناحان لعلي « ص 27،28،29


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.