الجرام يسجل أقل من 3900 جنيها.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الانخفاض الجديد    «واشنطن».. البنتاجون يقيل رئيس وكالة استخبارات الدفاع    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    ملف يلا كورة.. خطة انتخابات الأهلي.. رسائل الزمالك.. واعتماد لجنة الحكام    طائرات الإحتلال تستهدف المنازل في حي الزيتون بقطاع غزة    الأمم المتحدة تعلن المجاعة رسميًا.. ماذا يحدث في غزة؟    محمد النمكي: الطرق والغاز جعلت العبور مدينة صناعية جاذبة للاستثمار| فيديو    أهداف إنشاء صندوق دعم العمالة غير المنتظمة بقانون العمل الجديد    مصرع طالب صعقًا بالكهرباء أثناء توصيله ميكروفون مسجد بقنا    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    عصابات الإتجار بالبشر| كشافون لاستدراج الضحايا واحتجازهم بشقق سكنية    رحيل الفنانة المعتزلة سهير مجدي.. فيفي عبده تنعي صديقتها وذكريات الفن تعود للواجهة    حنان سليمان: كفاية دموع.. نفسي في الكوميدي| حوار    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    أبطال فيلم "وتر واحد" يشاركون ويجز تألقه على مسرح العلمين    «الشمس هتغيب قبل المغرب».. كسوف الشمس الكلي يظهر في سماء 9 دول بهذا التوقيت    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    سعر السمك البلطي والكابوريا والجمبري في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    «عايز أشكره».. آسر ياسين يصعد على المسرح خلال حفل ويجز بمهرجان العلمين.. ما القصة؟    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    الإنتاج الحربي يستهل مشواره بالفوز على راية الرياضي في دوري المحترفين    في مباراته ال 185.. إصابة حكم باريس سان جيرمان وأنجيه    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    العملاق مدحت صالح يبدأ حفله بمهرجان القلعة بأغنية "زى ما هى حبها"    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    أول تعليق من النني بعد فوز الجزيرة على الشارقة بالدوري الإماراتي    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع الغيطاني في عيد الميلاد بنيوجرسي:
تجليات العبقرية المصرية في صاحب التجليات
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 01 - 2016

فجأة طارت قدما جمال الغيطاني في الهواء وهوي علي ظهره فوق الجليد في لمح البصر، فشددت ذراعي حوله محاولا منعه من السقوط فيما أطلقت صرخة صامتة أطلب فيها في هلع من الله ألا يصيبه بمكروه وهو الذي قد طلب مني أن يصلي معي قداس عيد الميلاد بالكنيسة القبطية الأم بنيوجرسي فكيف يكون هذا جزاءه؟
كنا نتساند ونحن نخطو خطوات حذرة علي الطريق المغطي بالجليد الصاعد إلي الكنيسة المضيئة في الأعالي، في ليلة عيد الميلاد الشرقي عام 2009، تحت سماء نيوجيرسي المكفهرة. وكنت قد تأبطت ذراعه خوفا عليه أن تنزلق قدمه، ويبدو أن دعائي غير المعلن قد استجيب، فقد قام الغيطاني وهو يطمئنني أن الأمر بسيط، وواصلنا الطريق حتي دخلنا الكنيسة وجلسنا في الصف المخصص للضيوف من اعضاء القنصلية المصرية وكبار الزوار، وكان ضميري يؤنبني طيلة الوقت كيف لم أصر علي أن أوصل ضيفي بسلام إلي باب الكنيسة ثم أعود بالسيارة لأتركها في موقف السيارات البعيد، لكنه رفض ذلك وأصر علي أن نمشي معا طول الوقت، وهذا الأدب الجم والذوق المصري الريفي الحميم كان إحدي خصاله الجميلة البارزة.
وها أنذا أتذكر الحادث وأنا أكتب عن الروائي المصري الكبير في أول عيد ميلاد يمر بعد رحيله، وقد سبقت وأعقبت تلك الليلة لقاءات عديدة لنا علي مدي السنوات الماضية في القاهرة حين أزورها وهنا في نيويورك حين يزورها هو، وأصبح من عادتنا أن نلتقي إما في جلسات حميمة مع أصدقاء في بيتي، أو في جولات أصطحبه فيها إلي أماكن يريدها أو أقترحها، وبذلك كان من حظي أن أتعرف علي جمال الغيطاني ليس فقط المبدع المتفرد الذي طالما بهرتني رؤاه الإبداعية وكتاباته الاستثنائية ولكن أيضا الإنسان المثير للدهشة بخصاله ودفئه وحكاياته ولمساته الإنسانية، وهو من هؤلاء القلائل من المبدعين كبار الموهبة الذين تتعرف عليهم شخصيا فيزداد حبك وتقديرك لهم، بينما حدث لي العكس مع بعض الآخرين، وكانت بداية علاقتي به حين كتبت له بدون سابق معرفة خطابا من نيويورك عام 1997 ومعه "باقة قصائد للوطن" أصف له كيف أعادتني قراءة أحد أعداد أخبار الأدب إلي أحضان لغتي الأم بعد انقطاع لما يقرب من عشرين عاماً، فرد بخطاب دافيء قائلاً "أعجبت بشعرك ودفعت به للنشر متخطياً قوائم الانتظار".
انتعاش الغيطاني وهو يستمع إلي الالحان والتراتيل القبطية في الكنيسة ليلة الميلاد هو بعض من اهتمامه ومعرفته الواسعة بالتراث المسيحي القبطي في مصر، ومعرفته بهذا التراث تدهشني شخصيا أنا القبطي ابن رجل الدين المسيحي الذي تكتظ مكتبته بأشكال وألوان من هذا التراث في صوره المكتوبة والمسموعة والمرئية. وانتعاش الغيطاني بهذا التراث هو انتعاش المتذوق المحب المقدر وليس مجرد موقف مثقف مصري يشعر أن من واجبه معرفة شئ عن ثقافة شركاء الوطن- ومكتبته مليئة بالقديم والجديد عن الأقباط وتاريخهم وكنيستهم وفنونهم.
كما أن اهتمام الغيطاني بالوجه القبطي لمصر ليس كاهتمام المثقف المسلم الليبرالي الذي يهتم بالأقلية المسيحية كنوع من تأكيده لموقفه العلماني وترحيبه بالتعددية الدينية والثقافية، فكثيرا ما تجد مثل هذا الليبرالي المسلم مبتعدا عن تراثه الاسلامي منجذبا للتراث الغربي انجذابا كثيرا ما يصل إلي حد الخلل والسقوط في عبودية الآخر، وهو تطرف مخل تماما كالذي يسقط في كراهية الآخر. أما الغيطاني فاهتمامه وهيامه بالتراث الإسلامي - وخاصة الصوفي منه - هو اهتمام هائل وشامل وعميق ودقيق وكتاباته تكاد أن تكون كلها إمتدادات مثيرة لما في التصوف الإسلامي من صفاء وجزالة لغوية وروحية معا، وتكاد أن تكون أسئلته كلها هي أسئلة التصوف الكبري الغائرة فيما وراء المحسوسات محاولة كشف المستور وسبر غور الملموسات، ويقول رفيق دربه الروائي يوسف القعيد- ان الغيطاني في كل أعماله له سؤال واحد: أين ذهب الأمس؟
والواقع أن كلمة "روائي" قد لا تكون الأكثر انطباقا علي جمال الغيطاني، خاصة في أعماله المتأخرة، وفي اعتقادي أن الغيطاني يقع في مساحة خاصة بين الفيلسوف والشاعر، فكلماته شعرية ورؤاه فلسفية، وبينما ينشغل الروائيون عادة بالشخصيات والأحداث، محللين أعماق النفس الإنسانية في تشابكها المأساوي مع الآخرين في حلقات متداخلة من الصراعات والضربات والتحولات، ينشغل الغيطاني بما وراء هذا كله من خيوط كونية خفية وأسئلة وجودية أساسية وكبري. ورغم أنه يمكن القول إن كل روائي عظيم لابد أن تكون أيضا من اهتماماته هذه الأسئلة الوجودية الكبري من خلال صراعات ومصائر شخصياته الروائية، فاننا نجد أن الغيطاني يميل في ازدياد إلي تناول هذه الأسئلة من خلال اللغة والكلمة، فهو ينتقي الكلمة ويزوجها لكلمة أخري ويحل بروحه الابداعية في وسط هذا التزاوج لكي يدفع بالكلمتين إلي توليد مولود جديد مدهش مندهش صارخ بالوجع وبجزوة الحياة، مضيفا إلي المعني وإلي اللغة في آن واحد. فاللغة هي نسيج الغيطاني الأساسي وطينته الطبيعية التي يظل يشكلها ويطوعها لكي يخلق بها ومنها عالمه البديل عوضاً عن عالم لا يعثر فيه علي الأمس، ولا يدوم فيه مكان ولا إنسان.
حين نجد الغيطاني مهموما بسؤال: أين ذهب الأمس؟ نجد ذلك مشابها لما يشغل بال العالم المصري الأمريكي أحمد زويل الذي قال في مقابلة مع مني الشاذلي ومحمود سعد: إن ما يشغلني الآن هو السؤال: ما هو الزمن؟ وهكذا نجد أن الأديب المصري والعالم المصري يشغلهما سؤال وجودي كوني واحد- يحاول كل منهما - بطريقته - البحث عن إجابة له - هل صدفة أم يكون الاثنان مصريين؟ ليست صدفة لأن مصر هي فجر الإنسانية وطفلة الزمان الأولي وهي مبتكرة الأبدية في بحثها منذ القدم عن نقطة نهاية الزمن الكوني ورفضها للنهايات وتكريسها للروح والخلود، فالسؤال عن الزمن هو سؤال مصري صميم.
الارتباط العميق بين الغيطاني وتراثه الاسلامي نراه مجسدا في برنامجه "قاهرة نجيب محفوظ" الذي يتجول فيه شارحا أماكن روايات وشخصيات محفوظ في أحياء مصر العتيقة، ونري فيها كيف يحنو علي الآثار المصرية من جوامع وزوايا وتكايا وأضرحة وقباب ومآذن وأروقة، وكيف يربت علي ظهر كل حائط ويحتفي بكل حجر بشكل لا يقدر أن يفعله شخص آخر - وهذا أيضا تعبير عن ارتباط الغيطاني العميق بالمكان- ليكمل بهذا ارتباطه العميق بالزمان. ونراه يحاول الدفاع عن المكان وحمايته والحدب عليه، وتساعده علي هذا قدرة فذة علي الملاحظة والتحديق والغوص فيما وراء السطح، ولهذا لاحظت أن الغيطاني يسير دائما علي مهل. ويتحدث علي مهل- ولا أذكر أنني شاهدته يسير علي عجل أو يتكلم علي عجل إطلاقا، لأن السرعة تقتل التأمل، وهو يعيش يومه متأملا، وكأنه - في خوفه الوجودي الدائم من الزمن وآثاره المدمرة - يريد أن يغترف الأماكن والأحداث بداخله ليبقيها في الحفظ والصون لتخلد، ولا شك أن القدرة علي الرؤية الثاقبة ضرورية للكاتب، فلابد للروائي أن يري ليروي.
الاهتمام الشديد بالإسلاميات نراه لدي الغيطاني مصحوبا برفض شديد للتطرف الاسلامي والغلو في التدين والارهاب- ولا شك أن هذا الرفض قد ازداد حدة لديه بعد محاولة اغتيال نجيب محفوظ الذي كفره بعض الاسلاميين بسبب روايته "أولاد حارتنا"، ويعترض الغيطاني بشدة علي تحويل القضية الفلسطينية إلي قضية دينية علي يد حماس. وبهذا يمثل الغيطاني تيار الثقافة الإسلامية الوسطية المستنيرة المنفتحة وهو تيار قد تراجع
كثيرا في معظم المجتمعات العربية في ثلث القرن الأخير بسبب المد الإخواني الذي استشري في المجتمع المصري ثم المجتمعات في البلاد العربية وأوربا، وكان الغيطاني مصيباً في هلعه من انتشار هذا التيار المضاد للحضارات وقد كرس جريدة أخبار الأدب التي أطلقها عام 1993 ورأس تحريرها حتي تقاعده لمحاربة فكر البدائية التكفيرية في العالم العربي الذي شوه صورة الإسلام الوسطي التي عرفها وعشقها الغيطاني.
بجانب المعايشة الوجدانية للإسلام في عمقه الصوفي والمحبة الحقيقية للتراث القبطي يكتمل المثلث لدي الغيطاني بمعايشته الفسيحة للحضارة المصرية القديمة. وهو يتحدث عن مصر الفرعونية حديث الباحث المتعمق والعاشق المتيم معا، ويتنقل بسهولة ونشوة من المعتقدات الروحية إلي نظام الدولة إلي نظام الري والزراعة إلي عمارة المعابد إلي أسرار كتاب الموتي أو الخروج إلي النهار فيتحدث لساعات متصلة دون كلل منه أو ملل من مستمعيه، رابطا الغابر بالحاضر مفسرا ومفكرا. فهو حكاء من الطراز الأول يحكي لك في يسر وطلاوة وبابتسامة هي أقرب إلي ابتسامة الطفل الماكر الذي استطاع أن يحل لغزا استعصي علي الكبار من حوله، ومعرفته بالحضارة المصرية القديمة عريضة وعميقة، وقد أمضيت معه ساعات طويلة في الجناح المصري بمتحف المتروبوليتان بنيويورك، وهو جناح هائل الحجم بالغ الجمال، ومن اللافت أنه خصص أحد أعداد جريدة أخبار الأدب للهرم الأكبر، وذهب مع بعض محرري الجريدة في زيارة داخل الهرم وأمضي الليل راقدا في تابوت بحجرة الملك خوفو القابعة في نهاية نفق ضيق طويل يغوص صاعداً إلي بطن الهرم، فلديه دائما تلك النزعة للحلول في الآخرين- جسدا وروحا، مكانا وزمانا، لاختبار حياتهم وتمثل مشاعرهم وتذوق زمانهم، وهاجسه الأساسي هو إخفاقه في أن يكون هو الآخر، أن يتوحد معه، أن يعايشه ويعيشه، ولذلك تتعمق غربته وتمتد رغبته في التواصل عبر الكتابة، لعلها تمنح بعض الحلم وبعض الحلول وبعض الخلود.
جمال الغيطاني كاتب وإنسان متفرد بكل معني الكلمة، فلا أعرف كاتبا مصريا أو غير مصري آخر يملك تلك القدرة والرغبة واللذة في معايشة التراث الفرعوني والقبطي والإسلامي معا، والحلول في كل منها حلولا كاملا، ولهذا فالغيطاني مبدع فريد وظاهرة مدهشة في تاريخ الثقافة المصرية علي طولها.
وعادة ما نجد المثقف المتوغل كثيراً في تراثه الوطني الثقافي المحلي رافضاً أو معاديا للتراث الغربي، ولكن المدهش في الغيطاني أن اهتمامه بالثقافة الغربية كبير وعريض، وليس فقط في الأدب ولكن أيضاً في فنون الرسم والعمارة والمسرح وغيرها. وقد أصيب بجزع حقيقي عند سقوط البرجين في نيو يورك إذ خشي أن يؤدي هذا إلي هوة بين الشرق والغرب وتوقع الأضرار الكبيرة التي ستنجم عنه وهذا ما حدث فعلاً. ولكن إنفتاح الغيطاني علي الثقافة العالمية بشغف وحب هو في اتساق تام مع الشخصية المصرية التي كانت دائماً منفتحة علي الآخر كريمة محبة له مرحبة به في أرضها قبل تلوثها بالتيارات المنغلقة الوافدة عليها من بلاد ليس لها تاريخ طويل في التعامل مع الأخر المختلف ثقافياً وعرقياً ودينياً.
وربما لهذا أجد جمال الغيطاني أقرب من عرفت من المبدعين المصريين لكونه التجسيد الأكمل للشخصية المصرية الصميمة الحميمة في نموذجها الأجمل، أي في نموذجها المعبر عن المصري في عصور الازدهار الحضاري والابداع الإنساني، وليس في عصور الانحطاط والانحدار الذي عاشته مصر في فترات طويلة من تاريخها وماتزال، ولهذا جاء الغيطاني من صعيد مصر، الذي جاء منه الملك مينا موحد القطرين، الصعيد الذي شهد صرح الحضارة المصرية الشاهق وآثاره الخالدة في معابده وأهراماته وتماثيله ومسلاته ومقابره المترامية علي ضفتي النيل من طيبة إلي ممفيس، وهناك صورة طريفة لوجه الغيطاني بجوار وجه تمثال فرعوني لا تستطيع أن تفرق بين ملامح الاثنين، فهذا الشبل من ذاك الاسد، ففي الغيطاني، الذي له كتاب شاهق هو "التجليات" تتجلي الروح المصرية المتجددة الدائمة الحلول في خير أبنائها علي امتداد الزمان، ففيه عذوبة المصري ودفء تواصله ومحبته للآخرين وحبه للدعابة والضحك والمرح، مع حبه الجارف للحياة، فرغم نزعته للصوفية فكرا ولغة ووجدانا، فالغيطاني ليس زاهدا في الحياة وإنما هو محب عاشق لها، متذوق مرهف لما تمنحه من متع وأفراح وملذات ومكابدات جسدية وروحية تنعش الأمال وتجدد الأحلام.
في العام التالي 2010 لم يحضر الغيطاني عيد الميلاد بالكنيسة ولا حضرته أنا، فقد كان كلانا مهموما بخطر يهدد كيان الانسان ووجوده، وعندما حضر إلي نيويورك هاتفني قائلا إنه في هذه المرة يحضر مع زوجته لعلاج من مرض خطير أصيبت به ويتطلب فترة طويلة من العلاج مع جراحة بين ذلك، واستمعت إليه في انزعاج وألم فقد كنا قد سعدنا، زوجتي وأنا، بالتعرف علي السيدة زوجته الكاتبة المميزة ماجدة الجندي في القاهرة عندما دعينا للعشاء في مسكنهما الجميل بالمعادي قبل سنوات قليلة، وبعد أن استمعت لهذا الخبر الصادم قلت أنني أيضا أمر بتجربة مماثلة، فتساءل الغيطاني في نبرة مستغربة: كيف ذلك؟ فقلت له إن طبيبي أخبرني منذ أيام فقط أنني مصاب بورم في البروستاتا ولابد من إجراء جراحة فورا. فصمت قليلا ثم تساءل: وهل هو ورم عادي؟ فقلت لا، هو ورم خبيث! فصمتنا قليلا ثم قال لمؤازرتي: " ان عملية استئصال البروستاتا لم تعد خطرة كما كانت قبل سنوات لقد أجريتها أنا أيضا، وكنت قد أصبت وأنا في رحلة في أوروبا فجأة بألم هائل مصاحب باحتباس للبول، وعندما رجعت لمصر أجري لي طبيب مصري الجراحة، لتضخم البروستاتا، وكان تضخما طبيعيا بدون أورام. وقد كتبت تجربتي كاملة في كتاب"، فتساءل في بعض الإستغراب: وماذا أسميته؟ فقال "يوميات الحصر" فلم أتمالك سوي أن أضحك بصوت عال وشاركني ضحكي. وهكذا نلوذ بالضحك في مواجهة أخطار التهلكة العظمي!
وأجريت جراحتي بعد ذلك بأيام قليلة- وبعدها بحوالي شهرين أجرت زوجته الأستاذة ماجدة جراحتها، وكنا نتهاتف قبل الجراحتين وبعدهما للاطمئنان، وما كنت لأكتب عن هذا الشأن الخاص لأسرة الغيطاني لولا أنه قد كتب عنه بالتفصيل في يوميات الأخبار حيث وصف مشهد دخول رفيقة حياته لغرفة العمليات قائلاً : "ماجدة خلعت خاتم زواجنا، ارتديته في نفس الأصبع الذي يستقر فيه الخاتم الذي يحمل اسمها، انزلق بسلاسة لعلها المرة الأولي التي يفارق اصبعها منذ خمسة وثلاثين عاما.. كان الباب الكبير ذو المصراعين مفتوحا وماجدة بين ممرضتين تتقدم بخطي ثابتة إلي الداخل، إلي الجراحة، يبدو أنها شعرت بوجودي التفتت باسمة، ابتسمت فرفعت يدي ملوحا ومشجعا، واجهتني ملتفتة إلي الخلف.، يتألق جمالها في لحظة نادرة، لم يسبق لي أن رأيتها في هذا الألق، ذلك الصفاء".
جمال الغيطاني حالة فريدة بين المبدعين المصريين وتجسيد نادر للعبقرية المصرية حين تتجلي في شخصية محددة في المكان والزمان، فتمنحك فرصة أن تتعرف من خلالها علي حزمة الخصائص المصرية الإنسانية الصميمة من دفء التواصل وكرم الروح إلي مرح النفس وفرح الحياة، وتبقي لنا أعماله الإبداعية الكبيرة تمنحنا والأجيال القادمة متعة المعرفة ونشوة الإبداع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.