لمحاولة توضيح تراجعه، سجال بين رئيس النواب وعدنان فنجري بسبب "الإجراءات الجنائية"    قبل اجتماع المركزي، تعرف على أسعار الفضة في مصر    21 من أصل 44.. أسطول الصمود العالمي ينشر أسماء سفنه المستهدفة من إسرائيل    نونو مينديز يضم لامين يامال لقائمة ضحاياه برفقة محمد صلاح    إصابة 7 أشخاص بينهم طفل في تصادم تروسيكلين ببني سويف    الأوبرا تمد فترة التسجيل في مسابقات مهرجان الموسيقى العربية ال33 حتى 6 أكتوبر    الصحة: 8708 متبرعين يدعمون مرضى أورام الدم في حملة "تبرعك حياة"    لأول مرة.. الرقابة المالية تصدر ضوابط إنشاء المنصات الرقمية للاستثمار في وثائق صناديق الملكية الخاصة    تعرف علي موعد إضافة المواليد علي بطاقة التموين في المنيا    الإصلاح والنهضة: انتخابات النواب أكثر شراسة ونسعى لزيادة المشاركة إلى 90%    إعلام فلسطيني: غارات إسرائيلية مكثفة على مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة    غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء فى قطاع إلى 66.225 شهيدا منذ بدء العدوان    الكرملين: الاتصالات بين الإدارتين الروسية والأمريكية تتم عبر "قنوات عمل"    مخاوف أمريكية من استغلال ترامب "الغلق" فى خفض القوى العاملة الفيدرالية    بكالوريوس وماجستير ودكتوراه، درجات علمية جديدة بكلية التكنولوجيا الحيوية بمدينة السادات    ديكيداها الصومالي يرحب بمواجهة الزمالك في ذهاب دور ال32 بالكونفدرالية في القاهرة    البلدوزر بخير.. أرقام عمرو زكى بعد شائعة تدهور حالته الصحية    المجلس القومي للمرأة يستكمل حملته الإعلامية "صوتك أمانة"    إخلاء سبيل سيدتين بالشرقية في واقعة تهديد بأعمال دجل    النائب ياسر الهضيبي يتقدم باستقالته من مجلس الشيوخ    نجل غادة عادل يكشف كواليس علاقة والدته بوالده    وزير الخارجية يتوجه إلى باريس لدعم حملة ترشح خالد العنانى فى اليونيسكو    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 2أكتوبر 2025.. موعد أذان العصر وجميع الفروض    وزير الإسكان يتابع موقف تنفيذ وحدات "ديارنا" بمدينة أكتوبر الجديدة    طرق الوقاية من فيروس HFMD    «أطفال بنها» تنجح في استخراج مسمار دباسة اخترق جدار بطن طفل    قطر تستنكر فشل مجلس الأمن فى اعتماد قرار بشأن المعاناة الإنسانية فى غزة    14 مخالفة مرورية لا يجوز التصالح فيها.. عقوبات رادعة لحماية الأرواح وضبط الشارع المصري    شيخ الأزهر يستقبل «محاربة السرطان والإعاقة» الطالبة آية مهني الأولى على الإعدادية مكفوفين بسوهاج ويكرمها    بقيمة 500 مليار دولار.. ثروة إيلون ماسك تضاعفت مرتين ونصف خلال خمس سنوات    النقل: خط "الرورو" له دور بارز فى تصدير الحاصلات الزراعية لإيطاليا وأوروبا والعكس    السيولة المحلية بالقطاع المصرفي ترتفع إلى 13.4 تريليون جنيه بنهاية أغسطس    «غرقان في أحلامه» احذر هذه الصفات قبل الزواج من برج الحوت    بتكريم رواد الفن.. مهرجان القاهرة للعرائس يفتتح دورته الجديدة (صور)    بين شوارع المدن المغربية وهاشتاجات التواصل.. جيل زد يرفع صوته: الصحة والتعليم قبل المونديال    برناردو سيلفا: من المحبط أن نخرج من ملعب موناكو بنقطة واحدة فقط    المصري يختتم استعداداته لمواجهة البنك الأهلي والكوكي يقود من المدرجات    وست هام يثير جدلا عنصريا بعد تغريدة عن سانتو!    لهجومه على مصر بمجلس الأمن، خبير مياه يلقن وزير خارجية إثيوبيا درسًا قاسيًا ويكشف كذبه    الكشف على 103 حالة من كبار السن وصرف العلاج بالمجان ضمن مبادرة "لمسة وفاء"    ياسين منصور وعبدالحفيظ ونجل العامري وجوه جديدة.. الخطيب يكشف عن قائمته في انتخابات الأهلي    " تعليم الإسكندرية" تحقق فى مشاجرة بين أولياء أمور بمدرسة شوكت للغات    جاء من الهند إلى المدينة.. معلومات لا تعرفها عن شيخ القراء بالمسجد النبوى    تفاصيل انطلاق الدورة ال7 من معرض "تراثنا" بمشاركة أكثر من 1000 عارض    تموين القليوبية يضبط 10 أطنان سكر ومواد غذائية غير مطابقة ويحرر 12 محضرًا مخالفات    حمادة عبد البارى يعود لمنصب رئاسة الجهاز الإدارى لفريق يد الزمالك    استقالة 14 عضوا من مجلس الشيوخ لعزمهم الترشح في البرلمان    رئيس الوزراء: الصحة والتعليم و"حياة كريمة" فى صدارة أولويات عمل الحكومة    من هم شباب حركة جيل زد 212 المغربية.. وما الذي يميزهم؟    تحذيرات مهمة من هيئة الدواء: 10 أدوية ومستلزمات مغشوشة (تعرف عليها)    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية والتعاون الدولي السوداني    هل الممارسة الممنوعة شرعا مع الزوجة تبطل عقد الزواج.. دار الإفتاء تجيب    انهيار سلم منزل وإصابة سيدتين فى أخميم سوهاج    «المستشفيات التعليمية» توقع بروتوكول تعاون مع جامعة المنصورة الجديدة لتدريب طلاب الطب    «الداخلية»: القبض على مدرس بتهمة التعدي بالضرب على أحد الطلبة خلال العام الماضي    دعاء صلاة الفجر ركن روحي هام في حياة المسلم    حماية العقل بين التكريم الإلهي والتقوى الحقيقية    «التضامن الاجتماعي» بالوادي الجديد: توزيع مستلزمات مدرسية على طلاب قرى الأربعين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جولة حرة في مسيرة
كاتب استثنائي
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 05 - 2015

عندما صدرت رواية "رسالة في الصبابة والوجد" للكاتب الروائي جمال الغيطاني عام 1987 عن سلسلة روايات الهلال ، كتب المحرر علي الغلاف "تولستوي من مصر ،هذا هو الاسم الذي أطلقته الصحافة الأدبية العالمية علي جمال الغيطاني ،تعبيرا عن مكانته في الرواية العربية الحديثة ، وهي نفس المكانة التي تبوأها تولستوي في الأدب الروسي "، هنا انبري أحد النقاد المرموقين في ذلك الوقت، والذي كان يترصد الغيطاني في كل شاردة وواردة ،ويكاد يعدّ عليه أنفاسه، وراح هذا الناقد يتساءل بعد أن يطلق بضع جمل غير حادة في سلبيتها "أي تولستوي ؟وأية علاقة قائمة بين كاتب روسيا منذ منتصف القرن الماضي وكاتب مصر السبعينيات ؟وأي تولستوي هو المقصود ، تولستوي قبل تحوله الكبير أم بعده؟"، وهكذا راحت أسئلة هذا الناقد تتوالي بشكل لافت للنظر والدهشة ،ليس لصحة هذه التساؤلات ، ولكن -للأسف- لتجنيها وترصدها مثلما يفعل ناقد آخر الآن ،ورث هذا المرض عن ناقدنا الكبير الذي رحل.
وربما يكون التساؤل المطروح عن علاقة جمال الغيطاني بتولستوي مشروعة ،وصحيحة ،لدهشة طرحها ، ولكن ليس من باب النفي التام ،أو من الاستكثار حول قيمة جمال الغيطاني ،هذه القيمة التي لا يختلف عليها اثنان ، مهما استشرست الخلافات والخصومات ، ولا ينكر هذه القيمة سوي أعمي وظالم ، ولا تدفع أي ناقد أو باحث لنفي هذه القيمة عن كتابات جمال الغيطاني سوي تلك الأحقاد القائمة في الصدور ، ولا ينفيها هذا التحقق الذي يحدث هنا أو هناتك.
وربما يأتي استفهامنا أو استنكارنا لمشابهة الغيطاني بتولستوي ، من باب اختلاف المسيرتين ، فالأول ولد في أسرة فقيرة ، وفي إحدي حارات حي الحسين-حارة الطبلاوي -بقصر الشوك "الذي اصطلح علي تسميته بقصر الشوق ، كما درج المصريون علي اللعب في الأسماء ، وتطويعها دوما للأهواء والأغراض السعيدة أو المبهجة وربما اختلاف الأحداث علي طاولة الزمن ، تكون هاجسا دائما في هذه التغييرات.
ولد إذن جمال الغيطاني فقيرا ، في 9 مايو 1945،عندما وضعت الأطراف المتنازعة في ذلك الوقت أوزار الحرب العالمية الثانية العظمي ، وبدأ العالم كله يعيد بناء نفسه من جديد ، وبدأت أشكال من السلام والتعايش السلمي والوئام تنمو في عالم مضطرب ،ويتذكر الغيطاني دوما تلك اللحظات الأشدّ بؤسا ،ولكنه كان يسعي دوما ، ومنذ طفولته لإنشاء أسطورته الخاصة ،لم يسع إلي الغني كما يفعل آخرون ، ولكنه كان دوما يبحث عن المعني.
بينما مسيرة تولستوي تختلف تماما ،إذ أنه ولد ،وفي فمه ملعقة من ال الذهب ،ومرّ بمراحل عديدة في الكتابة ، فتولوستوي الشاب ، غير تولستوي الشيخ ، الذي ترك حياة الرفاهية إلي حياة أخري ، ربما تكون متقشفة ، وتولستوي "الحرب والسلام"، يختلف تماما مع تولستوي "حاجي مراد"أو "الحاج مراد"،كما حرفها المعربون لإرضاء غاية في نفوسهم ،وهو تحويل الإسم المجرد في لغته ، إلي اسم ذي معني في لغتنا.
الاثنان مختلفان في النشأة وفي السيرة وفي التوجه وفي التفاصيل ، ولكنهما يتفقان ويتوازيان في القيمة ، وفي الأثر ، وفي المعني الذي ينشد السلام علي الأرض، وإن كره الكارهون.
وسوف تذهب كل هذه التخرصات التي تأتي بها أغراض وأهداف وتخرصات بعض النقاد والكتّاب ، ويبقي الأثر الإبداعي بكل ما أتي به من قيمة فنية عالية.
والمدهش أن كتابات تولوستوي لم تشغل البند الأول في قراءات جمال الغيطاني ، إذ أنه رصد اهتماماته في قائمة هكذا:
(صحراء التتار)لدينوبوتزاتي
(القضية والمسخ والقصر)لفرانز كافكا
(أعمال تشيخوف جميعها)
(البحث عن الزمن المفقود) لبروست
ثلاثية نجيب محفوظ
(البخلاء) للجاحظ
(نشوة المحاضرة والفرج بعد الشدة) للتنوخي
(ألف ليلة وليلة)
(الهلالية)
(المنازل والديار والاعتبار) لأسامة بن منقذ
وهكذا يرصد الغيطاني دوما قراءاته ،والكتابات التي تأثر بها ، وانشغل بها كثيرا ، دون أن يكون تولستوي أحد الأعمدة الشاهقة أو القصيرة في بنائه الشامخ ، ولكن يأتي ديستوفيسكي ،ليكون هو الكاتب الروسي الأول ،الذي يترك فيه أثرا فاعلا ، وكان تأثيره ذا معني قوي عليه ،بينما يتراجع أثر تولستوي إلي حد كبير في التكوين الثقافي والفني عند جمال الغيطاني قارئا وكاتبا.
وخبرة جمال الغيطاني مع القراءة ، خبرة تصلح للتدريس ، إذ كان الفقر الذي لم يعان منه تولستوي ، لا يمكّن جمال الغيطاني من شراء الكتب ، ولذلك كان يذهب الغيطاني إلي "دار الكتب" عندما كان مبناها التاريخي الأول في منطقة باب الخلق ،وكان يستعير الكتب من مكتبات عديدة ،ثم ينقلها في كشاكيل وكراسات ، ومن المعلوم أن هذا النقل ،كان يعمل علي تثبيت المعلومة المقروءة ، ويعمل علي تقليبها مناقشة وجدالا ومحاورتها ، وهكذا تنتقل حالة القراءة من كونها حالة للتلقي ، إلي حالة للجدل والحوار والمناقشة ، وبالتالي رفضها أو قبولها أو تعديلها وهكذا.
وعندما نتأمل الكتب التي أعدها جمال الغيطاني ، وأعاد تسجيل الحوارات أو المحاورات بينه وبين أعلام عصره مثل نجيب محفوظ ومصطفي أمين وتوفيق الحكيم ،سنلاحظ أن الغيطاني لا ينقل تفاصيل حوارات ، بقدر ما يعمل علي تأمل وإعادة إنتاج هذه "المحاورات" في إطار رؤيوي ، ودوما يعمل جمال علي وضع هذه المحاورات في إطارها التاريخي.
وعند نقطة "التاريخي" هذه لا بد من إدراك ورصد علاقة جمال الغيطاني بالتاريخ ، فهو استطاع أن يعيد إنتاج هذا التاريخ فنيا ، وبشكل يغمره الوجد الصوفي ، والعشق لعبق الأيام ،واندهاشا من ذهاب تلك الأيام ، فالسؤال الذي يحيّر الغيطاني دوما ، هو "امبارح راح فين؟"، هذا السؤال الكوني الوجودي الفلسفي النفسي الاجتماعي ،هو المحرّك الأول لكل مايكتبه جمال ،ليس محركا بالمعني السطحي أو البسيط ، ولكنه محرك بالمعني الأعمق ، لذلك يحاول جمال بكل ما يملك من طاقات فنية وفلسفية ورؤيوية وجمالية ، ويقاتل من أجل رؤيته ، ويدفع عنها طوال مسيرته أي كان من يحاوره ويناقشه أو تحدث خصومة بينه وبينه.
وسوف أذكر واقعة لافتة في مسيرة جمال الغيطاني ، وهي كانت واقعة مبكرة جدا في مشواره الأدبي والفني ، إذ أعدّت مجلة "القصة" في يونيو عام 1965 عددا كاملا عن القصة الجديدة ،وكتبت علي غلاف العدد "عدد خاص عن الطلائع"، وكان من بين هؤلاء الطلائع ضياء الشرقاوي ومحمد حافظ رجب ومحمد البساطي وجمال الغيطاني وغيرهم من شباب كتّاب القصة ،وآثرت المجلة أن تضع كل ثلاث أو أربع قصص تحت مجهر نقدي لناقد كبير ، وكان الناقد الذي قرأ قصة جمال الغيطاني "هو الدكتور علي الراعي ، وكان شأن الراعي آنذاك شأنا كبيرا مهيبا ، ولم تكن قيمته مستمدة من جهده النقدي العظيم فقط ، بل كانت مستمدة من عدد المسئوليات الثقافية الكبيرة التي كانت ملقاة علي عاتقه ، أي أنه ليس ناقدا عابرا ، وأنا أعتبره أحد مفكري النقد الأدبي في مصر والعالم العربي ،وكانت قصة جمال المنشورة هي قصة "أحراش المدينة"، وكان جمال الغيطاني في العشرين من عمره فقط ، أي أنه كان في مقتبل العمر والتجربة ، وعندما تعرض الراعي لقصة الغيطاني قال عنها نصا :"في هذه القصة تأثر الكاتب خطي نجيب محفوظ تأثرا واضحا وخاصة في رواية الطريق ، هنا نفس التكنيك ونفس الموضوع ..بطل نجيب محفوظ يبحث عن أب ، وبطل القصة يبحث عن
أم ، ويبدو أن كاتب القصة قد جعل للأم في قصته أكثر من معني ..كما جعل نجيب محفوظ للأب في روايته معني مركبا ..فقد يعني الكاتب بالأم الصلة العضوية التي تربط الانسان بالحياة ..وقد ترمز عنده إلي حياة هانئة عاشها البطل قبل السجن ثم خرج فلم يجدها .."
وبعد بضعة ملاحظات أوردها الراعي ،أنهي ماكتبه عن الغيطاني قائلا :"إني أراه كاتبا واعدا علي كل حال ، فإن تأثره بخطي نجيب يدل علي وعي فني واضح ، ليست القضية مجرد ترداد لنجيب محفوظ ، بل هي تذوق فني له ..وعلي هذا التذوق أعتمد في أملي أن ينطلق الكاتب إلي مراحل أخري من مراحل التطور"
وبالتأكيد أن هذه الكتابة تعتبر أول كتابة نقدية تتناول نصا إبداعيا لجمال الغيطاني ،ورغم الملاحظات التي ساقها الراعي في ما كتبه ،إلا أنه يبشرنا بانطلاق كاتب جديد ، ذي ذائقة خاصة ، ورعم هذا ، ومن المفترض أن يسعد هذا الشاب بما كتبه الناقد الكبير ،إلا أن الكاتب الشاب جمال الغيطاني لم يعجبه هذا الكلام ، وأراد أن يوجه رسالة قوية من كاتب شاب إلي ناقد كبير ،هذا الكاتب الشاب ،لم تمنعه الهالة الكبيرة التي تحيط الناقد الكبيرمن التعبير عن رأيه وموقفه ، ولم ترهبه ،بل بالعكس دفعته هذه الهالة ليعلن عن ميلاد كاتب موهوب ، وكذلك مثقف كبير ، رغم حداثة سنّه ،فكتب يردّ في العدد التالي مباشرة ، أي في يوليو 1965، واستهل تعقيبه قائلا :(..بعد أن قرأت نقد أستاذي الدكتور علي الراعي لقصتي "أحراش المدينة"، في عدد الطلائع من مجلة القصة رأيت أنه من الواجب أن أوضح بضع نقاط أري أنه من الضروري توضيحها ..يقول الدكتور علي الراعي أن موضوع القصة هو نفس موضوع رواية الطريق لنجيب محفوظ ، الحقيقة أن القصة من هذا النوع من القصص الذي يطلقون عليه "قصص البحث"، وما رواية الطريق إلا حلقة في سلسلة طويلة من هذه القصص لها جذور بعيدة ممتدة في أحشاء التاريخ ، وما البحث إلا موضوع من هذه المواضيع الخالدة التي ظل الأدب الانساني يتناولها في مختلف العصور وشتي المراحل ،شأنه شأن الحب والكراهية والغيرة والبطولة ،إننا نجد في الأدب الفرعوني قصة إيزيس الباحثة الصبورة عن أشلاء زوجها أوزويريس الذي قتله إله الشر ست ، كذلك في الأدب والأساطير اليونانية حيث يدور ياسون في بحث دائب شاق عن الجرة الذهبية لكي يسترجع ملك والده ، وحيث تري تليماك يذرع الأرض طولا وعرضا بحثا عن أوديسيوس المفقود...)، وهكذا يعدّد الكاتب الشاب رؤوس موضوعات للناقد الكبير عبر مقال طويل ،يستعرض فيه كل ما فات علي الراعي ، وما لم ينتبه إليه ،وإن استخلصنا من هذه الرسالة شيئا ،فعلي رأس هذه الأشياء تأتي صورة الكاتب والمبدع الشاب الذي يعلن عن نفسه بقوة ، والذي لم يخش من الهالة الكبيرة التي تحيط بالكبار ، ثم الثقافة الواسعة التي ينم عنها المقال الذي كتبه هذا الكاتب الشاب.
ويكفي هذا المقال الذي كتبه الغيطاني في وقت مبكر من حياته ، وفي وقت مبكر -كذلك-من انبثاق جيل الستينيات العتيد، وفي هذه المرحلة بدأت ملامح هذا الجيل ، وبدأت قصصه ومشاركاته تنتشر بشكل واسع في الصحف والمجلات ، وكان عبد الفتاح الجمل يقدم أبناء هذا الجيل واحدا تلو الآخر دون تحفظ ،سوي أن يكون الكاتب مكتمل النضج ،وكتابته تليق بالمستوي الذي يقدمه الجمل ،وكان يوسف إدريس يقدم البعض من هذا الجيل علي صفحات مجلة "الكاتب"،ولكن بتحفظات إدريس ، حيث أن إدريس كان يتعامل من منطلق أبوي ،هذا المنطلق الذي يسمح له أن يقول ملاحظات حول ما ينشره ،وحول الكتّاب أنفسهم مثلما فعل مع يحيي الطاهر عبدالله، وكان يحيي حقي يفعل ذلك دون أدني ملاحظات منه ، ولكنه كان يترك الكاتب مع قارئه ،دون وصاية ، ودون تحفظ،ولهذا كانت مجلة "المجلة"، ملاذا آمنا لكثير من أبناء هذا الجيل.
وبهذا بدأت أقدام الجيل ترسخ ،وقسماته تتضح ،للدرجة التي أخافت السلطة السياسية ، فقررت هذه السلطة أن تلقن درسا لهؤلاء الفتية الذين يكتبون كلاما غامضا ،وربما واضحا ،وربما هذا الكلام يعطي أثرا لا يرضي تلك السلطة الحاكمة، ويكفي هذا ليكون عاملا تسويغيا للقبض علي طليعة هذا الجيل ، وبالفعل تم القبض علي مجموعة من هؤلاء الكتاب والمثقفين ،منهم جمال الغيطاني وصلاح عيسي وعبد الرحمن الأبنودي وصبري حافظ وسيد حجاب وسيد خميس وابراهيم فتحي وغالب هلسا ومحمد عبد الرسول وغيرهم ، وكان ذلك في أكتوبر عام 1966، وكانت ذريعة السلطة آنذاك أن هؤلاء أنشأوا تنظيما يعمل علي إسقاط النظام ، وكانت المضبوطات عدة أوراق سياسية ، وكان السبب المباشر هو ثلاث مقالات كتبها الكاتب الأردني ، والذي كان يقيم في القاهرة منذ عام 1953،هاربا من السلطات الأردنية ،ونشرهذه المقالات في مجلة الحرية اللبنانية، وكانت هذه المقالات تتحدث عن الحريات المفقودة في العالم العربي.
وبعد سلسلة من أشكال التعذيب المعتادة ، والتي أتقنها وتفنن فيها مجموعة من السجّانين المحترفين ، وبعد تدخلات عديدة من مفكرين و ساسة وقيادات في الدولة ، وكان المفكر الفرنسي جان بول سارتر علي وشك أن يأتي في زيارة إلي القاهرة وجهها له محمد حسنين هيكل ولطفي الخولي ، واشترط سارتر أن يزور القاهرة ، شريطة ألا يكون هناك سجناء للرأي في البلاد ، وبالفعل تم الإفراج عن هؤلاء الشباب في مارس عام 1967.
وكانت هذه الفترة مشحونة بالتوتر علي الجبهة المصرية ، وكانت التحرشات المتبادلة بين العدو الصهيوني ، والقوات المسلحة المصرية ، وكانت السلطات المصرية تطلق عددا من التصريحات النارية في مواجهة الصهاينة، حتي أن حدثت كارثة 1967،لتكشف وطنية هؤلاء الشباب ، والكتّاب الجدد ، والذين لم يحملوا ضغينة تجاه الدولة لأنها اعتقلتهم وعذبتهم في يوم من الأيام ،ولكنهم قدموا أجمل مالديهم من أفكار وإبداعات ، فكتب الأبنودي "أحلف بسماها وبترابها"، وراح زملاؤه يضربون في كل اتجاه.
واهتدي الشباب الجديد إلي تجديد الخطاب الأدبي ، وكان جمال الغيطاني من أبرز الوجوه التي فعلت ذلك ، فكتب مجموعته الفريدة "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، والتي صدرت عام 1969،علي نفقته الخاصة ،بعد أن شاركه رفاقه محمد يوسف القعيد وسمير ندا ، لتأسيس مطبوعة تحت عنوان "كتاب الطليعة" ، وكان الفنان عدلي رزق الله متحمسا جدا لهذه التجربة الشابة ، فأهدي جمال الغيطاني ويوسف القعيد غلافين جميلين ، ولم ينس الغيطاني أن يهدي المجموعة :"إلي صديقي الفنان ..عبد الفتاح الجمل ..الذي أعطي الفرصة لجيلنا"،وكانت المجموعة القصصية للغيطاني ، ليست صرخة شاب وفنان في الهواء الطلق من التاريخ ، ولكنها حرّكت بالفعل عقول نقاد وكتاب كبار ،وبالتالي حركت أقلامهم ، فكتب محمود أمين العالم ،ومحمد عودة ، وآخرون من هذا العيار الثقيل ،هذا بالإضافة إلي الكتّاب والنقاد الأقرب سنا من جمال الغيطاني وجيله ، مثل علاء الديب في مجلة صباح الخير ، وعبد الرحمن أبو عوف في مجلة الهلال ،وينوّه ابراهيم فتحي في مجلة جاليري 68 الطليعية في عدد فبراير 1969عن انبثاق قوة هذا الجيل من خلال كتابه ، فيقول :"نحن نعيش إذن يلتهمنا طغيان الأشياء ، بعد أن تنكرت العلاقة بين الانسان والانسان في ثياب علاقات بين أشياء ،ويلعب الحراس في هذه المأساة دورا واضحا ،نلمسه في رائعة جمال الغيطاني عن سجن المقشرة".
وهكذا استقر اسم جمال الغيطاني في الحياة الثقافية ، كواحد من أعمدة جيل الستينيات الكبار رغم حداثة سنه ، وبكرة تجربته ، ولكن كانت هذه التجربة ، بمثابة طلقة قوية في فضاء تجربة الجيل كله ، رغم أنه كان ساخطا علي المؤسسات التي لم تستطع في ذلك الوقت تقديم العون للأدباء الشباب ،فيكتب في مجلة الطليعة ، ضمن العدد الخاص الذي أصدرته المجلة في سبتمبر 1969 قائلا :"أما بالنسبة لدار الكتب ، فقد كان من الممكن أن تساعد الشباب بالذات في مجال نشر الكتب ،لكنها حتي الآن لا تقوم بهذا الدور كما يجب ، وإن كنت أعتقد أن مسئوليتها في هذا المجال كبيرة جدا ، وأتمني أن تفي بذلك".
وفي هذا الاستطلاع الذي أجرته المجلة ، تحدث جمال كثيرا عن أولي قصصه التي كتبها عام 1959 ،أي كان عمره 14 عاما ، وهذا يعني اشتباكه مع الأدب والثقافة وكتابة القصة منذ وقت مبكر ،وهذا عمل علي تأهيله لكي يحدث هذه الانتقالة الاستثنائية في الأدب والثقافة والفن.
وبالفعل لم تكن رائعته الأولي "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"،هي التي أحدثت أثرا عميقا في تاريخ الكتابة المصرية والعربية ،ولكن جاءت روايته "الزيني بركات"،لتقول ما لم يقله التاريخ ،في شكل أذهل النقاد والقراء والمثقفين علي حد سواء ،وسيتوقف النقاد في القادم ، كما لم يتوقفوا عند نص آخر ،رغم أن هناك كما أسلفنا القول من يحاولون إفقاد بعض كتابات الغيطاني قيمتها الفنية والتاريخية.
وصدرت الرواية في أول ظهور لها خارج مصر ،وبالتحديد في دمشق ،ثم كانت طبعتها الثانية في القاهرة عام 1975، ولكن خارج المؤسسة الرسمية أيضا ،أي طبعها الحاج مدبولي في مكتبته ،وترجمت الرواية إلي عدد كبير من اللغات ، وانطلقت كتابات جمال الغيطاني فيما بعد ،مابين القصة والرواية والبحث التاريخي والحوارات الأدبية ، وله في كل هذه المجالات إضاءات بارزة ،ففي الوقت الذي صدرت فيه الرواية ،صدرله كتاب عنوانه "المصريون والحرب" عن دار روز اليوسف عام 1974،وهو مبحث وشهادة شاهد عيان ،حيث كان جمال يعمل كمراسل حربي في الجبهة ، وأبدع لنا في هذا المجال ما لم يستطعه آخرون.
ولا يتسع المجال هنا لرصد وتأمل وتحليل سيرته الثقافية والأدبية التي تظل مجالا واسعا وعميقا ومضيئا في تاريخ المصريين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.