"إيديا في جيوبي وقلبي طِرِب"... هذا تماما ما كنت أُغنيه، مُتمثِلا نفس الهيئة الواردة في إحدي الصور المصاحبة لصوت "محمد منير". يداي في جيبي الجاكيت الأسود الحميم، ورقبتي تتحسس الكوفية البيضاء النائمة بينها وبين الياقة الوبرية. آه! صوت "منير" وصورة تثبت قليلا لشريط قطار متعرج وسط خلاء. في القلب من الشريط- علي البعد- شاب وحيد تتحرك ساقاه إلي الأمام أو إلي الخلف. شاب مُستدفِئ بشيء علي هواه. مجرد تذكر صوت "منير" والشاب، يُشعل في النفس رغبة إلي كوب "كركديه" ساخن يُضوِي بلمعة حجر كريم. سيكون رائعا لو يتم ذلك في مقهي بأطراف مدينة، أو علي طريق مقطوع، وليس هنا في موقف عربات الأجرة.. المكان الأصيل لأنفاس الدخان المتحررة، والعائدين من أعمال الليل، وزبونة تأخذ الكابينة المحجوزة جنب السائق. ليل ديسمبر والتمارين الأولية لتباشير المطر بقطرات سوّدت الرصيف وأذابت النور الأصفر في التماعات تحت حفر الماء الصغيرة. تقف العربات مُصدرة مؤخراتها المفتوحة لتبتلع الآدميين إلي دفء قسري. تصعد سيقان بيضاء مُشمرة مغموسة أحذيتها في طين أسود، فتكون النتيجة هي تفكير هذا الواقف الراصد بأن يمد أطراف أصابعه ويمسح بأستيكة قطرات الطين المطرطش علي صفحة بيضاء لقدم أو مطلع ساق! تزحف العربات أمامي بمؤخراتها الواطئة المُثقلة بالمُتشعلقين الواصلين بعد تمام العدد. أنادي علي اسم بلدنا بين الراكبين فلا يجيب أحد. أفرز الواقفين ولا أتبين أحدا أعرفه. تأتي عربة وتئن واقفة في مواجهتي، فأهُمُّ بسؤال السائق لولا رؤيتي للشيخ "محمد" بلدياتي الذي ابتلعه صندوق العربة في لحظة، فكان أن رميت بنفسي للداخل ولبدت في جوار الشيخ، لنكتمل ستة ركاب يقابلنا ستة آخرون. سد المتشعلقون مدخل العربة التي تحاملت علي نفسها وبدأت الزحف. في حضن الشيخ "محمد"، ومع إغماضة عينين، وأنفاس اثني عشر إنسانا؛ تأتي روائح الحليب والقُرص بالسمن والشاي في صباح شتوي. رائحة سبعين سنة تسحب لسؤال مُزلزل: هل ستعيش يا قصير العمر حتي هذه السن؟ وإذا عشت، كيف سيكون كشف الحساب؟ السبعون بجوارك هادئة، في رسوخ جبل، وأنت مستريح بالغناء والدندنة الهامسة دافسا يديك في الجيوب الدافئة: "إيديا في جيوبي وقلبي طِرب/ سارح..". سارح أيها الشيخ في ملكوتك، وكل يوم علي هذه الحال. من أيام الخروج الأول والسفر للمدن، ونحن نراك بشكل يومي آتيا من مسجدك البعيد، مُحفظا للقرآن، مُلقيا بعض الدروس. تمشي مُتمتما بالآيات، مُدندنا مُنغِما بما تيسر من ذاكرة تُجاهد في تثبيت كل ما يفر ويطير. لم يُفلح أولادك الأطباء والمدرسون في مسعاهم: "اقعد واللي انت عاوزه هيجيلك". ها! إنها نكتة لو يسجنوا النغم والدندنة والملكوت العائش بذاته. الملكوت الكامن في جسد ضعيف وذقن قليلة الشعر وطاقية قماشية مكبوسة في دماغ صغير متمايل لليمين والشِمال. إنه لأمر عظيم جَلل أن يخرج هذا الدماغ من ملكوته ويلتفت ويُصوب عينين ثابتتين في وجهي. ارتبكت وتأكدت أن العينين تقصدانني. خرج صوت حروفه مُفخّمة ثقيلة: إزّايّ والدك. أجيب مُركّزا: الحمد لله، وانت ازايّك يا شيخ محمد؟ يقول مستمرا في التمايل: بقالي كتير ما شفتوش. أرد بأنها المشاغل والدنيا التلاهي. ودون أن يطرف، وبتركيز أشد، استدعي من عينيّ انتباها حديديا: عشان خاطر أبوك تروح بكره وتقول له "نعم وحاضر". بنفس الانتباه الحديدي رددتُ غائبا: ماشي يا شيخ محمد، سيبها لله. خرجت منه و"نِعم بالله" وعاد للتمايل من جديد. سحبت بصري من جانب وجهه الراسخ، وملت برأسي في الجهة الأخري مُكتشفا أنني الآخر أتمايل بأغنيتي: "وحدي لكن ونسان وماشي كده". انتبهت لجمال الكلمة المعجزة: ونسان. جري لساني بها متذوقا علي مهل: ونسان، ونس، إنسان، إيناس. حروف سين وهسيس متلاحق، جعلني أركن في حضن الشيخ، صامتا هذه المرة، متابعا الطريق من فرجات الزجاج خلف الرؤوس المُنكَسة. تغيرت الوجوه، نزل البعض مع وقفات متكررة للعربة، ودخل كل المتشعلقين. انكشف الرصيف في الخلف أسود مارقا لامعا. لا شيء الآن يحول ضد سرسوب البرد الصاروخي المندفع في الآذان والوجوه. أحكمت ياقة الجاكيت وسويت الكوفية حتي غطت نصف وجهي. رأيت، بعينين مغمضتين، شابا وحيدا في قلب شريط قطار متعرج، ووسط مدينة تعج بالصخب. كان يتحرك ناحيتي وبوجهه ابتسامة مُشعة بنور النيون المشابه لهذه اللافتة المتوهجة التي عبرتنا للتو. في دماغي، وبعينيّ المفتوحتين، رأيت نور اللافتة ينقلب ويتشكل قطارا يأكل عربتنا بمَن فيها. طقّت شرارات كهربائية نتيجة تلامس الحروف الحمراء للافتة مع سلوك عصب العين. شفتاي ولساني يُعيدان الحروف المتضائلة الهاربة للوراء مرة ومرة: الوحدة المحلية بقرية... ماذا يحدث؟ مِلتُ علي جاري أسأل: هي العربية دي رايحة فين؟ تقطّب جبيني، وخبطت علي الزجاج خبطات عصبية فوقف السائق بفرملة سريعة. أخبرتُ الشيخ محمد، الذي تلفتَ مأخوذا ونزلنا يتبعنا لغط الركّاب المُستغربين. سألت السائق عن الأجرة وحاسبته دون أن أنظر في وجهه. طوّح بالقطع المعدنية أمامه، وفرّ بعربته مُخلفا دخانا نفّاذا ثقيلا، صنع ما يشبه الشبورة حول جسدين وحيدين علي الرصيف.