حجرة السلاحليك.. قبو ممتد.. الجدران من الجير الأبيض، مترب.. يتسع مرة ويضيق علي الأجناب..صناديق الذخيرة الخضراء.. داكنة اللون وفاتحة.. صناديق أطول وأعمق وأعرض للبنادق والذخيرة.. تشعرك بالغدر.. مائدة خشبية ملوثة بزيت تنظيف ماسورة الداخل.. أقف بانتظار رائحة الزيوت تعبث في أنفك.. تسعل.. ومرة أخري.. أخاف عليك مثل المروحة الصغيرة المعلقة علي جدار بعيد من الداخل.. جلدك عالقا علي بندقيتك.. زحام السعال في ذراع قميص.. الأصوات الآدمية قليلة.. مكررة.. من شخص واحد لنفسه من الداخل.. موجعة كاحتجاج.. موجات مبحوحة بلون الأتربة الأرضية.. تخفق مثل انحناءة القبو صعوداً ونزولاً.. السفر يأتي بذكريات لم تذبل بعد. تشعرك بالبؤس.. الرائد عبدالستار من سلاح المركبات.. تدرج في الترقية بدءاً من جاويش.. تشعر أنه حاد البصر رغم سنه وتضاؤل عدد شعيرات جفونه.. الباخرة الروسية تتراكي علي رصيف الميناء الحربي بشاحنات نقل عملاقة.. رصيف 49 الحربي استوعب الدبابات معها.. تحت حراسةالكتيبة لوصول قطار رحلة سعت ألف ومائتين.. رصيف الفحم مجاور أسود هباب من الأتربة.. الرصيف المقابل جهة الشمال مبهج، ملون الصناديق والكونتيرات فائقة الأناقة..تخف الحركة علي الأرصفة كلما ضعفت الأنوار في زمن الحرب..ضابط عظيم عبدالستار في ليلة الحر.. لا ينام في عنبر النوبتجية.. خرج لمنتصف الليل متمهلاً لقتل الوقت.. يلتفت إلي الوراء قبل أن تطأ قدمه يميناً أو يساراً بين غابة الشاحنات والدبابات.. وجدت أبي مازال في مكانه المعتاد بالجامع حريصاً علي حذائه أمام عينيه.. لو ضاع حذائي فقدت هيبتي.. يكررها في كل صلاة. ما له من واق. تسمرت قدما عبدالستار وشفتاه وجرت عيناه تمسح موقع الصوت المتقطع... من ياقة قميصه جذبه من تحت شاحنة ومعه مفكان يحاول خلع جزء من فانوس خلفي.. سحبه بقوة وخرج.. هبت كل الحراسات النائمة لنجدة الصوت.. كمن يصطاد غزالاً في صحراء الجوع.. تجمعوا وقيدوه وضربوه ولعنوه.. الوجوه مطلية بالإرهاق والرعب وخدر النوم المفقود.. اسودت الوجوه وتشابهت.. بين ركبتيه وفكيه وعينيه وقلم جاف أسود.. يحفر بئراً من الأسئلة المعقدة المعترفة بالذنب.. تقلب الجندي الخائب الفقير إلي نفسه وعطشه.. يميناً ويساراً ينحني.. إلي إخوته وأم لا تبصر وأب شارد علي الكنبة خلف مرحاض الجامع.. ذنب عاجز مبتور اللسان..أمام تعريشة الصياد.. القلم الجاف يحفر شقوقاً بتجاعيد إلي تحت.. أسفل فجوة لا يراها مخلوق.. من يدفع العربة الهزيلة من العظم والدم والعروق النافرة الواردة من الصعيد الجواني.. مجند الخدمة الوطنية.. سقط في القوقعة.. خشبي الملامح الاخناتونية.. في ليل شديد الحر والظلمة والنحس علي رصيف 49الحربي.. دوائرالخوف ودوائر بلا حراك.. برائحة الكاوتش المحروق.. يقتربون منه وينفصلون.. بدأوا ينظرون إلي انكسارك.. مثل الأعشاب الجافة الخشبية المدببة في أوراق التين الشوكي.. من أجلك جئنا في خزي.. بضعة مسامير قلاووز في كف الرائد عبدالستار.. يتفرج عليها ويهز رأسه بالايجاب والفرح كلما طرح سؤالاً بعناية حبل عشماوي.. الثعبان الرابض أمامه فاتحاً فكيه.. بقهقهة بأسنان متآكلة.. تسرق وأنا ضابط عظيم.. لست مثل الآخرين.. لا أشعر بالرغبة في النوم خارج بيتي.. يحزنني أن أمي كانت تصرخ كلما نادت علي بزفت الطين.. الطائر الصعيدي الممصوص.. من الأنفاس.. بضعة مسامير قلاووز.. هذه المسامير رخيصة الثمن..مثل الدجاج المذبوح فوق قفص التاجر.. مجرد مسامير.. صدقوني لا أعرف لماذا فعلت؟.. سلوا أصدقائي.. صلينا العشاء معاً..لا تمارس الشعوذة علي رتبة مثلي شرب من مرارة الخونة.. من استأجرك لتفعل ذلك.. فك المسامير معناه خيانة واسمه الحقيقي.. مخرب.. اخرس.. لا ترد قبل أن ترشدني عن شريكك.. هه.. تكلم.. وحدي والله يا فندم.. إنت مقبوض عليك في حال تلبس.. خلصني.. قل من هم؟ كمن لسعته أفعي.. هب اخناتون مذعوراً.. انفلت من الدوائر المحيطة مثل فأر شارد بسرعة جنونية إلي حرف الرصيف.. لم يلحق به أحد قبل سقوطه في البحر.. الرائد عبدالستار همهم بكلام مبتور ملوحاً بذراعه ناحية البحر.. عائداً إلي ميس الضباط.. لا يرد علي من يقابله.. الذي يعنيه هو الذي يسمعه.. غاطس رصيف الميناء عشرون متراً.. كيف خطرت الفكرة..؟ في اتجاه غرفة نومه وخسارة انفلات صيده.. يوم نحس.. ابق عينيك مغلقتين..... آلو.. نعم كيف حالك؟ حالي.. من يتكلم؟ ميريت.... ميريت.....؟ أخطأت الرقم...... لا تغلق الخط.. أنا أطلبك أنت.... ... ومن أنا؟ أعرفك جيداً.. وأعرف أمك واخوتك.... أمي ماتت منذ سنين..... شاركت في عزائها..... ربما.. لكني.. لا أعرفك! قدتني إلي السجن يوماً.. تسببت في دخولي السجن.... أنا؟ أنت هو أنت.. لا تزيد ولا تنقص..... ........ تم إخلاء الرصيف الحربي.. في انتظار أوامر لا نعلمها.. امشي خلفي علي حرف الرصيف في الظل..غير بعيد.. ذات اليمين وذات الشمال.. كبضاعة مهربة دارت حولها العيون بالحيرة.. صف من المقاهي بدا خالياً.. تهت بينها.. علي أن أعود بالمسامير إلي صاحب الجيوب الفارغة. والأمعاء الفارغة... جففوا البحر.. صامت، عاطل عن الدفاع، نظرات عينيك ترويني بالذل.. أشعر بكل ما مضي وكل ما سيحدث. تمت