صوتها في التليفون ياصديقي كان أنثويا, عاديا ومحايدا, لاينبئ عن شيء بعينه, وأنت أيها الصديق الرائع تعرفني, لايهنأ لي بال إذا وضعت للصوت الذي أسمعه صورة من خيالي, تناسب مافيه من تثن أو خضوع أو اعتداد أو تصنع, أو مكر أنثوي تفشل في إخفائه النبرات الجادة, وبرغم أنني لمحت في صوتها نبرة اعتداد ومسحة تبرم إلا أنني تصورتها فتاة عادية, قصيرة أو تميل للقصر, مليئة وبلا خصر, مجروحة ولاتغري بالمغازلة, لذا فإنني ودعني أهمس في أذنك لو أذنت لي لم أكن سعيدا باضطراري لانتظارها إلي مابعد انتهاء العمل, لولا أنه كان يوما من أيام إبريل!!, وأنت أيها العزيز تعرف إبريل وأيامه العابثة!! جاءني صوتها ثانية وهي تسأل الحاجب عني في الخارج فقلب كل الموازين التي استعنت بها في رسم صورتها, فالصوت القادم عبر الباب طاغ, تساءلت: أين كان كل هذا وهي تتحدث في التليفون من نصف ساعة؟! نصف ساعة فقط؟! الصوت هذه المرة ساحر, فيه بحة أنثوية قاتلة, ودلال وخضوع ينبئان عن ثقة في النفس بلا حدود, وشيء من الاعتداد يصعب تجاهله, وأطل الحاجب بوجه مندهش يستأذن لها في الدخول فلمحتها, كانت واقفة هناك من خلفه, ومن فوق كتفه تمد رأسها الساحر وتستطلعني. وخطت داخلة, بالكاد أشرت إليها لتجلس فلملمت أطراف فستانها وهبطت في وداعة فوق مقعد قريب, وفيما أتظاهر بالاستماع إلي شكواها سرقتني, نشلتني أيها العزيز, رأيت في وجهها سحرا جمعته من كل صنوف النساء, روعة تنساب من عينيها المحتشدتين بألوان الربيع, وصفاء الوجه المتآمر, أنثي متحققة, حتي في شهيقها وزفيرها, يغطي شعرها المجنون نصف جسدها, اقتحمتني, ولما استوثقت من استسلامي أغرقتني بامعان في بحار عينيها, وبحة صوتها, ودقة تعبيراتها.... وانطلاقها المستحيل. *** ما الذي تتحدث عنه هنا أيها الصديق؟!, إنه أنا وأنت, إنها صداقتنا التي بدأت لتوها, ربما أكون أعرفك, وربما تبادلنا التحية في صباحات بعيدة, أو أمسيات موشاة بغموض شفيف, أو تراشقنا بحدة تناسب بعض الأوقات العصيبة, بل وربما اتكأنا كل علي الآخر لنبلغ غاية غامضة, لكننا في النهاية أيها العزيز نقترب من بعضنا, أنا وأنت, وأيضا هذه الحانة القديمة, وهذه الكأس التي تمارس أول طقوس الندم, والحكايات, والنساء, والمعارك القدمة, والخيانة. أقسم أيها العزيز بالذكريات الضائعة, التي لاأكف عن البوح بها في كل قطرة شراب, أقسم بالوداعة, بالدماثة, بالنبل, بالشرف, بكل مالم يعد له اعتبار الآن, بل أقسم بصداقتنا التي بدأت لتوها أنها لم تكن سوي كلمتي, قلتها في وقار يناسب سني وشعري الأبيض.... وآلام ظهري: إنني ياصغيرتي في عمر أبيك انتظر أيها العزيز, فلابد من تذكر الكلمات بدقة, نعم: إنني ياصغيرتي في عمر أبيك تقريبا. وقلت: إنها ياصغيرتي أيامي وأيامك, أيامي الماضية بتضاعيف المتواليات الهندسية, وأيامك الآتية المتحققة. فماذا فعلت المتمردة أيها الصديق؟!, ماذا فعلت النمرة التي تتمطي وتنكمش وتقفز وتهاجم في آن؟!, والتي طلعت في أيامي كما تطلع شمس صيفية؟!, لقد انتفضت واقفة كأنها تلعنني, ودقت بقدميها الأرض الخشبية وهي تطلق في وجهي الحليق المرطب بكولونيا ال دارك بلو صراخها: لن أكون لغيرك, أبدا أبدا أبدا. *** عندما أبصرتك جالسا هنا, في هذا الركن المعتم, قلت هذا ضالتي, أنت نموذجي من كل الوجوه, نظرات عينيك مسافرة في داخلك الغامض, والشعيرات البيضاء تجلل تاجك المبعثر, قلت هذا هو, شددت علي يديك وعندما رأيت الثلج ذائبا في كأسك, والمطفأة مليئة بأعقاب السجائر, وعيني النادل لاتتابعانك كما اعتادتا مع القادمين الجدد هنأت نفسي, قلت: هذا الرجل ضالتي, ولعله مثلي واقع في حب مستحيل. أشكر لك صمتك علي كل حال, وصبرك, وقدرتك المدهشة علي الإنصات لهذه الثرثرات, فهكذا أكون مع الكئوس الأولي, أنتشي وتأخذني رغبة حارقة في البكاء, وتنتابني حمي البوح والانعتاق, وأظل أهذي. *** درت مع26 يوليو, ثم شريف, انعطفت إلي عبد الخالق ثروت, ثم رمسيس, وعدت إلي26 يوليو من جديد, وشريف, وهكذا حتي عثرت علي ثغرة نفذت منها امام نادي القضاة, أعطيت المنادي جنيهات كثيرة ليدفع المؤخرات, مؤخرة تلو أخري حتي انحشرت بالكاد بين السيارات. لا أتذكر الآن لماذا جئت إلي وسط المدينة, لابد أنني كنت مضطرا, وأتيت في مثل هذا الوقت لأمر شديد الأهمية, وإلا لماذا أقضي ساعة أدور كبقرة مسكينة حول ساقية, النير فوق رقبتي, والغمي فوق عيني للإيهام بأنني أغد السير في طريق مستقيم, وليس في دائرة مغلقة. ولكنني, وأكرر القسم, بالذكريات الضائعة, والنيل والشرف والأوقات السعيدة, كنت قد اتخذت قراري بقطع كل علاقة بها. سأختصك بما لم أبح به لأحد, حتي لنفسي!!, إنني في كل مرة ألمسها كانت تسري في أعضائي قشعريرة قاتلة, ويطن في صندوقي الموجوع بصدي الذكريات ندم كهربي, لكن الشيطانة الصغيرة تأخذ في دفع سنوات عمرها في مسامي فأنتفخ كالبالون, كما لم أفعل من قبل. كأنني صبي في الخامسة عشرة, وأكاد أخرج من دائرة الوعي وهي تهلل فرحة, كأنها في كل مرة تكتشف جديدا. أتدري ياعمري لماذا علاقتنا رائعة إلي هذا الحد؟! تباغتني بالسؤال, وقبل أن أفيق من صدمة الفيض الشيطاني تدس أصابعها الكهربية في جسدي وتجيب: لأنها آمنة. وتطوح برأسها للخلف فيطير في هواء الغرفة شعرها. بلا فضائح, بلا خوف, بلا أوامر, بلا مسئوليات. وقبل أن تدس, رأسها في حضني المبلل بالعرق تقول: ماأسهل تأويلها, ماأيسر الالتفاف من حولها, بل وحتي إنكارها بالكلية. أوجعتني الإهانة أيها الصديق, لم أكن لأسالها أبدا مثل هذا السؤال المهين, لم أكن حتي لأبدي اهتماما بما تقول, لكنها طعنتني بسكين حادة, قطعت أوردتي وشراييني, وتركتني أفرغ دمي فوق أرض متشققة. *** أنت أيها الصديق الذي بدأت صداقتي معه للتو تعرف كيف بدأ الأمر, وهل كنت أجرؤ؟!, هل كنت أجرؤ علي أن أكون أنا البادي؟! إنها مثلما اقتحمتني كعاصفة التقطتني كما نورسة تلتقط سمكة شاردة, سرقتني من نفسي, من عالمي الذي كان قبلها, فصوتها القادم في التليفون بعد المقابلة الأولي أنبأني معابثا: كنت معي طوال الليل. تلاشيت من فرط الدهشة, شعرت بها تحت جلدي, تجري في أوردتي وشراييني, سألتها, لا لأستدرجها ولكن لمجرد الإعلان عن أنني مازلت هناك, علي الجانب الآخر من الخط: كيف؟! أكاد أموت من الحرج. وعندما جلست في مواجهتي بعد نصف ساعة أطرقت, كأنها خجلي, عن عمد تركت يدها في متناولي فأخذتها, ورفعتها إلي شفتي, أخبرتني بعدها أنني لفحتها بحرائق أنفاسي, وأنها تركتني أحتفظ بيدها بين يدي وهي تعمد لاختراقي بنظرة سندسية, غادرت من خلف المكتب وأخذتها. *** أحملها بداخلي, أشمها في ملابسي وأعضائي, أراها في الفضاءات وفي مروج عينيها القاتلتين, تقول إنها تحبني كما لم تحب امرأة رجلا من قبل, وإنها لاتريد من الدنيا أكثر من أن أدعها تحبني, وأن تطعمني طعاما تطهيه بيديها. أنا أيها الصديق لا أحب هؤلاء الذين يقتحموننا فجأة, وبغير مقدمات, أحب أولئك الذين يبدأون بإرسال رسلهم من خلال أخبار صغيرة متفرقة, حتي إذا ماتداخلوا في دوائرنا كانت لدينا فكرة عنهم وتكونت في أجسادنا مناعة من الانسحاق, لكنني أحببت هذه الشيطانة التي اقتحمتني بغير مقدمات, هجرتني بغير اكتراث, لقد وقفت في مواجهتي بعد أن طاردتها في كل مكان لتقول دون أن تهتز منها شعرة واحدة بطبعي أنا ملولة, ولا أعرف ما الذي ينبغي علي عمله كي أبرأ من هذا العيب. وانصرفت بغير حرج, كأنها لم تكن في حضني منذ أيام تزيد عنها أصابع اليد الواحدة. *** أقول لنفسي كلما أشرفت علي الجنون, لاتبتئس يارجل, فلقد عشت أياما مسروقة, ونعمت بما ليس من حقك, وفي طريق عودتي من لقائها اللحظي الذي أبلغتني فيه كم هي ملولة مررت بالشوارع التي مسحناها بأقدامنا, لم يكن لها نفس الحضور, كئيبة ومظلمة, شائخة ومحطمة, كأنها متخلفة عن زلزال وقع بالأمس, الناس تحملق في متعجبة, وكلاب الطريق تتجنبني, وجنادب الليل تضن بالصرير, كأنها تعمق إحساسي بالإهانة. وهذا الشخص الواقف أمامي الآن, يعنفني لأكف عن طلب المزيد, ويضحك مني وأنا اتحدث إليك, كأنك لست جالسا أمامي, تنصت إلي وتشاركني الشراب, مثله مثلها ياصديقي, لقد كان يتودد إلي منذ دقائق, وينحني وهو يقدم الطلبات حتي لكأنه سيمسح المنضدة بوجهه الأصفر, لكنه ينقلب علي الآن كما انقلبت فتاتي. ياربي, هل يصدق أحد أنني نسيت اسمها؟!, ولكن لا بأس, فما جدوي الأسماء؟!, وماجدوي أن نتذكرها؟! إنها كعناوين الكتب يسهل تغييرها, أو حتي إعطاؤها مسمي بلا عنوان, وما جدوي أي شيء إذا كنت أنت في كل مرة يحملني هذا الشخص إلي الخارج تفر مني كأنك لم تكن هنا, وبرغم ذلك أعود إليك كأنك لم تخني, كأنك لم تفر فلا تلامس قدماك الأرض, كأنك لم تدعهم يحملونني ويقذفون بي خارج المكان, كأنك لم ترهم وهم يركلونني بأقدامهم ويدفعونني بعيدا, ولا تقل لي بعد اليوم إننا أنا وأنت جريحان. وإن دمنا تجري فوق أرض متشققة, فأنت, أنت أيها الصديق الذي بدأت صداقتي معه للتو لا تعرف شيئا عن الهزائم.... والجروح. ...................................................... كاتب وقصاص له أربع روايات منشورة ومجموعة قصصية, طائر الشوك رواية دار زويل للنشر. ووفاة المعلم حنا مجموعة قصص قصيرة دار ميريت. وجمهورية الأرضين وملحمة السراسوة: الخروج والتكوين وأيام أخري وشياطين وملائكة وحكايات أول الزمان عن دار ميريت.