في باريس، في اليوم الأخير من شهر أكتوبر هذا العام، ودع الدنيا والأهل والأصدقاء، الأديب الشاب الصديق "وحيد النقاش" مات في عامه الرابع والثلاثين، اغتاله داء كامن في الجسد، طالما قضي ويقضي علي الآلاف من أبناء مصر، فكانت مأساته مع الحياة، في سنواته الأخيرة، مأساة الملايين من أبناء القرية المصرية، الذين يقعون فريسة هذا المرض المتوطن اللعين: البلهارسيا. يحملونها معهم أينما رحلوا، أو أقاموا. تهددهم بالعمر القصير، والحياة المعذبة، تفجعهم، وتفجع قلب مصر عليهم، ولما يحققوا بعد وجودهم، ولما يرتووا من الدنيا، تسلبهم الوجود والحلم معاً. في باريس، مات "وحيد النقاش" وهو يوشك علي تقديم رسالته، لنيل درجة الدكتوراه من جامعة السوربون، عن المسرح المصري، مات وهو في عامه الرابع بباريس، يغنم لنفسه ولنا، خبرة حياة، وروح عصر، وثقافة جيل. لم ينقطع خلال هذه الأعوام عن المعاناة، والكدح من أجل العيش، وعن الدراسة من أجل الغد، وعن الكتابة من أجل الوطن، خارج مجال دراسته في صحف باريس، ومجلاتها، وإذاعتها، وفي صحف وطنه العربي ومجلاته. لقد حمل وحيد وطنه معه، وبه عاش هو، وله كتب قلمه. حمله نفسا، كما حمله جسدا. وجاء وداعه المفاجيء لنا، في أحد مستشفيات باريس، صرخة آسي، صيحة قلب محاصر بالأدواء المقدورة، معبرا عن مأساة انسان مصر، ومأساة جيل من المثقفين والكتاب، في كنانة الله في أرضه!! في قرية من قري مصر، ولد "وحيد النقاش". أسرته كلها فريدة ومتوحدة، تحمل مبسم النبوغ المصري الأصيل، الذي قلما يجتمع بين سائر الاخوة والاخوات، في أسرة مصرية واحدة، وكانت أعصابه أكثرها ارهافا، وحساسيته أكثرها رقة، وشفافة، وسرعة استجابة. موهوبا كان وحيد، وموهبته كانت قبل فنه، في غني قلبه، وخصوبة روحه، حيال الحياة، والأحداث، والناس: الأهل، والزملاء، والأصدقاء. من هذه الموهبة، كان أدبه، وكانت كتابته. كان القلم. والورق، والمداد. كانت قصصه المؤلفة، وتعليقاته النقدية المركزة، والساحرة، في المسرح، في القصة، في شئون الحياة الأدبية الأخري، في وطنه العربي الأم: مصر، وفي وطنه الثقافي الحلم: باريس. وكانت اختياراته للترجمة من روائع المسرح العالمي، وكان سلوكه وحركته في الحياة، بين الناس. أهلا، وزملاء، وأصدقاء، وكانت سرعة ألفة الناس له، قابليتهم معه أكثر من سواه، أن يكونوا له أصدقاء، أن يتركهم، بعد لقاءات قليلة، بما لا تجاوز لقاءين، وقد صاروا له أصدقاء، حتي ولو لم تتصل بينه وبينهم علاقات الناس، ولقاءات الأيام. لقد كان وحيد طاقة حياة، وينبوعا دافقا بالحب الدافيء، والبراءة المفتوحة القلب، للحياة، وللناس، والفضول الذكي الحساس، للمعرفة، والاكتشاف. وبقدر غني قلبه، وخصوبة روحه، ورهافة احساسه ومشاعره، وشفافية نفسه وحدة ذكائه، وتواضع خلقه، ويقظة أعصابه، كانت رقة جسده ورهافته، أمام أمراض العصر المستوطنة، التي تصيب منا النفس، أمام أمراض مصر العريقة، التي تحاصر منا الجسد. فسقط وحيد صريع الداء، الذي سقطت به، من قبل، أمه هو والذي يساقط معنا، في كل يوم، أمنا مصر، أهلنا في مصر، نحن في مصر، في النصف الثاني من القرن العشرين!! من القسم الفرنسي، بكلية الآداب، جامعة القاهرة، تخرج "وحيد" ومارس من أجل العيش، الصحافة إلي جانب الأدب. عمل بمركز الفنون الشعبية في القاهرة، ثم محررا بصحيفة الأهرام، في قسمه الأدبي، ثم دارسا للحياة، وللفكر ، في باريس. عشر سنوات أو تزيد، عاشها وحيد بالعرض بعد سنواته بالجامعة، ولم يستطع أن يعيشها بالطول، أن يعيشها هي نفسها، بهذا الطول المفروض أن يكون لكل حي، فقد قضي أكثر هذه السنوات، يناوشه المرض، ويحاول هو الصمود في وجهه، والمقاومة له، هاربا إلي روحه، وحلمه، إلي عالم التحقق الندي الرطب. قضاها هذه السنوات، وحيدا كأسمه، كأسمه تماما، مع المرض الكامن، المناوش، المراوغ، فرارا من نهاية تأتي، قبل أن يتحقق الحلم، قبل أن يمنح وجوده، تبريره العظيم، الباقي من بعده، الذي عاش له، وربما عاش به، هذه السنوات الأخيرة القليلة، من عمره. هكذا كان يفكر وحيد، أو هكذا أراه الآن. لشدة شعوره بذلك، واحساسه به، ومعانقته له، ببعد الحلم، بأن عمله الكبير لم ينجز بعد، بل لم يبلغ أعتابه البعيدة المنال. صار الكل من حوله، يحس باحساسه، يفكر بما يفكر به، يتقبله علي أنه الواقع والحقيقة، غفلوا، كما غفل هو، عن قيمة ما يعمله، عن الشوط الذي قطعه، انتاجا، وثقافة، في مصر، ثم في باريس، علي صفحات المجلات والصحف، بوطنه الأم المقدور، ثم بوطنه الحلم والرؤية، صار الكل، كما صار هو، بل كما أراد هو، لشدة طموحه، وغني روحه، وسمو وعوده المقبلة، صار الكل، كما صار هو.. ينتظر.. ينتظر؟! ما الذي كان ينتظره هو؟ وما الذي كنا ننتظره نحن، وعمله أمام عينيه، وبين أيدينا؟! لثقته بنفسه، في الغد لا في الحاضر، وربما لتواضعه وروحه المحدقة أبدا في الغد.. لثقتنا به، ويقيننا من موهبته، ومقدرته علي العطاء التي لا تحد، أهمل هو نفسه، فوقع فريسة لعدم الرضا، ووقعنا معه فريسة للاهمال، اهمال أن نناقش عمله، كإهمالنا أن نراه، وأن نجلس إليه، وأن نتحدث معه. ومن العجيب، أنه ظل قانعا لا يحتج. يعاني من جسده، ومن نفسه، ومن الصمت الغامر من حوله، صمت له رنين وطنين، ولا يشكو. يتآلم ولا يصرخ. يتأمل ولا يئن. يقنع ولا يرضي. يظل وحيدا. يعمل وحيدا. يعيش وحيدا. يظل ينتج في صمت، ذلك الانتاج.. في صمت يسعي إلي حمله وئيدا، وسط كل المثبطات، بصبر غير بشري، صبر النحال والنمال. يجهد وسط سعيه للتحقق، لتحقيق الوعود المرتجاة منه، لنفسه، وللآخرين. ليعيش حبه للحياة، ومعانقة لها، ناسا، ووطنا. حبه للمرأة رمز هذه الحياة. حبه للأبناء رمز امتدادها وامتداده. ليعيش حلمه الوسيلة: باريس، وحلمه القيمة: الانتاج الأدبي الكبير. ليعيش بالعمل موظفاً وصحفياً. ليكتب في الوقت نفسه ما يريده، وما يريده وحده، قانعا بما يمنحه له العمل، والعمل وحده، بالقليل الذي يمنحه له عمله، كموظف وصحفي، وكاتب أديب. فأبدا لم يستدرج وحيد، إلي أن يكتب غير ما يريده، لم تستدرجه إلي ذلك صحيفة، أو إذاعة، أو تليفزيون، كما استدرجت الكثيرين من أبناء جيله، وفريقه، حتي من أجل توفير لقمة العيش الهنية، حتي من أجل تحقيق رفاهية صغيرة، عابرة، لبيته، وولده، حتي بأهون صور الاستدراج، حين يكتب ما يريده، بمستوي لا يرضاه هو لنفسه، ولا نرضاه نحن لأحد. قسا وحيد علي نفسه، ليعيش قيمته الوحيدة، وقسا علي من معه، من أجل هذه القيمة: الشيء الشريف. العمل الشريف. الانتاج الشريف. الحياة غير الملوثة، التي لا تسبب قيئا لأهلها وغثيانا لقارئيها وسامعيها، وشعورا بالتهريج، في وقت الجد، واضاعة وقت للجميع، وفرصة الحياة ضيقة، وسنوات العمر قليلة، بالغة القلة، بخاصة حياته هو. بل كان يبذل من نفسه، من ذات نفسه، ومن القليل الذي يملك، لأصدقائه، لم يكفه أن يكون عفيفا. أن يعيش بنبل، عفيفا، مترفعا!! وعاش ذلك الوحيد المتوحد، المستوحش أبدا للدفء والأمن، الذي يعيش من رفعة الروح، بعذوبة، وفي حزن داخلي محض، في خوف من العالم، تقلقه طقوس الحياة اليومية والعائلية الواسعة، ينطوي علي نفسه، يلملم علاقاته في دائرة من الأصدقاء، ممن يحب، يحج إليهم زائرا، كلما اشتاق إلي أنيس، دائرة محدودة العدد، غنية القيمة. برغم صغر سنه، انتمي وحيد النقاش ككاتب، إلي كتاب الخمسينيات، وهو دون العشرين من عمره، النصف الثاني من خمسينيات هذا القرن.. إلي فريق منهم علي وجه التحديد.. فريق لم يكن أبدا شلة، ولا تجمعا، ولا حلفا غير مقدس. وربما لم تجمعه وحدة نظره، وانما جمعته وحدة الخلق تقريبا، ووحدة الأمزجة والصداقات، ووحدة الجدية إلي حد لا بأس به، حد غالب بينهم، برغم سقوط الكثيرين من هذا الفريق، فريسة الاستدراج.. فريق آثر العمل، حسب طاقته وقدرته وموهبته، بل أحيانا أكثر من هذه، الطاقة والقدرة، لانقاذ ما يمكن انقاذه، من انتاجهم الأدبي المتوقع، ومن أنفسهم. وتعرض وحيد، كما تعرضوا غالبا، لذلك الإهمال، الذي كان يمكن وحده، أن يكون مثبطا رهيبا وقاتلا. ولكنهم ظلوا يعملون، ويتساقطون، وسط الظروف الاجتماعية التي يتساقط فيها الكثيرون من أبناء شعبنا، يتساقطون فريسة للمرض، مثل وحيد، فريسة للكرامة الإنسانية، مثل أنور المعداوي، فريسة للعزوف عن الحياة: القيمة والتحقق، مثل محيي الدين محمد. وعسي ألا يكون وداعنا لوحيد هذه الأيام، مثل وداعنا لأنور المعداوي، نذيرا آخر بانفراط العقد، شارة الخطر، للموت في الحياة، بعد الغني في النفس، والصمت في المجتمع، والانتظار، والانتظار الممل المميت، لما تقبل به الأيام من مر وعلقم. خلال ستة عشر عاما تقريبا، انجز وحيد أعمالا طيبة في حياتنا. لم يقدر لها أن تحقق الفاعلية المطلوبة في حياتنا الثقافية والاجتماعية، وأن تقع بها وبه في دائرة الضوء، كما هو الحال مع معظم أفراد الفريق الذي ينتمي إليه، بل الجيل الذي ينتسب إليه، لأكثر من سبب. أخطرها أن هذا الفريق بل هذا الجيل من الكتاب، أبناء الثلاثينيات والأربعينيات، قد وقع في دائرة الظل القمري، ظل ثلاثة أجيال أدبية سابقة عليه: جيل طه حسين، وجيل نجيب محفوظ، وجيل يوسف ادريس، وقع، في هذا الظل، من الناحية الاجتماعية، وليس من الناحية الأدبية، ليس ذلك مهما الآن. المهم هو: ماذا فعل وحيد النقاش، لنفسه، ولنا؟! في أواسط الخمسينيات، بدأ وحيد كتابة المنشورة، بتعليق نقدي، بالغ العمق، والصدق، والشفافية، عن مجموعة قصصية مترجمة، صدرت عام 1954 بعنوان "عشر قصص عالمية". ترجمها الدكتور "سهيل أدريس" ونشر التعليق في مجلة الآداب البيروتية. وبعده توالت تعليقات قليلة متناثرة، عن كتب أخري، في السنوات التالية. فلم يكن وحيد يكتب للمجاملة، أو للرغبة في اثبات الوجود، في أن يقول للكل: "أنني هنا" أو لكسب قروش معدودة، مجرد الكسب، أو حتي لتغطية عمل لا يقبل تغطيته. كان فقط، ودائما، يكتب ما يعتقده، يكتب عما يستثير فيه اعجابا ما، ويرضيه، ويبرر تقديمه للناس. عندئذ كان يفعل ذلك بسعادة بالغة، بل يحمله معه أينما ذهب، ويقول للأصدقاء، في مقاهيهم، في بيوتهم: هل قرأتم كذا لفلان؟ هذا الكتاب؟ تلك القصة؟ هذه القصيدة؟ هذا المقال؟ يستوي في ذلك أن يكون هذا الفلان عربيا أو أجنبيا. مازلنا نذكر له سهرته معنا، ونحن طلاب بالجامعة، حتي ساعة متأخرة من الليل، وهو يقرأ لنا قصيدة "رحلة في الليل" للشاعر صلاح عبدالصبور، ويعيد قراءتها المرة بعد المرة، مؤكدا أنه أفضل شاعر، وأنها أجمل قصيدة، متغنيا من القلب بالقصيدة، وبإعجابه به. العكس تماما كان موقفه حيال انتاجه هو، نادرا ما يشير إليه. وإذا حدثناه عنه، اضطرب اضطرابا حقيقيا، في خجل وتواضع، معبرا بكلمات كالتمتمة، عن أنه غير راض عما أفعل، عن أنه لم يفعل بعد ما يود. في السنوات الأخيرة من الخمسينيات، وأوائل الستينيات، كتب وحيد النقاش عددا من القصص القصيرة، ظهرت فيها مبكرا لغته الشعرية الرهيفة، ولمساته الذكية، واختياراته العميقة الدلالة، للتفاصيل الصغيرة، وحساسية الوجدان المرهفة. اذكر من بينها:"علي المنحدر" و"الموجة الأولي" و"الضوء عند حافة الأفق"، وبينها كانت قصص قصيرة وصغيرة، كتبت بخطه الفريد، الدقيق، الصغير، المنمنم، الأنيق، المركز كروحه وكفاياته، علي صفحة صغيرة بحجم كف اليد، لم تنشر قط هذه الأقاصيص، ولعلها أن تكون الآن بين أوراق المخطوطة التي لم تنشر بعد. شيئان مازلت اذكرهما لهذه القصص: الحزن الاسيان الذي تشف عنه في رقة بالغة، ونداوة مشعة. أسلوبه الخاص جدا، الذي يستمد رقة من روحه ونعومة من ثقافته الفرنسية، المشع أبدا بهذه الخصوبة، بذلك الصفاء، بتلك العذوبة والأناقة، المتحرر أبدا من القوالب المأنوسة، والاكليشيهات المأثورة. في السنوات التالية، كف وحيد، فيما أعلم، عن كتابة القصص. وعسي أن يخيب ظني وعلمي. توالت تعليقات وحيد النقاش، ومقالاته النقدية، بصحف القاهرة ومجلاتها، ومجلة الآداب البيروتية علي وجه الخصوص، عن الحياة الأدبية في القاهرة، وانتاجها، عن الحياة الأدبية في باريس، وثمراتها في مقالات مفردة حينا، أو في أبواب تابتة حينا آخر. بعضها من تأليفه، وبعضها الآخر من ترجمته، ترجمها لأنها تعبر عن رأيه، أو تطرح وجهة نظر جديدة، وليس لمجرد العمل، والترجمة. وبين انتاج هذه السنوات، صدرت له أكثر من مسرحية مترجمة، اختارها بنفس العناية، بنفس الطريقة، لأنها أرضته، وحملت تبرير ترجمتها إلي العربية: "نساء طروادة" لسارتر، "برما" للوركا، ونشرتهما له دار الآداب. "عندما تعمي البصيرة" أو "مالاتستا" لهنري دي مونترلان، التي نشرتها هيئة التأليف والنشر في سلسلتها المسرحية. ثم.. روايته المترجمة "صمت البحر" لفيركور التي نشرتها روايات الهلال، والكتاب الهام "ثورة ماو الثقافية" لمورافيا، والذي قام وحيد بترجمته وهو في باريس، ونشرته دار الآداب في كتاب. بين أعمال وحيد التي لم تنشر بعد في كتاب، مسرحيتان قصيرتان، هما: "أيها الرجل.. لكم أنت جميل" لجان جيرودو، و"وردة لكل عام" لتنيسي وليامز. ونشرت كلتاهما في عدد من مجلة المسرح عام 1966 وبين ما لم ينشر أيضا في كتابه من انتاجه المترجم، عدد من الأقاصيص اليابانية، لكاتب كبير من اليابان فاز بجائزة نوبل، ونشر هذه القصص بصحيفة الأهرام، وقصة "الغرفة" لسارتر، نشرت بمجلة "الشهر" علي عددين، وقصة "الثوب" التي نشرت بالآداب عام 1958. لقد صدرت لوحيد خمسة كتب، من المحزن أنها كلها بين رواية ومسرحية ودراسة من المترجمات. هي علي أهميتها، قيمة وفنية، واختيارا رفيعا للترجمة، وتوفيقا في نقلها إلي اللغة العربية، لا تعبر عن الموهبة الحقيقية لوحيد، ذلك الانسان المبدع الخلاق. أنها تعبر فقط عن مدي ثقافته، وحسن ذوقه، ومواكبته لثقافة العالم المعاصر، ورغبته الغيرية الحارقة، في أن يفتننا بما فتنه، يسحرنا بما سحره، يفيدنا بما افاده. وماتزال قابعة هناك، علي أوراق الصحف والمجلات، وربما بين أوراقه المخطوطة أيضا" قصصه القصيرة، ومقالاته وتعليقاته النقدية، عن المسرح والمسرحيات، والقصة والقصاصين، والظواهر السلبية والايجابية في حياتنا الأدبية، ورسائله الثقافية التي كان يبعث بها من باريس، إلي الأهرام في القاهرة، والآداب في بيروت، ومن منا ينسي مقالاته الممتعة، والمذهلة بصدقها وعمق تحليلها، وتركيزها المكثف المدهش، ولغته الشعرية، عن "ثورة الشباب في باريس" و"الحائط الذي في أورشليم والقلاع التي تنهض في باريس"، ثم مقاله المبكر، ولعله الأول عن كتاب "عشر قصص عالمية" عام 1954.. ليتها تصدر جميعا في كتاب، يجمع بين كل منها وحدة الموضوع، قبل أن تجرفها الرمال المتحركة، التي نسير فوقها، في النصف الثاني من القرن العشرين. بين قصص كتاب "عشر قصص عالمية" كانت هناك أقصوصة قصيرة، مدهشة، وبالغة الامتياز، قصة "لكي يموت وحيدا" وهي لكاتب فرنسي، حملها وحيد في العدد الذي نشرت به من الآداب، في أوائل الخمسينيات، وقبل أن تنشر في كتاب، وراح يقرأها، ويقرأها، الأصدقاء، والمعارف، في البيوت، والمقاهي. كانت القصة تحكي عن مجموعة من الناس سقطت بهم طائرة في الصحراء. وآثروا البقاء والانتظار بجوار الطائرة في ظل جسمها، أينما استدار مع الجوع والعطش، وخطر الموت، إلا بطل القصة، آثر أن يسير صوب البحر الرمز والأمل، والحلم بالنجاة، عابرا الرمال، والسرابات، مقاوما الظمأ والجوع، وتشقق اللسان والشفاه، حتي بلغ الشاطيء وحيدا، وعندما حملوه إلي المستشفي وسألوه، أجابهم: "لا.. لم يعد هناك أحدا".. هذه القصة، كانت نبوءة وحيد المبكرة، لكن المجابه بها، كان حدسه المبكر، وبتجربة حياته كلها، قبله أبحر وحيد نحو البحر، آملا في النجاة بالحلم، في الوطن الحلم. آملا بالعودة بالحكم، إلي الأرض القدر. فهل نجا حقا؟ لو سألوه هنا، كما سألوا ذلك البطل، ماذا عساه كان يجيب؟ لعله أجاب: يقينا أن رسائله ويومياته من باريس، تحمل الجواب ولعلنا نعرفه الآن!! عرفته سنوات عديدة، معظم سنوات الخمسينيات، كنا فريقا: هو. وشقيقه رجاء، وغالب هلسا، ومحيي الدين محمد، وعبدالمحسن بدر، وابراهيم منصور، وعبدالجليل حسن، وأبوالمعاطي أبوالنجا، وأنا، وبهاء طاهر، بهاء كان ومايزال في طبيعة أشبه بوحيد. عيناه المتفرستان في براءة طفولية، تذكرني به دائما، بفضوله المحدق أبدا في الأشياء، ومن بينهم، كنا ثالوثا أدبيا، فيما يخيل لي، نتبادل الهمس والنجوي، والبوح والاعتراف، والشكوي والأحلام: هو، وأبوالمعاطي، وأنا.. وكان هو خيرنا، إنسانا، وفنانا. معه، بل به، تفتحت أعيننا، في سنواتنا الأولي بالقاهرة، علي الأدب الفرنسي، والفلسفة الوجودية، والمترجمات العالمية، التي كانت، وماتزال، تتدفق علي قاهرتنا، من بيروت، ودمشق، ومن اختياره، قرأنا أعظم الروايات التي عرفها العالم. كنا، هو ، وأنا وأبوالمعاطي أبوالنجا، برغم بعدنا طويلا، وكثيرا، أحدنا عن الآخر، فقد كنا نشعر بأننا معا، وأننا احباء، وأننا أصدقاء، وأننا موجودون اللحظة في مكان ما. الآن. نحن وحيدان من بعده، أنا وحيد من بعده، فرقت بيننا الأيام عشرة أعوام أو تزيد. رأيته خلالها ثلاث مرات. يا للكارثة. باعدت بيننا ظروف العمل من أجل العيش، وأثقال الأيام. حملتنا رياح السندباد شرقا وغربا، حتي عندما كنا في مدينة واحدة. وحين عدت إليه، انتظر أوبته من بلاد الشمال.. يا للوحدة الرهيبة القاسية!! كم اخطأنا!! وكم نفرط فيما كنا نملك الا نفقده!! علي الأقل، الا نبتعد عنه، ولا بفارق أعيننا!! في رواية "والدة" لفرانسوا مورياك. وقف الزوج بجوار زوجته المسجاة. شعر فجأة، هو الذي كان بعيدا عنها، علي شدة قربه منها، يهملها بسبب أمه، بل يجفوها، ويقسو عليها، بأنها كانت خير النساء: جميلة، وصبورة، وطيبة، وحين حطت علي وجهها ذبابة، فزع، وراح يطاردها، يطردها، يذبها، يدافعها عن وجهها النبيل، جسدها النيل. اتراني أفعل ذلك الآن، أطرد عن وجهه الحبيب، تلك الشائهة القاسية، التي تصبح لنا، في بلادنا، موتا ثانيا بعد الموت، موتا حقيقيا للروح والذكري، بعد موت الجسد: النسيان؟؟ وداعا وحيد.. لا، فليودعك كل العالم. الآن!! القاهرة