جوتيريش يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة والأنشطة الاستيطانية بالضفة الغربية    اليوم.. وزير خارجية أمريكا يُجري محادثات مع مستشاري الأمن القومي بأوكرانيا وأوروبا    بدء دخول 20 شاحنة مساعدات إلى معبر كرم أبو سالم لدخولها لقطاع غزة    "بعد انضمامه للفريق".. وسام أبو علي يوجه رسالة إلى جماهير كولومبوس الأمريكي    أغسطس "خارج التوقعات"، انخفاض بدرجات الحرارة، أمطار ورياح مثيرة للرمال بهذه المناطق، وارتفاع الأمواج يعكر صفو المصطافين    نجم الزمالك السابق يتوقع طريقة لعب الأبيض أمام مودرن سبورت الليلة    اشتباه إصابة محمود نبيل بتمزق في العضلة الخلفية.. وبسام وليد يواصل التأهيل لعلاج التهاب أوتار الساق اليمنى    هبوط حاد ل الدولار الأمريكي اليوم الخميس 21-8-2025 عالميًا.. واستقرار بقية العملات الأجنبية    عاجل.. مايكروسوفت تراجع استخدام الجيش الإسرائيلي لتقنياتها بسبب حرب غزة    فصل رأس عن جسده.. تنفيذ حكم الإعدام بحق "سفاح الإسماعيلية" في قضية قتل صديقه    وداعا القاضى الأمريكى الرحيم فرانك كابريو فى كاريكاتير اليوم السابع    محافظ المنيا يشهد احتفالية ختام الأنشطة الصيفية ويفتتح ملعبين    دعاء الفجر| اللهم اجعل هذا الفجر فرجًا لكل صابر وشفاءً لكل مريض    وداعا لمكالمات المبيعات والتسويق.. القومي للاتصالات: الإيقاف للخطوط والهواتف غير الملتزمة بالتسجيل    فلكيًا.. موعد المولد النبوي الشريف 2025 رسميًا في مصر وعدد أيام الإجازة    مروة يسري: جهة أمنية احتجزتني في 2023 أما قلت إني بنت مبارك.. وأفرجوا عني بعد التأكد من سلامة موقفي    كشف المجتمع    رجل الدولة ورجل السياسة    رئيس شعبة السيارات: خفض الأسعار 20% ليس قرار الحكومة.. والأوفر برايس مستمر    أذكار الصباح اليوم الخميس.. حصن يومك بالذكر والدعاء    للرجال فقط.. اكتشف شخصيتك من شكل أصابعك    سعر التفاح والمانجو والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 21 أغسطس 2025    إصابة مواطن ب«خرطوش» في «السلام»    «ظهر من أول لمسة.. وعنده ثقة في نفسه».. علاء ميهوب يشيد بنجم الزمالك    توقعات الأبراج حظك اليوم الخميس 21-8-2025.. «الثور» أمام أرباح تتجاوز التوقعات    سامح الصريطي عن انضمامه للجبهة الوطنية: المرحلة الجديدة تفتح ذراعيها لكل الأفكار والآراء    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات الأخرى قبل بداية تعاملات الخميس 21 أغسطس 2025    تعاون علمي بين جامعة العريش والجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا    الآن.. شروط القبول في أقسام كلية الآداب جامعة القاهرة 2025-2026 (انتظام)    «لجنة الأمومة الآمنة بالمنوفية» تناقش أسباب وفيات الأمهات| صور    لماذا لا يستطيع برج العقرب النوم ليلاً؟    استشاري تغذية يُحذر: «الأغذية الخارقة» خدعة تجارية.. والسكر الدايت «كارثة»    الصحة في غزة: ارتفاع حصيلة ضحايا المجاعة وسوء التغذية إلى 269 بينهم 112 طفلًا    لبنان: ارتفاع عدد ضحايا الغارة الإسرائيلية على بلدة "الحوش" إلى 7 جرحى    الجنائية الدولية: العقوبات الأمريكية هجوم صارخ على استقلالنا    غزة: ارتفاع عدد ضحايا الغارات الإسرائيلية إلى 94 خلال يوم واحد    ضربها ب ملة السرير.. مصرع ربة منزل على يد زوجها بسبب خلافات أسرية بسوهاج    شراكة جديدة بين "المتحدة" و"تيك توك" لتعزيز الحضور الإعلامي وتوسيع نطاق الانتشار    علاء عز: معارض «أهلا مدارس» الأقوى هذا العام بمشاركة 2500 عارض وخصومات حتى %50    رئيس اتحاد الجاليات المصرية بألمانيا يزور مجمع عمال مصر    استخدم أسد في ترويع عامل مصري.. النيابة العامة الليبية تٌقرر حبس ليبي على ذمة التحقيقات    بعد التحقيق معها.. "المهن التمثيلية" تحيل بدرية طلبة لمجلس تأديب    بعد معاناة مع السرطان.. وفاة القاضي الأمريكي "الرحيم" فرانك كابريو    ليلة فنية رائعة فى مهرجان القلعة للموسيقى والغناء.. النجم إيهاب توفيق يستحضر ذكريات قصص الحب وحكايات الشباب.. فرقة رسائل كنعان الفلسطينية تحمل عطور أشجار الزيتون.. وعلم فلسطين يرفرف فى سماء المهرجان.. صور    ناصر أطلقها والسيسي يقود ثورتها الرقمية| إذاعة القرآن الكريم.. صوت مصر الروحي    بالصور.. أحدث جلسة تصوير جريئة ل دينا الشربيني بفستان قصير    الجبهة الوطنية يعين عددًا من الأمناء المساعدين بسوهاج    "أخطأ في رسم خط التسلل".. الإسماعيلي يقدم احتجاجا رسميا ضد حكم لقاء الاتحاد    محافظ كفر الشيخ يقدم واجب العزاء في وفاة والد الكابتن محمد الشناوي    اتحاد الكرة يفاوض اتحادات أوروبية لاختيار طاقم تحكيم أجنبي لمباراة الأهلي وبيراميدز    90 دقيقة تحسم 7 بطاقات أخيرة.. من يتأهل إلى دوري أبطال أوروبا؟    أخبار× 24 ساعة.. مياه الجيزة: عودة الخدمة تدريجيا لمنطقة كفر طهرمس    جمال شعبان: سرعة تناول الأدوية التي توضع تحت اللسان لخفض الضغط خطر    كلب ضال جديد يعقر 12 شخصا جديدا في بيانكي وارتفاع العدد إلى 21 حالة خلال 24 ساعة    عودة المياه تدريجيا إلى كفر طهرمس بالجيزة بعد إصلاح خط الطرد الرئيسي    ما الفرق بين التبديل والتزوير في القرآن الكريم؟.. خالد الجندي يوضح    أمين الفتوى يوضح الفرق بين الاكتئاب والفتور في العبادة (فيديو)    طلقها وبعد 4 أشهر تريد العودة لزوجها فكيف تكون الرجعة؟.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبر حواجز العداء والكراهية ووصل إليه:
هكلبري فِن بطلاً لكينزابورو أوي!

قرأ كينزابورو أوي "مغامرات هكلبري فِن" في صباه في قرية جبليَّة بعيدة في اليابان. كانت اليابان والولايات المتحدة آنذاك في حالة حرب وقد قالت له أمّه أنّ معلمته إن أمسكته متلبساً بقراءة الكتاب، عليه إخبارها أنّ مارك توين اسم مستعار لمؤلِّف ياباني. وحسبما تذكّر أوي في كلمة قبول جائزة نوبل، "كانت موجات الرّعب تغمر العالم كلّه آنذاك، وقد أحسست عند قراءة هكلبري فِن، بقدرتي علي إيجاد مسوِّغ لذهابي إلي الغابة الجبليَّة ليلاً والنوم بين الأشجار يملؤني شعور بأمان لم أفلح أبداً في مصادفته داخل المنزل".
كتب كينزابورو أوي هذا النصّ عقب رحلته إلي الولايات المتحدة سنة 1965.
صيف 1965، في ساعة الصّبح التي يكون فيها شروق الشّمس قد صار أكثر سخونة والهواء جافاً ومِن الممكن تحمّله، كنت في أمريكا- كامبريدج، ماساشيستوس- أمام مدخل المِترو وسط ميدان هارفارد بالساحة المقابلة للجامعة. كانت أكشاك الصحف المحيطة بالمدخل تبيع المجلات والصحف الأجنبيَّة، ناهيك عن المجلات والصحف الأمريكيَّة، وكنت أنتظر لحظة تبدّل إشارات المرور كي أعبر الشارع المسفلت. كنت أضم إلي صدري حقيبة أوراق ضخمة وشطائر سجق وخبز أخطط لحملها معي إلي البحر ذلك المساء وتناولها برفقة أصدقاء. وداخل جيب بنطلوني طبعة صغيرة من مُغامرات هكلبري فن. كنت مستمتعاً بالصباح كُلّه وقد دردشت مع كاتبة فرنسيَّة ناضجة كانت تقف إلي جانبي تحملق هي الأخري في إشارات المرور.
مثلي، كانت عضوة في حلقة جامعة هارفارد الدّراسيَّة الصيفيَّة الدّولية، وتمشيَّاً مع قاعدة الحلقة الدراسيَّة غير المكتوبة كنت أتكلّم معها باللغة الإنجليزيَّة. كانت لديّ القدرة علي الحديث مع هذه الكاتبة الفرنسيَّة باللغة الفرنسيَّة، أيضاً، لكن حقيقة أنّنا كُنّا نتبادل الحديث بالإنجليزيَّة بسلاسة تامّة تتراءي بغاية الأهميَّة في تجديد حالتي المزاجيَّة ذلك الصباح. كنتُ قد وصلت إلي أمريكا منذ خمسين يوماً، وفي ذلك المساء الأول وأنا أمتزج بالزحام في نفس السّاحة ساورني انطباع لا مبالي مشوّش بشأن هذا التنوع العرقي للبشر المحيطين بي. وأحسست كأنّني مستبعد من ذلك النصب الصاخب. بسبب ذلك، وبعد خمسين يوماً فحسب، اندمجت شأن زميلتي الفرنسيَّة فيما أحسست يوماً أنّه صاخب، وكنت استعمل اللغة نفسها مثل المحيطين بي، وكنتُ متواجداً هُناك، دون أي شعور خاص بالاغتراب. علاوة علي ذلك، كُنا نحن الأجنبيان منخرطين في حوار نقدي عن الاتجاهات السياسيَّة لتلك البلاد، وبلغة تلك البلاد.
كنت تكلّمت عن القصف الأمريكي لفيتنام الشماليَّة، وقلت إنّه عُرِف عن الجنرال ليماي أنّه القوة الرائدة الدّافعة للسياسات المتشددة داخل هيئة الأركان المشتركة، وأنّه يُقال أنّ الجنرال ليماي كان الشخص المسئول في الحقيقة عن وضع خطة إسقاط القنبلتين الذريتين علي هيروشيما وناجازاكي، كما كان نفس الشّخص الّذي تلقّي وسام الاستحقاق من الدّرجة الأولي ووشاح الشّمس المشرقة الأرفع من الحكومة اليابانيَّة عن إسهامه في توسيع قوات الدفاع الذّاتي اليابانيَّة. لقد قرأت عن هذا الجنرال بعدها بشهور أنّه صرّح بجديَّة شديدة أنّ الأمريكيين يمكنهم إنجاز سمهمتناز باستخدام القوّات الجوية أفضل من استخدامهم القوّات الأرضيَّة. يعني سبمهمتناز: فيتنام الشمالية، استسلم وإلا سنحرق بلادك. يقول الصحفي المتمرِّس ايزيدور ستونْ: يكشف الجنرال ليماي أنّه علي مدي ثلاث سنوات- منذُ عام 1962- كان يدفع داخل هيئة الأركان المشتركة إلي أنّ الطريق لإنهاء الحرب في فيتنام كانت بتبصيرهم أنّنا "سنقصفهم في Stone Age". هذه واحدة من عباراته المفضلة، ذلك أنّها استعارة تُشير إلي الأيام التي كانت فيها للقوّة الغاشمة اليدّ العليا. لقد قلّدت حكومتنا رجلاً مثل هذا وساماً. لقد كتبت مرّة بشأن قِلّة العقل هذه، وقلت إنّها أرض بوار أخلاقي، وأنّ ما جري خيانة للبشر في هيروشيما. مع ذلك، أنا الآخر، لم أتماد كثيراً كي أدرك أنّ كلمات المديح التي تُكال لهذا الجنرال والأوسمة التي تقلدها ألقت بأثرها في تشجيع ليماي نفسيَّاً، بلي، ومنحه الثقة علي قصف فيتنام الشماليَّة. إنّنا حين نُفكِّر في ذلك، نُفكِّر في صبّ قنابل النابلم فوق فيتنام الشماليَّة لحرق البشر، بدلاً من أن يحتفظ الجنرال ليماي في مؤخّرة دماغه بصور الجثث المريعة ومعاناة الأحياء، لن تراوده إلا ذكريات وسام الاستحقاق من الطبقة الأولي ووشاح الشّمس المشرقة الرفيع. ألم يكن أحري بنا نحن اليابانيين أن نضع نصب أعيننا حقيقة العلاقة التآمرية الماضية علي قدم وساق فعلاً في اللحظة الراهنة في اتجاه حادث أفظع؟
حين تكلّمت أنا والكاتبة الفرنسيَّة عن دور الجنرال ليماي في الحاضر والأمس، أطلعتني أنّه منذ أيام قليلة خلت، أثناء الذكري العشرين علي إلقاء قنبلة ذرّية علي هيروشيما غنّي مُقدِّم اسطوانات مُسجلة في محطّة إذاعية محليَّة هُنا: سعيد ميلاد سعيد، ذكري هيروشيما!ز وقد طُرد علي الفور. فسألتها: هل سمعت هذا البثّ بنفسك أم قرأت عنه في صحيفة؟ حينئذٍ مرّ أربعة من الشباب الأمريكيين داخل سيارة فولكسفاجن أنزلوا سقفها ( مثل حذاء غائر يمكنه حمل بشر) مارقين لا تفصلنا عنهم إلا بوصات قليلة، وكل منهم يصرخ بكلمات استهزاء لنا. كانت الكلمات التي تمكّنت من استيعابها، "مرحي، هل تعلّمتم الدّرس؟" والعبارة التي كنت اعتبرها اندثرت، "أيها الخطر الأصفر". كذلك نالت صديقتي نصيبها من السخرية، مع أنّ ما قيل يخالف الحقيقة، جرّاء مضاجعتها عِرقاً أصفر.

لقد أفضت بي هذه التجربة الصباحيَّة في كامبريدج صوب اتجاهين. كتابين بالأحري، وبدرجة أكبر صوب الكتاب الأخير، إذْ لابد لي ألا أجرِّب طويلاً كي أفكِّر بوضوح بشأن كتاب واحد بوصفه لُحْمَة تتصل بتصوري الجوهري الأوسع لأمريكا.
الكتاب الأول هو ما أطلقت عليه السترداي ريفيو: رواية قصيرة عن الاحتجاج العرقي المثير الّذي يُشبه صرخة في قلب الظلام. وهي الرواية التي نشرها الكاتب الأسود شيستر هايمز في العام الّذي انتهت فيه الحرب: لو أنّ صراخه يعتقه. كانت فقرة واحدة هي ما أثارتني بشكل خاص. ثمّة شاب أسود. تبدأ الحرب ويعمل في ترسانة سفن. يُحبّ الشّاب ابنة أحد السود الأثرياء ويخطط للذهاب إلي الجامعة حين تنتهي الحرب. لكن بدءا من لحظة ما، ينتهي به الحال وقد آل إلي مُجرّد رجل مذعور بكل ما تعنيه الكلمة. أو يصل إلي رؤية نفسه بوصفه رجلاً قضي حياته بأكملها مذعوراً. وهكذا يُقبل الشّاب الأسود علي تكرار سلوك واضح اليأس، فيُلاحق بوصفه جانياً في محاولة اغتصاب عبر التحايل علي عاملة بيضاء، ليتم إرساله إلي الجيش في نهاية المطاف: هكذا الحكاية. لِم انتهي الحال بالشاب مذعوراً جِدّاً، وكيف أدرك أنّه كان مُجرّد إنسان قضي حياته كلها مذعوراً؟
حين بدأت الحرب رأي الشّاب اليابانيين في لوس أنجلوس يُرسلون إلي معسكرات. سربّما بدأ الأمر حينئذٍ، لستُ واثقاً، أو ربّما لم أنتبه إليه حتّي رأيتهم يُبعدون اليابانيين. ريكي أويانا يُغنّي صليبارك الله أمريكاش ويُرسل إلي سانتا أنيتا برفقة والديه في اليوم التالي. كان الأمر علي شاكلة اقتلاع رجل تبعاً لأصوله والزجّ به إلي المحبس دون أي فرصة. دون مُحاكمة. دون اتهام. دون حتّي منحه الفرصة لنطق كلمة واحدة. كنتُ أفكِّر في احتمال وقوع هذا الأمر معي، أنا روبرت جونز، ابن السيدة جونز الأسود، وبدأت هذه الفكرة تصيبني بالفزعز
وهكذا، ذلك الصباح في كامبريدج، كنت أعيّن هويتي بهذين، الياباني الأمريكي الّذي يُرسل إلي مُعسكر اعتقال والشّاب الأسود الّذي بدأ ينتابه الفزع جرّاء هواجس تتعلّق بمصير مماثل. طبعاً، لم أتعرض للاقتلاع بسبب أصولي، لكن علي مدي خمسين يوماً سبقت هذا الصباح، منذُ وصولي إلي أمريكا، لم ينتابني الفزع لحظة واحدة، ولا نظرت لنفسي عبر المرآة الكاريكاتوريَّة للفرد الأمريكي، ولا خطر لي أنّ الياباني يُمكن أن يُعاني داخل أمريكا. حين كنتُ أشاهد التلفاز برفقة زملاء الحلقة الدراسية داخل القاعة العامّة في السّكن الجامعي، وحتّي حين ظهر ياباني في شكل ساخر تقريباً علي الشّاشة، لم يُعر أحد انتباهه لي، ولا أنا أوليت اهتماماً بالأمر. بمعني آخر، علي مدي قرابة خمسين يوماً، خامرني وهم الذوبان داخل المجتمع الأمريكي مثل مذيب بلا لون. لكن تجربتي ذلك الصباح (وكي أكون عادلاً، كانت التجربة الوحيدة من ذلك النوع التي وقعت لي خلال فترة إقامتي بأمريكا التي امتدت أربعة أشهر) وفّرت لي، علي الأقل في عالم وعيي، فرصة لتصوّر المثول أمام أمريكيين ينظرون لي بأكثر النوايا الكاريكاتورية حِدّة، فرصة للتأمل.
الآن، جاء دور الكتاب الآخر الّذي، مدفوعاً بتجربة ذلك الصباح، بدأت أفكِّر فيه من جديد، "مُغامرات هكلبري فِن"، الّذي جعل جيب بنطلوني الصيفي ينتفخ آنذاك. تلك اللحظة، لحظة تواجد "مغامرات هكلبري فِن" داخل جيب بنطلوني، ممثلاً ثقلاً حقيقيَّاً، كانت تطعن بشكل رأسي في أعماق وعيي. بالنسبة لي، كانت "مغامرات هكلبري فِن" الكتاب الوحيد الّذي كتبه مؤلِّف أمريكي وأحببت قراءته قبل وبعد تجربة الصيف، وإلي ما قبل تلك اللحظة عشرين عاماً، لكن حتّي ذلك الحين لم يطرأ لي أنّه يحمل أي دلالة خاصّة، ولا فكّرت في سبب تنحيته جانباً عن عقدتي المركبة جِدّاً تجاه أمريكا خلال المدة التي تلت أو سبقت هذا الصيف بعشرين عاماً. لقد قررت أن أري، أن أتحقق مرّة أخري مِن صورة الإنسان التي لا تزال "مغامرات هكلبري فِن" تمنحها لي. لِمَ، بالنسبة لي، مَثَّل هكلبري فِن شخصاً مُغايراً عن الأمريكي العادي؟ أليس هكلبري فِن البطل الأكثر شعبيَّة بالنسبة للصبيان، في أمريكا الآن أيضاً؟ وكذلك، ألم أعثر، في كثير من الأحيان، بين أبطال كُتّاب أدب أمريكا مابعد الحرب علي مَن لابد شبّ علي قراءة هكلبري فن، ورثة هكلبري فن؟ في مغامرات أوجي مارش، في حديقة الغزلان، في مِن هُنا وإلي الأبد، وغيرها مِن الكُتب. في وسط الحرب، تفادت "مغامرات هكلبري فن" شبكة العداء والكراهية والاحتقار والخوف من كل ما هو أمريكي، ووصلت لي. وسرعان ما صار هكلبري أول بطل أحصل عليه من خلال الأدب. لا أستطيع تذكّر شخص المتبرِّع الّذي أعطاني طبعة أوانامي الشعبيَّة من المغامرات التي ترجمها ناكامورا تاميجي، لكن حين أفكِّر في أنّه كان المرحوم أبي، كنت أتمكّن من خلق أبهي صورة ممكنة لذكراه.
بالنسبة لحكاية هكلبري، أضاف قائد سلاح المدفعيَّة بالفوج الأول للمشاة، رويال جاردْ، انجلترا، تحذيراً بناءً علي أمر المؤلف: "من يحاولون البحث عن دافع في هذه الرواية، ستتم مقاضاتهم؛ ومن يحاولون البحث عن درس أخلاقي، سيتم نفيه؛ ومن يحاولون البحث عن حبكة سوف يطلق الرصاص عليهم."
وهكذا، لم أعد شغوفاً بالدافع ولا بالدرس الأخلاقي ولا بالحبكة، بل بصورة واحدة. كانت صورة فاتنة بصورة مُرعبة لهكلبري فن متجهاً إلي الجحيم. كان عاديَّاً بالنسبة لطفل في وقت الحرب التفكير بدرجة أكبر في الموت أكثر من نده زمن السلم. كان المعلم في مدرستنا الوطنيَّة يختبرنا غالباً هكذا: تعال وقل لي، لو أنّ جلالة الإمبراطور أمرك أن تموت، ماذا ستفعل؟ وكانت الإجابة المنتظرة هي، سأموت يا سيدي. سأنزع أحشائي وأموت. طبعاً، كنت واثقاً بطريقة ما أنّ جلالة الإمبراطور لن يقطع الطريق الطويل إلي قرية عادية تقع داخل وادٍ كهذا بحثاً عنّي، أنا الكائن القذر الصغير، لكن تكرار هذه الأكذوبة المهيبة بشأن الموت كثيراً، جعلني أبدو أكثر ارتباطاً بكلمة جحيم.

عقب استكشافه المغارة برفقة طوم سوير (هو الآخر بطل فريد، علي أنّي لم أنجذب إليه أبداً بأي حال)، تبنت هكلبري أرملة مهذّبة حازمة، انتزعته من حياته غير المستقرة. لكن تلك الحياة كانت تعذِّب هكلبري بصورة مُريعة. "لقد حاولت شقيقة الأرملة تعليمه. بعدها أطلعتني كل شيء عن البقعة الشريرة، فقلت ليتني كنت هُناك. أصابها الجنون، آنئذٍ، لكنني لم أكن أقصد إيذاءها. كل ما أردته كان الذهاب إلي مكان ما، كل ما أردته كان التغيير، لم أعن شيئاً بالتحديد".
في النهاية، انطلق هكلبري في رحلة برفقة العبد الأسود جيم علي متن طوف سبح بهما فوق نهر المسيسبي. جيم نفسه يجيء مصحوباً بإشكاليَّة عميقة، وينتهي الحال بهكلبري يواجه جحيمه الخاص.
قال جيم إنّ وجوده قريباً من الحريَّة يصيبه برعدة وحُمّي. طيب، أستطيع أنْ أقول لك أنّ سماعه أصابني برعدة وحُمّي أنا الآخر؛ لأنّني بدأت أعي أنّه كان أكثر حرية- ومن يُلام علي ذلك؟ عجباً، إنّه أنا. عجزت عن طرد تلك الفكرة بعيداً عن تفكيري، دون جدوي. راحت تلك الفكرة تزعجني فلم أهنأ، لم أتمكّن من البقاء هادئاً في مكان. لم تخطر لي علي بال من قبل أبداً، تُري ماذا كنت أفعل. لكن الآن جاءت الفكرة وبقيت معي وراحت تضطرم بداخلي أكثر فأكثر. حاولت أن أقول لنفسي أنّني لست المسئول، لأنّني لم أجعله يفر من مالكه الشرعي، لكن دون فائدة.
انتشر النبأ، أنّ هكلبري فن ساعد زنجيَّاً علي الحصول علي حريته، ولو قُدِّر لي يوماً أن أري أحداً من تلك البلدة مرّة أخري، سأكون مستعداً للركوع ولعق حذائه خجلاً. هكذا الحال بالضبط: شخص يرتكب فعلاً دنيئاً، ومن ثمّ لا يرغب في تحمل أي عواقب لصنيعه. يُفكِّر أنّه بقدر ما يستطيع إخفاء ما فعل، لن يلحق به الخزي. كان هذا هو الحل الّذي توصّلت إليه بالضبط. كلّما طال تأمّلي بهذا الشأن، ازداد عذاب ضميري وإحساسي بصنيعي الوضيع اللعين. وفي النهاية، لما خطر لي فجأة أنّه هاهنا يدّ العناية الإلهيَّة تصفعني علي وجهي وتعرّفني أنّ جرمي كان مشهوداً طيلة الوقت مِن فوق هناك في الأعالي، في حين كنت أسرق زنجي امرأة عجوز فقيرة لم تؤذني أبداً، والآن يكشف لي أنّه ثمّة من يسهر دائماً يُراقب، وأنّه لن يسمح بوقوع مثل هذه الأفعال الشقيَّة مرّة أخري، أسقط في يدي وأصابني الفزع.
بعد هذه الأفكار المزعجة، يتعيَّن علي هكلبري الّذي يكتب رسالة في الخفاء يقول فيها للمالك الشرعي أنّ رجلاً أبيض تصادف أن أسر جيم، اتخاذ القرار النهائي سواء بإرسال الرسالة أم لا."كان مكاناً قريباً. حملت الرسالة معي، وأمسكتها في يدي. كنت أرتعد؛ لأنّني كنت مضطراً لاتخاذ قرار يفصل بين أمرين، إلي الأبد، وقد عرفته. تأملت الفكرة قليلاً، وحبست أنفاسي، بعدها قلت لنفسي: لا بأس إذن، سأذهب إلي الجحيم".
كانت أفكاراً شنيعة، وكلمات مرعبة، لكنها قيلت. وقد سمحت لها أن تظلّ تُقال، دون أن أفكِّر علي الإطلاق في تهذيبها. أقصيت الأمر برمته بعيداً عن رأسي، وقلت إنّني سأستأنف خِسّتي مِن جديد، والتي كانت تعني فيما يخصّني، التطرق للحكاية وللاشيء الآخر. وكبداية، سأعمل وأسرق جيم من العبوديَّة ثانية، ولو كان بإمكاني تلفيق ما هو أسوأ، سألفِّقه أيضاً؛ لأنّني بقدر ما كنت متورطاً في الأمر، ومتورطاً لما هو صالح، فإنّني قد أمضي به لأخر مدي.
بالمقارنة بطوم سوير المنتمي للنظام الاجتماعي، فإنّ هكلبري فن اللامنتمي لهذا المجتمع، يختار الجحيم كَرْمَي له. وأثناء ذلك، لابد أنّ هكلبري قد أفسح مجالاً لجانبنا، نحن الأطفال اليابانيين، كي نراقبه بوصفه بطلاً حُرّاً غير لصيق بأمريكا، بأي مِن المراحل التي حاقت بها المخاوف أو الكراهية لأمريكا، أو الاعتماد الكامل عليها. علاوة علي ذلك، الآن، فكّرت أنّني اكتشفت مراراً في ثقافة أمريكا الراهنة شيئاً يُحاكي موقفاً إزاء طبيعة حفرت الخرافات أثرها عليها بعمق، اقتداءً بالوثبة الإنطوائيَّة التي حققها هكلبري في عصر الغابات والأنهار الكُبري. من نافل القول، أنّني لا أزعم هذا داخل التصور الشّكلي للبشر، جرياً علي صرعة جيل ال Beat. ذلك أنّ هذا لا يتعلّق باللهو السطحي في إيجاد ورثة لهكلبري بين الهيبيين ودعوة كل من عداهم أمريكيين عاديين. بل، حسب انطباعاتي الواسعة الواضحة رُبّما أطلق عليه كلاسيكيَّاً، أحسّ ذلك، في أمريكا الراهنة، مثلاً بالحي الخامس، في نيويورك، وجود الأمريكيين مع قلوبهم الفقيرة يصغون إلي نداءات البوم ونباح الكلاب في أعماق الغابات. أعتقد أنّني سأفكِّر بشأن ذلك مرّة أخري باعتبار الأمريكيين، سلالة من أطلق عليهم أوسكار هاندلن (المجتثّين)، قادرين علي التواجد داخل غابة الحضارة الهائلة فائقة الحداثة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.