في ذكري رحيل صديقي الكبير خيري شلبي،قامت أسرته بجهد أسطوري من أجل إحياء ذكراه، والحقيقة أن ذكراه لن تغيب، فأعماله لن ينال منها الزمن،لكن وفاء أسرته ومحبتها له هي ما أود الإشارة له ،فزوجته السيدة الفاضلة فوزية السنهوري غيّرت صورتها علي الفيسبوك واستبدلتها بصورة خيري، وقام أبناؤه ريم وزين وإيمان بجهد ضخم يستحقون عليه التحية. تربطني بخيري صداقة وطيدة وممتدة ،وكنت قد كتبت عنها في أكثر من مكان،ولم تكن صداقتنا مقصورة علي شخصينا وكثيرا ما استضافتني السيدة الفاضلة زوجته في بيتها منذ سنوات طويلة ،وتعرّفت علي أبنائه منذ طفولتهم ،كما تعارفت أسرته وأسرتي، وفي هذه المساحة الصغيرة لا يمكن بالطبع إلا الإشارة لتفاصيل قليلة جدا من علاقة محبة وتأثير منه وأفضال لعبت دورا في علاقتي بالكتابة . ربما لا أكون متأثرا علي نحو مباشر بالعالم المترامي الذي اقتحمه خيري في أعماله الروائية والقصصية الغزيرة ،عن القرية والمدن الإقليمية الصغيرة والقاهرة،أو بطرائقه وأساليبه وتكنيكاته وتناوله الفني ومعماره الذي ابتدعه، لكن علاقتنا الشخصية وتصعلكنا اليومي تقريبا في كثير من أحياء القاهرة وخصوصا الجمالية وحي قايتباي ومقابر صحراء المماليك، كل هذا أثرّ في علي نحو بالغ الأهمية . سوف أشير فقط إلي ما كنت شاهدا عليه من هذا الكدح ثم المزيد من الكدح الذي لا يعرف الراحة مطلقا ،في تلك السنوات التي زادت عن خمسة عشر عاما،وشهدت تنقله بين عدد من المقاهي في "قايتباي"وانتهت باستقراره في قهوة ابراهيم الغول المطلّة علي جامع قايتباي مباشرة ،حيث لم يتمتع خيري بمحبة واحترام الحي بكامله تقريبا فهو الأستاذ بلام التعريف ،بل نال أيضا امتياز منضدة رخامية خاصة للكتابة والقراءة لا أحد يستخدمها سواه ،وحتي في عدم وجوده. شاهدت بنفسي البرنامج اليومي ،أكرر اليومي لخيري في الصيف والشتاء علي السواء، فبعد مروره أولا علي مجلة الإذاعة أو علي مبني ماسبيرو،يحمل حقيبته ويستقل سيارته الخنفساء حول الساعة الرابعة عصرا إلي مدينة الراحلين،ويقضي الساعات الباقية حتي الرابعة من فجر اليوم التالي ليقرأ ويكتب ويقرأ ويكتب ،وربما استقبل عددا محدودا من أصدقائه من المشتغلين بالكتابة أو التمثيل ،ناهيك عن أصدقائه من أبناء الحي وفي مقدمتهم الراحل الأجلّ عم احمد السماك (وكان لي شرف محبته الخصوصية،بل وتمتعت بقراءة عدد من أجمل أعماله وأحبها لي ورقة بعد ورقة ،أي أنني كنت أجلس بجواره وهو يكتب بقلمه الأبنوس وحروفه النسخ المرسومة وكالة عطية أو موال البيات والنوم أو أسباب للكي بالنار،وما أن ينتهي من الصفحة ،يناولها لي، ليكتب الصفحة التالية ). أما حقيبته التي كانت لا تفارقه ،فقد كان يفتحها ،ويخرج الكتب ويرصها علي المنضدة بجواره .وكان من الطبيعي أن يجد الواحد مثلا مجلد رسائل الجاحظ مثلا تحقيق هارون طبعا أو كتابل للشيخ شاكر ، وبجواره كتابا لابن عربي أو علي مبارك ،جنبا إلي جنب كتاب لجويتسولو أو ترجمة خالدة سعيد لإحدي روايات ترومان كابوت أو ديوانا لأدونيس. وهكذا ويوميا يتكرر هذا الكدح اليومي ولا يتغير إلا الكتب التي يخرجها خيري ويرصها بجواره باستمتاع ومزاج..ذلكم خيري شلبي.