في منتصف التسعينيات، قابلته عند باب القاعة الرئيسية المجهزه للقاء حسني مبارك مع الكتاب والمثقفين علي هامش معرض الكتاب، وما إن دخلنا سويًا حتي استوقفه أحد أفراد ' أمن الرئاسة ' بعد أن أصدر جهاز الفحص إنذارًا إثر عبور حفيدته الصغيرة، سأله الرجل بابتسامة ثلجية : ' حضرتك معاك إيه في الشنطة دي؟ ارتبك عمنا خيري شلبي وقال بتلقائية : متعلقات شخصية رد الرجل قائلا : حضرتك حاتنتظر معانا شوية ' والتفت إلي بابتسامته الباهتة قائلاً : ' حضرتك اتفضل ' ، ودخلت، وظل عمنا خيري شلبي واقفًا بجوارهم، ومن بعيد راقبت المشهد .. جاء خبير وفتح الحقيبة بعناية، ومررها علي جهاز صغير وأخرج منها ' قلما ضخمًا ' كان عمنا خيري يتباهي بأنه نسخة من مائة نسخة نادرة أنتجتها الشركة للدعاية لكن ' القلم العجيب ' أثار ريبة وشكوك رجال أمن مبارك ففككوه قطعة قطعة ليتأكدوا أنه ' قلم ' وليس جسمًا مفخخًا معدًا لاغتيال ' السيد الرئيس '!! وبعد أن اطمأنوا أنه ' قلم ' أعادوه مفككًا لعم خيري معتذرين !!! هنا تأمل خيري شلبي قلمه الممزق .. وتساءل بهدوء : ' ممكن أروح؟ !' رد عليه السيد المسئول بنفس الابتسامة الثلجية وبشكل قاطع : ' طبعًا لأ .. اتفضل ادخل '.. ودخل خيري شلبي إلي القاعة ' منزوع الروح ' يلهث وما أن جلس، حتي قال لي هامسًا : ' وربنا لأنتقم منهم وبنفس القلم ' وظل صامتًا طوال اللقاء .. بعد شهرين تقريبًا اتصل بي قائلاً : اشتري مجلة العربي واقرأ قصتي الإنتقامية، وما إن قرأت القصة حتي انفجرت ضاحكًا .. وهاتفته فورًا، قلت بسخرية : يا عمنا الجماعة إياهم عندهم حق .. ده قلمك طلع مفخخ فعلاً !! رد ضاحكًا : ' لأ ده مدفع رشاش '!! قرأت القصة مرة ثانية لأكتشف أنها من أبدع ما كتب خيري شلبي فلقد أعاد رواية الحكاية كما حدثت وكما رأيتها ولكن من زاوية مشاعره وعينه الساخرة، خاصة ذلك المشهد الذي يرصد فيه تأمل الكاتب لقلمه وهو يتفكك في أيدي ' جلاوزة النظام ' ومشاعره المتأرجحة بين الشك والغضب، راصدًا شعوره بالرعب لدرجة أنه يشك فجأة أن القلم قد يكون مفخخًا دون أن يعلم، وإلا فلماذا رصده الجهاز الدقيق؟ ! قصة بديعة كتبها، بحرقة وغضب بقلمه المفخخ ليفضح غباء المؤسسة وغلاظتها الوقحة التي تدهس قلوب الناس، فجرسهم وسخر من غبائهم تمامًا كما كان يفعل الراوي الشعبي عبر أجيال وأجيال هذا الراوي الشعبي الحكاء الساخر هو الجد الأعلي لخيري شلبي المبدع الذي استلهم منه أسلوبه المتفرد في السرد الروائي ذلك الذي يتشعب إلي حكايات صغيره تتوالد وتتوالد لتتجمع مرة أخري ناسجة عوالم رواياته وبناءها الفني غائصًا في مجتمعه متجولاً بين الأزقة والحارات والقري والكفور التي منها جاء وإليها ينتمي وفيها عاش حياة الضنك والفقر متنقلاً بين المهن الصغيرة باحثًا عن قوت يومه وهي المهن التي لم يخجل منها يومًا، لآن الشريف لا يخجل من ' الكدح '... ولقد أتاحت له هذه المهن أن ينهل من فنون وأصالة وحضارة هذا الشعب ليجسد فيما بعد في كتابته ملامح البسطاء وروحهم فإنه رسام ماهر يصور تفاصيل الوجدان فتتجسد أمام أعين القراء وكأنها تماثيل صرحية عملاقة .. وراح بكلمة ' المفخخ ' المشتبه به من قبل السلطات يرسم ملامح أحلام وآلام وإحباطات الناس ومسراتهم وخطاياهم الصغيرة ببراعة وعشق ورغم إبداعه المتعدد والغزير ظل وفيًا للتراث الشعبي فأسس سلسلة من أهم سلاسل هيئة قصور الثقافة نشر فيها عيون الإبداع التراثي الشفهي والبصري ليحافظ علي ذاكرة الشعب من الاندثار ليكون مكتبة ضخمة في كل بيت تضم إبداع هذا الشعب العبقري .. وظل حتي آخر لحظة يكتب ويكتب وينثر الحلم والجمال والهوية دون النظر إلي المقابل المادي، فالطيور البرية لا تعرف غير الغناء ولم يعرف قلمه المفخخ يومًا غير تفجير طاقات الأمل والحلم في صدور البسطاء .