لم يكن الراحل خيري شلبي مجرد صديق أو زميل رحلة شاقة، كان اكثر من ذلك بكثير، كان جزءا مني، لذلك لم اشعر بالحزن تجاه رحيله، بل بالفقدان، فكرت كثيرا، طوال الاسابيع الثلاثة الماضية ومنذ تلقيت خبر وفاته، في الكتابة عنه، وعن رحلتنا معا، خصوصا خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، لكن هذا الاحساس العارم بالفقدان حال بيني وبين تأمل تلك الرحلة. وبعد ان هدأت آثار الصدمة التي هزتني بسبب رحيله المفاجيء، فقد التقينا قبل رحيله بأربعة ايام، وقبلها التقينا في الاسكندرية قبل الثورة وقضينا يومين معا.. بعد ان هدأت آثار الصدمة، استطيع ان اؤكد ان خيري شلبي انجز الكثير، ونجح في قهر الظروف المحيطة به، واخذ نفسه بالشدة، ولم يغمض عينيه لحظة عن ضرورة واهمية ان يكون كاتبا، وحكاء، واهمية ان يضيف صفحة الي سجل الرواية العربية. اكاد اقول ان الحزن لا يليق بمحبي خيري شلبي، فقد انجز الكثير مما سيبقي، ورحل وهو في قمة حيويته، ونشاطه، عاش كما احب ان يعيش مخلصا للكتابة وحدها، لا يليق بمحبي خيري ذرف الدموع بسبب رحيله، بل تأمل تجربته وحفظ تراثه والدفاع عنه، والحقيقة ان خيري كان راضيا الي هذا الحد او ذاك عن نفسه، وعما حققه، لذلك لم اندهش عندما قرأت ما كتبه ابنه الصديق زين خيري واشار الي ان خيري مات مبتسما، مات وملامح الابتسام وهدوء السريرة علي وجهه. وعلي الرغم من فارق السن بينه وبيني، الا ان احدا منا لم يشعر بهذا الفارق، منذ تعرفت عليه عام 8691 او 9691 علي الاكثر، اظن انه احتضنني وشملني بصداقة نادرة، وقد بلغ به الاطمئنان الي، انه كان ينخرط في الكتابة، ونحن جالسان علي المقهي الذي اهتدي اليه في منطقة قايتباي، مقهي المعلم الراحل ابراهيم الغول، وامسي مستقره ومكتبه ودنياه، بل كان يناولني الورقة التي ينتهي من كتابتها ويشرع في كتابة الورقة التالية. لم يكن الطريق امام خيري لينجز ما انجزه، مفروشا بالورود، لكن هذا الاصرار الاسطوري والنحت في الصخر والاستمرار في الكتابة لسنوات وسنوات دون ان يشعر به احد، هو القيمة الكبري التي سبقي منه للاجيال القادمة، ولولا العزلة الاختيارية التي حافظ عليها بإصرار، ودافع عنها ما يقرب من عشرين عاما متواصلة في منطقة المقابر، لما انجز ما انجزه. هذا رجل علم نفسه ورباها وعمل في كل المهن وعاش علي الحافة دائما، عاش بالطول والعرض وغالب الدنيا وغلبها بانجازه الروائي الذي شمل القرية والمدينة، الا ان اثمن ما فعله هو الحياة التي عاشها، والاصرار علي منازلة القهر نفسه، بل وقهره في نهاية الامر. ومنذ عرفته ونحن مختلفان في اغلب آرائنا ومواقفنا السياسية، وعلي الرغم من المشادات و»التلقيح« في كل مرة نتحدث في السياسة، الا ان ما يربط بيننا كان اكبر من ان يناله الوهن او الكدر، ولاسباب مختلفة لا محل لها الآن، تفرقت بيننا السبل ومع ذلك ظل ما يربط بيننا قويا. لخيري افضال في عنقي، وليس فضلا واحدا، فقد فتح امامي الطريق لقراءة اعمال مؤرخي العصور الوسطي، كما انه واحد من اهم العارفين بحواري وعطوف القاهرة القديمة التي قطعناها معا طولا وعرضا، اما الهوامش والعشوائيات فهو احد اساتذة العارفين بتفاصيلها، وفتح امامي الطريق ايضا نحو قراءة السير الشعبية وتذوقها. لم يكن خيري يجمع فقط بين المعرفة الدقيقة المتذوقة بالتراث، انما كان ذواقة ايضا للاعمال المعاصرة سواء المكتوبة بالعربية او المترجمة، وفوق هذا وذاك كان يحفظ ما يشكل مكتبة بلا اي مبالغة لشعراء عامية مجهولين، الي جانب المعروفين وفي مقدمتهم فؤاد حداد، واظن مثلا ان ما كتبه عن شعر عبدالرحمن الابنودي يعد درسا في الكتابة والمحبة معا. في مقهي المعلم الراحل ابراهيم الغول في قايتباي، في مدينة الاموات، كانت هناك شجرة صغيرة علي الرصيف، اعتاد خيري ان يستظل بها، وخصوصا في ايام القيظ، ويعكف علي قراءة متواصلة »كان يحمل معه دائما حقيبة هي في حقيقة الامر مكتبة كاملة، وتضم من بين ما تضم عددا من الاجندات التي يحلو له الكتابة في صحفاتها بقلم حبر من الانواع الفاخرة«، واهل الحي وردواد المقهي امسوا حريصين علي راحته ويتيحون له الفرصة للقراءة والكتابة المتواصلة، فهو واحد منهم، ويعرفون جيدا متي يبتعدون عنه!. ذلكم خيري شلبي الذي غادرنا بعد ان انجز ما انجزه، اما أنا فأشعر بالفقدان، وليس مجرد الحزن.